• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

العيش معاً أم الحياة فرادى؟

ريتشارد إي. نيسبت

العيش معاً أم الحياة فرادى؟

يؤمن غالبية الغربيين، أو لنقل غالبية الأمريكيين بأنّ التعميمات التالية تصدق تقريباً على كلّ فرد:

·         كلّ فرد يتصف بمجموعة من الصفات المتمايزة والمميزة له. وأكثر من هذا يريد الناس أن يكونوا متمايزين ـ أي مختلفين - عن الآخرين من نواح مهمة.

·         الناس متحكمون إلى حدّ كبير في سلوكهم؛ يشعرون بأنّهم في حال أفضل حين يكونون في مواقف من شأنها أن تجعل الاختيار والتفضيل الشخصي هما العامل المحدد للنتائج.

·         الناس يتجهون صوب أهداف شخصية تمثل نجاحاً وإنجازاً، ويرون أنّ العلاقات والانتماء عضوياً إلى جماعة ما يتوافقان أحياناً مع نهج المرء لبلوغ هذه الأهداف.

·         يجاهد الناس بغية الإحساس بالرضا عن أنفسهم. وتمثل النجاحات الشخصية والضمانات التي تؤكد هذه الخاصيات الإيجابية عنصراً مهماً لتوليد هذا الإحساس بالرضا والرفاه.

·         يفضل الناس الكيف في حالة العلاقات الشخصية أو يفضلون الوضع الاسمي حين تكون العلاقات تراتبية هرمية.

·         يؤمن الناس بضرورة أن تنطبق القواعد والقوانين نفسها على الجميع. ينبغي عدم استثناء أحد ليلقى معاملة خاصّة بسبب صفات شخصية أو روابط وعلاقات خاصّة تربطه بأشخاص مهمين ذوي حيثية. العدالة عمياء لا تميز بين شخص وآخر.

وهناك في الحقيقة ملايين بهذه الصفات، ولكن نجدهم أساساً في أوروبا وبخاصّة في شمال أوروبا وفي بلدان الكومنولث البريطاني الآن وفي الماضي، بما في ذلك الولايات المتحدة. ويلاحظ أنّ السمات النفسية الاجتماعية المميزة لغالبية المجتمعات الأخرى في العالم، خاصّة مجتمعات شرق آسيا، أميل إلى الاختلاف عن ذلك بدرجة أو بأخرى.

-            الذات غير الغربية

هناك تعبير آسيوي يعكس انحيازاً ثقافياً ضد الفردية: «الخنزير الذي يبعد عن القطيع يُشبع ضرباً». ويسود اعتقاد عام يفيد بأنّ الآسيويين أقل اهتماماً من الغربيين بالأهداف الشخصية أو تعظيم الذات، لكن الاهتمام ينصب غالباً على أهداف الجماعة والعمل المتآزر. كذلك فإنّ الحفاظ على العلاقات الاجتماعية في تناغم له الأسبقية على إنجاز نجاح شخصي.

والنجاح هدف منشود، باعتباره هدفاً جماعياً، وليس وسام استحقاق شخصي. والتميز الفردي ليس مستصوباً في ذاته. والملاحظ عند الآسيويين أنّ الشعور بالرضا عن النفس مقترن ـ على الأرجح ـ بالشعور بأنّهم في تناغم مع رغبات وأماني الجماعة التي ينتمون إليها ووفائهم بكلّ ما تتوقعه الجماعة منهم. أما المساواة في المعاملة فليست مفترضة ولا ينظرون إليها كشيء مستصوب بالضرورة.

ومن المسلّم به أنّ القواعد التي تنطبق على العلاقات في شرق آسيا هي قواعد محلية خاصّة، ومحددة جيِّداً على أساس الدور المنوط بها وليست قواعد كلية. قال لي صديق آسيوي إنّ أهم شيء لحظه عند زيارته للأُسر الأمريكية هو أنّ كلّ فرد حريص دائماً على توجيه الشكر لكلّ فرد آخر: «شكراً لإعدادك المائدة»؛ «شكراً لك إذ غسلت السيارة». ولكن في بلده كلّ امرئ عليه التزام واضح في سياق محدد، ولا حاجة بك لأن تقدم شكراً على أداء الواجب. والاختيار ليس أولوية قصوى عند غالبية شعوب العالم.

سألني ذات يوم صديق من شرق آسيا لماذا يرى الأمريكيون ضرورة في أن يحددوا اختيارهم من بين أربعين نوعاً من حبوب طعام الإفطار في السوق المجمعة «السوبر ماركت». ويتسق هذا مع ما يشعر به الآسيوي من أنّه غير أهل ليكون صاحب قرار عندما يكون لزاماً عليه أن يختار.

إنّ غالبية الأمريكيين ممن تجاوز عمرهم سناً معيناً يتذكّرون كتاب «تعلّم القراءة» في الطفولة وعنوانه «ديك وجين». كان ديك وجين وكلبهما سبوت عناصر فردية نشطة. نطالع الصفحة الأولى من الطبعات الأولى في ثلاثينيات القرن العشرين (هذا الكتاب لتعلّم القراءة ظل مستخدماً على نطاق واسع حتى ستينيات القرن العشرين) فنجد هذه الصفحة تصوّر صبياً صغيراً يجري وسط المروج. وتقول العبارة الأولى: «انظر ديك يجري. انظر ديك يلعب. انظر ديك يجري ويلعب». ويبدو أنّ هذا نوع طبيعي جيِّد لتقديم المعلومات الأساسية عن الأطفال ـ وفقاً للذهنية الغربية ـ ، ولكن الصفحة الأولى من الكتاب الأوّل الصيني لتعليم القراءة خلال الحقبة نفسها يوضح صبياً صغيراً جالساً على كتفي ولد أكبر. «الأخ الأكبر يعتني بالأخ الأصغر. الأخ الكبير يحبّ الأخ الصغير. الأخ الصغير يحب الأخ الكبير». هاهنا لا نجد سلوكاً فردياً بل علاقات بين الناس، وهي الشيء المهم نقله للطفل في أوّل عهده مع الكلمة المطبوعة.

والحقيقة أنّ الذات بالأسلوب الغربي تبدو في نظر الآسيوي الشرقي ضرباً من نسج الخيال. ويقول في هذا الصدد الفيلسوف هو شيه: «في الفلسفة الكونفوشية التي تتخذ الإنسان محوراً لها، لا يمكن أن يوجد الإنسان وحده؛ ويجب أن تكون جميع الأعمال في صورة تفاعل بين إنسان وإنسان». المرء موجود دائماً داخل أوضاع خاصّة المواقف التي تضم أفراداً أو جماعات بذاتها ممن يرتبط بهم المرء بعلاقات من نوع محدد وأنّ الفكرة التي ترى أن بالإمكان وجود صفات أو أفعال غير مشروطة بظروف وملابسات اجتماعية فكرة غريبة على الذهنية الآسيوية. وقدّم عالم الأنثروبولوجيا إدوارد تي. هول فكرة مجتمعات السياق الأدنى «low-context society»  ومجتمعات السياق الأعلى «high-context societies».

وأراد بذلك أن يمسك بالفوارق في فهم الذات. يرى الغربي أنّ من المعقول لديه أن يتحدّث عن شخص باعتبار أنّ له صفات محددة مستقلة عن الملابسات والظروف أو عن علاقات شخصية محددة. إنّ هذه الذات العنصر الفاعل الحرّ ذا الحدود الملزمة والذي لا يقبل النفاذية، يمكن أن تنتقل من جماعة إلى جماعة ومن وضع إلى آخر من دون أن يطرأ عليها تغير مهم. ولكن المرء من أبناء شرق آسيا (وكذا غالبية الشعوب الأخرى بدرجات متفاوتة) يرى الشخص ملزماً بارتباطات ومحكوماً بشروط وأوضاع وغير معزول بحدود. وعبّر عن هذا الفيلسوف دونالد مونرو إذ قال: «يفهم الآسيويون الشرقيون أنفسهم في ضوء علاقاتهم بالكلّ من مثل الأسرة أو المجتمع أو مبدأ الطاو أو الوعي المحض. يشارك المرء في مجموعة من العلاقات التي تيسر عليه العمل، كما أنّ السلوك المستقل تماماً فهو سلوك غير ممكن ولا حتى مستصوب».

وحيث إنّ كلّ عمل يجري في تضافر واتساق مع الآخرين، أو أنّه على أقل تقدير يؤثر في الآخرين فإنّ التناغم «الهارموني» في العلاقات يغدو هدفاً رئيسياً للحياة الاجتماعية. ويشعر أبناء شرق آسيا أنّهم ساكنون في أعماق جماعاتهم الداخلية وبعيدون عن جماعاتهم الخارجية. وهم أميل إلى الشعور بأنّهم متماثلون للغاية مع أعضاء الجماعة الداخلية، ويولونهم ثقة أكبر كثيراً من ثقتهم بأعضاء الجماعة الخارجية، ويشعر الغربيون أنّهم مقطوعوا الصلة نسبياً بجماعاتهم الداخلية وهم أميل إلى اصطناع تمايزات أساسية وكبيرة تميّز بين الجماعة الداخلية والجماعة الخارجية.

وتوضح بعض الحقائق الإنسانية الهوة النفسية الاجتماعية بين الشرق والغرب. إنّنا لا نجد في اللغة الصينية كلمة للدلالة على «النزعة الفردية». وأقرب كلمة للدلالة عليها كلمة تعني «الأنانية». كذلك فإنّ الرسم الصيني لكلمة جِنْ ـ الخيرية ـ فإنّه يعني رجلين. كذلك كلمة «أنا» في اللغة اليابانية ـ التي تعني الذات المتعدية للموقف، غير المشروطة والعامة الكاملة لجميع صفاتها وأهدافها وقدراتها وأفضلياتها ـ لا تستخدم كثيراً في المحادثات.

ونجد في اللغة اليابانية بدلاً من هذا كلمات كثيرة للدلالة على «أنا» وكلّ منها رهن جمهور المخاطبين ورهن السياق. وإذا حدث أن أدلت امرأة يابانية بحديث رسمي فإنّها عادة ما تستخدم، حسب العرف والتقاليد، كلمة «واتاشي» وهي أقرب كلمة يابانية لكمة «أنا» المتعدية للموقف. وإذا أشار رجل إلى نفسه من حيث علاقته بأصدقاء حميمين فإنّه يقول مثل «بوكو» أو «أور». وعندما يتكلم أب مع طفله فإنّه يقول «أوتوسان» أي أب «Dad». وقد تشير الفتاة إلى نفسها بكنيتها إذا ما كانت تحادث عضواً في الأسرة: «تومو ستذهب إلى المدرسة اليوم». وغالباً ما يسمي اليابانيون أنفسهم «جيبون» وهي كلمة يفيد تحليلها التاريخي إلى أنّها تعني «حصتي أو نصيبي أو قدري».

ونجد في اللغة الكورية عبارة مثل: «هل لك أن تحضر لتناول العشاء؟» تستلزم استخدام كلمات مختلفة للدلالة على «أنت أو المخاطب»، وهو أمر شائع في لغات كثيرة. ولكن أيضاً كلمة العشاء فإنّها تتوقف على نوع من تخاطبه هل تدعو طالباً أم أستاذاً. وتعكس مثل هذه الممارسات ليس فقط، الأدب أو التواضع وإبقاء الذات بعيداً عن الأضواء بل تعكس أيضاً اقتناع أبناء شرق آسيا بأنّ المرء شخص مختلف باختلاف من يتفاعل معهم.

وعبارة «حدّثني عن نفسك» تبدو عبارة مباشرة تماماً وكافية لكي تسأل عن شخص ما. ولكن نوع الإجابة يعتمد إلى حدّ كبير على نوع المجتمع الذي تسأل فيه هذا السؤال. الأمريكيون الشماليون سيحدثونك عن سماتهم الشخصية (ودود، دؤوب في العمل) وعن تصنيفات وصفات الدور (معلم، أعمل في شركة تنتج الشرائح الإلكترونية) وعن الأنشطة (سأذهب إلى معسكر فترة من الزمن).

وهنا نلحظ أنّ الأمريكيين لا يربطون أوصافهم لذواتهم بالسياق إلى حدّ كبير. ولكن الذات الصينية أو اليابانية أو الكورية فإنّها، على العكس من ذلك، تتوقف إلى حدّ كبير على السياق (أنا جاد في عملي، أحب المزاح مع أصدقائي).

وثمة دراسة طلبت من يابانيين وأمريكيين أن يصفوا أنفسهم سواء في سياقات محددة أو من دون تعيين نوع محدد من المواقف. وأوضحت الدراسة أنّ اليابانيين وجدوا أنّ من الصعب عليهم جداً وصف أنفسهم من دون تعيين نوع محدد من المواقف، في العمل، في البيت، مع أصدقاء... إلخ. ولكن الأمريكيين في المقابل غلب عليهم الشعور بالارتباك حين حدد الباحث سياقاً «أنا من أنا». ويلاحظ أنّ أبناء شرق آسيا حين يصفون أنفسهم يشيرون إلى أدوار الاجتماعية (أنا صديق جون) ويهتمون بذلك أكثر من الأمريكيين. وكشفت دراسة أخرى عن اليابانيين ضعف الأمريكيين في نزوعهم ـ عند وصفهم لأنفسهم ـ إلى الإشارة إلى الآخرين (أطهو العشاء مع أختي).

ونذكر أنّ اثنين من علماء علم النفس الاجتماعي وهما هيجونج كيم وهازل ماركوس سألا كوريين وأمريكيين أن يختار كلّ منهم من بين مجموعة موضوعات مصوّرة أي موضوع يفضلونه. اختار الأمريكيون الموضوع الأندر بينما اختار الكوريون الموضوع الأكثر شيوعاً. وطلبا منهم أن يختار كلّ منهم قلماً هدية، فاختار الأمريكيون اللون الأقل شيوعاً من بين الألوان المطروحة أمامهم بينما اختار الكوريون الأكثر شيوعاً.

ويلاحظ أنّ الغربيين أكثر اهتماماً من أبناء شرق آسيا بتعزيز أنفسهم في نظرهم وفي نظر الآخرين. كذلك نرى الأمريكيين أميل من اليابانيين إلى إطلاق تعبيرات تلقائية محببة عن أنفسهم؟ وتأتي تعبيرات الثناء على النفس الموجهة إلى الأمريكيين والكنديين متجاوزة كثيراً حدود المتوسط. ولكن أبناء شرق آسيا يضعون أنفسهم في مرتبة أدنى قياساً بكلّ الأبعاد. إنّهم لا يدعمون فقط، أقل قدر من العبارات الإيجابية بل يؤكدون على الأرجح أنّ لديهم بعض الخلال السلبية. وليس من المرجح أنّ الآسيويين إذ يضعون أنفسهم في مثل هذه المكانة إنما يعبرون عن قدر من التواضع أكثر من الأمريكيين الشماليين. إنّ الآسيويين ـ في واقع الأمرـ يظهرون تواضعاً بدافع من وخز الضمير، ولكن الفارق في تحديد مكانة الذات يظل قائماً حتى إذا ما ظن المشاركون أنّ إجاباتهم عامّة وجماعية تماماً.

ليس معنى هذا أنّ أبناء شرق آسيا مستاؤون من صفاتهم، إنما العكس إذ لديهم التزام ثقافي قوي بالشعور بخصوصيتهم أو أنّهم موهوبون غير عاديين. وأنّ هدف الذات في علاقتها بالمجتمع ليست تأكيد التفوّق أو التفرّد، بل تحقيق التناغم داخل شبكة من العلاقات الاجتماعية الداعمة.

ويحرص أبناء شرق آسيا على تعليم أطفالهم التمازج مع الآخرين في تناغم. ولكنّنا في المقابل نجد بعض الأطفال الأمريكيين يذهبون إلى مدارس يحصل فيها كلّ طفل على صفة « في.آي.بي.VIP» أي شخص مهم جداً.

(أذكر أنّه في بلدتي اجتمع مجلس إدارة المدرسة منذ بضع سنوات مضت وناقش هل الهدف الرئيسي للمدارس نقل المعارف أم غرس احترام الذات. وأشعر بالتقدير إزاء فيلم كارتون ظهر خلال هذه الفترة نفسها يعرض باب غرفة يحمل عبارة «قاعة الاحترام»).

وأجرى ستيفن هاين ورفاقه تجربة تحدد الفارق بين اندفاع الغربي لكي يشعر بالرضا عن نفسه وبين دافع الشرق آسيوي لتحسين الذات، وتكشف الدراسة عن دلالات مهمة بالنسبة لتطوير المهارات في كلّ من الغرب وشرق آسيا. الغربيون أميل إلى إجادة عدد محدود من المهام ويتخذون ذلك منطلقاً لعمل جيِّد. ويبدو أنّ الشرقيين أميل إلى أن يجيدوا كلّ شيء أي صاحب الصنائع السبع.

ويقول أحدهم: "إنّ العالم في حقيقة أمره يزيد عجائبنا ولا يحلّها، هذا الفلكي بعلمه ودقته وحسابه ورصده وآلته، ماذا صنع؟ أبان بأنّ ملايين النجوم في السماء بالقوّة المركزية بقيت في أماكنها أو أتمت دورتها، كما أنّ قوة الجاذبية في العالم حفظت توازنها، ومنعت تصادمها، ثمّ استطاعوا أن يزنوا الشمس والنجوم، ويبيِّنوا حجمها وسرعتها وبُعدها عن الأرض، فزادونا عجباً. ولكن ما الجاذبية؟ وكيف وجدت؟ وما القوّة المركزية؟ وكيف نشأت؟ وهذا النظام الدقيق العجيب كيف وجد؟ أسئلة تخلّى عنها الفلكي لمّا عجز عن حلّها، وأبان الجيولوجي لنا من قراءة الصخور كم من ملايين السنين قضتها الأرض حتى بردت؟ وكم آلاف من السنين مرّت عليها في عصرها الجليدي، وكيف غمرت بالماء؟ وكيف ظهر السطح؟ وأسباب البراكين والزلازل، وكذلك فعل علماء الحياة في حياة الحيوان، وعلماء النفس في نفس الإنسان، ولكن هل شرحوا إلّا الظاهر، وهل زادونا إلّا عجباً؟

سلهم كلّهم بعد السؤال العميق الذي يتطلبه العقل دائماً، وهو: "مَن مؤلف هذا الكتاب المملوء بالعجائب التي شرحتم بعضها وعجزتم عن أكثرها؟ أتأليف ولا مؤلف، ونظام ولا منظم، وإبداع ولا مبدع؟ مَن أنشأ في هذا العالم الحياة وجعلها تدب فيه؟ مَن عقله الذي يدبره".

إنّ النشوء والارتقاء لا يصلح تفسيراً للمبدع، وإنّما يصلح تفسيراً لوحدة العالم ووحدة المصدر، وكلما تكشفت أسرار العالم، وتكشفت وحدته ووحدة تدرجه، ووحدة نظامه وتدبيره، كان الإنسان أشد عجباً، وأشد إمعاناً في السؤال، وليس يقنعه بعد كشف العلم عن أسرار العالم وعجزه عن شرحها وتعليلها إلّا أن يهتف من أعماق نفسه: "إنّه الله ربّ العالمين".

يقول الأستاذ (هوشل): "كلما اتسع نطاق العلم، زادت البراهين الدامغة القوية على وجود خالق أزلي، لا حدّ لقدرته ولا نهاية، فالجيولوجيون والرياضيون والفلكيون والطبيعيون قد تعاونوا على تشييد صرح العلم وهو صرح عظمة الله وحده".

وأفاض (هربرت سبنسر) في هذا المعنى في رسالته في (التربية)، إذ يقول: "العلم يناقض الخرافات، ولكنّه لا يناقض الدين نفسه، يوجد في كثير من العلم الطبيعي الشائع روح الزندقة، ولكن العلم الصحيح الذي فات المعلومات السطيحة، ورسب في أعماق الحقائق، براء من هذه الروح، العلم الطبيعي لا ينافي الدين، والتوجه إلى العلم الطبيعي عبادة صامتة، واعتراف صامت بنفاسة الأشياء التي نعانيها وندرسها، ثمّ بقدرة خالقها، فليس ذلك التوجه تسبيحاً شفهياً، بل هو تسبيح عملي، وليس باحترام مدعى، وإنّما هو احترام أثمرته تضحية الوقت والتفكير والعمل، وهذا العلم لا يسلك طريق الاستبداد في تفهيم الإنسان استحالة إدراكه كُنه السبب الأوّل، وهو: "الله"، ولكنه ينهج بنا النهج الأوضح في تفهيمنا الاستحالة بإبلاغنا جميع الحدود التي لا يستطاع اجتيازها، ثمّ يقف بنا في رفق وهوادة عند هذه النهاية، وهو بعد ذلك يرينا بكيفية لا تعادل صغر عقل الإنسان إزاء ذلك الذي يفوت العقل...".

ثمّ أخذ يضرب الأمثلة على ما ذهب إليه، فقال: "إنّ العالم الذي يرى قطرة الماء، فيعلم أنّها تتركب من الأوكسجين والهيدروجين بنسبة خاصّة بحيث لو اختلفت هذه النسبة لكانت شيئاً آخر غير الماء، يعتقد عظمة الخالق وقدرته وحكمته، وعلمه الواسع بأشد وأعظم وأقوى من غير العالم الطبيعي الذي لا يرى فيها إلّا أنّها قطرة ماء فحسب، وكذلك العالم الذي يرى قطعة البرد (قطعة الثلج الصغيرة النازلة مطراً) وما فيها من جمال الهندسة، ودقة التصميم، لا شك أنّه يشعر بجمال الخالق، ودقيق حكمته أكثر من ذلك الذي لا يعلم عنها إلّا أنّها مطر تجمد من شدة البرد".

وهذا هو الدكتور (دي نوي) الطبيب العالم الذي اشتغل بمباحث التشريح والعلم الطبيعي، يقول: "كثير من الأذكياء وذوي النيّة الحسنة يتخيّلون أنّهم لا يستطيعون الإيمان بالله، لأنّهم لا يستطيعون أن يدركوه، على أنّ الإنسان الأمين الذي تنطوي نفسه على الشوق العلمي لا يلزمه أن يتصوّر (الله) إلّا كما يلزم العالم الطبيعي أن يتصوّر (الكهرب)، فإنّ التصوّر في كلتا الحالتين ناقص وباطل، وليس الكهرب قابلاً للتصور في كيانه المادّي وإنّه – مع هذا – لأثبت في آثاره من قطعة الخشب".

وهذا العالم الطبيعي (سير آرثر طومسون) المؤلف الاسكتلندي الشهير يقول: "إنّنا في زمن فيه الأرض الصلبة، وفقد فيه الأثير كيانه المادّي، فهو أقل الأزمنة صلاحاً للغو في التأويلات المادّية".

ويقول في مجموعة (العلم والدين): "فنحن نقرر عن رويّة أنّ أعظم خدمة قام بها العلم، أنّه قاد الإنسان إلى فكرة عن الله أنبل وأسمى، ولا نجاوز المعنى الحرفي حين نقول: إنّ العلم أنشأ للإنسان سماء جديدةً وأرضاً جديدة وحفزه من ثمّ إلى غاية جهده العقلي، فإذا به في كثير من الأحيان لا يجد السلام إلّا حيث يتخطى مدى الفهم، وذلك في اليقين والاطمئنان إلى الله".

أمّا الكاتب الأمريكي الشهير (ديل كارينجي) صاحب كتاب (دع القلق وابدأ الحياة)، فيقول: "إنّني يهمّني الآن ما يسديه إليَّ الدين من النعم، تماماً كما تهمني النعم التي تسديها إلينا الكهرباء والغذاء الجيِّد، والماء النقي، فهذه تعيننا على أن نحيا حياة رغدة، ولكن الدين يسدي إليَّ أكثر من هذا. إنّه يمدني بالمتعة الروحية، أو هو يمدني – على حد قول (وليم جيمس) – بدافع قوي لمواصلة الحياة.. الحياة الحافلة، الرحبة، السعيدة، الراضية. إنّه يمدني بالإيمان والأمل والشجاعة، ويقصي عنّا المخاوف والاكتئاب والقلق، ويزودني بأهداف وغايات في الحياة، ويفسح أمامي آفاق السعادة، ويعينني على خلق واحة خصبة وسط صحراء حياتنا".

أمّا (وليم جيمس) العالم النفسي الشهير، فيقول: "إنّ بيننا وبين الله رابطة لا تنفصم، فإذا نحن أخضعنا أنفسنا لإشرافه – سبحانه وتعالى – تحققت كلّ أُمنياتنا وآمالنا".

وقال: "الإيمان من القوى التي لابدّ من توافرها لمعاونة المرء على العيش، وفقدها نذير بالعجز عن معاناة الحياة".

وقال حين كان أستاذاً للفلسفة بجامعة هارفارد: "إنّ أعظم علاج للقلق – ولا شك – هو الإيمان".

ويعقب على ذلك (كارنيجي) بقوله: "ولا يتحتّم أن تتعلّم في هارفارد لتدرك هذه الحقيقة، فقد أدركها والداي في بيتهما الريفي المتواضع، فما استطاعت الفيضانات، ولا الديون ولا النوازل أن تنال من روحهما القوية، المستبشرة الظافرة، ويسعني الآن أن اتسمع فيتردد في أذني صوت أُمّي تترنم بالأغنية التالية، بينما هي تدير شؤون المنزل:

الأمان، الأمان.. يا لروعة الأمان******إذ يسكبه في نفوسنا الرحيم الرحمن

إليك اللهم أدعو أن تحيطني بالأمان******فيّاضاً غامراً يملأ القلب والجنان

ويقول (ديل كارينجي) أيضاً: "إنّي لأذكر تلك الأيام التي لم يكن للناس فيها حديث سوى التنافر بين العلم والدين، ولكن هذا الجدل انتهى إلى غير رجعة، فإنّ أحدث العلوم – وهو الطب النفسي – يبشر بمبادئ الدين". لماذا؟

لأنّ أطباء النفس يدركون أنّ الإيمان القوي، والاستمساك بالدين والصلاة، كفيلة بأن تقهر القلق والمخاوف والتوتر العصبي، وأن تشفي أكثر من نصف الأمراض التي نشكوها. نعم، إنّ أطباء النفس يدركون ذلك، وقد قال قائله الدكتور (أ.أ. بريل): "إنّ المرء المتدين حقاً لا يعاني مرضاً نفسياً قط".

وعندي أنّ أطباء النفس ليسوا إلّا وعاظاً من نوع جديد، فهم لا يحضوننا على الاستمساك بالدين توقياً لعذاب الجحيم في الدار الآخرة، وإنما يوصوننا بالدين توقياً للجحيم المنصوب في هذه الحياة الدنيا، جحيم قرحات المعدة، والانهيار العصبي، والجنون... إلخ.

يقول الدكتور (كارل يونج) أعظم الأطباء النفسيين الأمريكيين في كتابه (الرجل العصري يبحث عن روح): "استشارني في خلال الأعوام الثلاثين الماضية من مختلف شعوب العالم المتحضرة، وعالجت مئات من المرضى، فلم أجد مشكلة واحدة من مشكلات أولئك الذين بلغوا منتصف العمر – أي الخامسة والثلاثين أو نحوها – لا ترجع في أساسها إلى افتقادهم الإيمان، وخروجهم على تعاليم الدين.. ويصح القول بأنّ كلّ واحد من هؤلاء المرضى وقع فريسة المرض، لأنّه حرم سكينة النفس التي يجلبها الدين – أي دين – ولم يبرأ واحد من هؤلاء المرضى إلّا حين استعاد إيمانه، واستعان بأوامر الدين ونواهيه على مواجهة الحياة".

لماذا يجلب الإيمان بالله والاعتماد عليه – سبحانه وتعالى – الأمان والسلام والاطمئنان؟

سأدع (وليم جيمس) يجيب على هذا السؤال: "إنّ أمواج المحيط المصطخبة المتقلبة لا تعكر قط هدوء القاع العميق، ولا تُقلق أمنه، وكذلك المرء الذي عمق إيمانه بالله خليق بألا تعكر طمأنينته التقلبات السطحية المؤقتة، فالرجل المتدين حقّاً عصيّ على القلق، محتفظ أبداً بإتزانه، مستعد دائماً لمواجهة ما عسى أن تأتي به الأيام من صروف".

-            الدين علاج للأمراض العقلية والعصبية:

يقول الدكتور (بول أرنست أدولف) أستاذ مساعد التشريح بجامعة سانت جونس وعضو جمعية الجراحين الأمريكيين: "لقد أيقنت أنّ العلاج الحقيقي لابدّ أن يشمل الروح والجسم معاً في وقت واحد، وأدركت أنّه من واجبي أن أطبق معلوماتي الطبية والجراحية، إلى جانب إيماني بالله وعلمي به، ولقد أقمت كلتا الحالتين على أساس قويم، بهذه الطريقة وحدها، استطعت أن أقدم لمرضاي العلاج الكامل الذي يحتاجون إليه، ولقد وجدت بعد تدبُّر عميق أنّ معلوماتي الطبّية وعقيدتي في الله هما الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه الفلسفة الطبية الحديثة.

وقد وجدت أثناء ممارستي للطب أن تسلحي بالنواحي الروحية، إلى جانب إلمامي بالمادّة الطبية، يمكناني من معالجة جميع الأمراض علاجاً يتسم بالبركة الحقيقية.. أمّا إذا أبعد الإنسان ربّه عن هذا المحيط، فإنّ محاولاته لا تكون إلّا نصف العلاج، بل قد لا تبلغ هذا القدر.

فما هي الأسباب الرئيسة لما نُسمِّيه الأمراض العصبية؟

إنّ من الأسباب الرئيسة لهذه الأمراض: الشعور بالإثم والخشية والحقد والخوف والقلق والكبت والتردد والشك والغيرة والأثرة والسأم. وممّا يؤسف له أنّ كثيراً من المشتغلين بالعلاج النفسي قد ينجحون في تقصي أسباب الاضطراب النفسي الذي يُسبب المرض ولكنهم يفشلون في معالجة هذه الاضطرابات، لأنّهم لا يلجأون في علاجها إلى بثّ الإيمان بالله في نفوس هؤلاء المرضى".

فإذا كان بعض المثقفين في أوطاننا لا يصغون إلّا لصوت يجيئهم من الغرب، فإنّ عليهم أن يستمعوا وينصتوا لتلك الصيحات المخلصة، التي أطلقها أُناس ليسوا بالأدعياء المتطفلين على العلم، ولا بالسطحيين المحكومين بالعاطفة، ولا بالخياليين المتعلقين بالأحلام، الذين يسبحون في غير ماء. إنّما هم (علماء) يحكمون منطق العلم العصري وحده، القائم على الملاحظة والتجربة والاستقراء.

والعجب أن تصدر هذه الصيحات من بلد بلغ القمة في الارتقاء العلمي والغنى المادّي، والرخاء الاقتصادي، واستطاع أن يضع أقدام أبنائه على سطح القمر! بلد يؤمن بالمنافع العلمية، والحياة الواقعية، لا بالمدن الفاضلة والمثل الأفلاطونية. ولكن أعلامه – كما رأينا – ينادون بضرورة التشبث بالإيمان، وقاية وعلاجاً، وزاداً وسلاحاً، وهداية ونوراً، وصاحباً ودليلاً.

فلنركل بقوّة وإلى الأبد تلك الأكذوبة الكبرى، التي يُردِّدها هنا أُناس لا يمتازن إلّا بصفاقة الوجوه وعمى القلوب: "إنّ العلم يناقض الإيمان، أو يستغني عن الإيمان. هيهات هيهات لما يدعون" (نقلاً عن كتاب الإيمان والحياة للدكتور القرضاوي).

هذه ثمرة الإيمان بوجود الله تعالى وقدرته وحكمته بصرف النظر عن النهج المتبع والدين المقتفى، فهذا بلا شك أرحم من الإلحاد بالله والكفر بوجوده، فما بالك بمن رضي بالله ربّاً، والقرآن منهجاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد (ص) نبيّاً ورسولاً، إنّها السعادة الأكمل، والحياة الأجمل، والراحة الأفضل، والمصير الأمثل.

قال (ص): "ذاق طعم الإيمان مَن رضي بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمّد رسولاً".

 

المصدر: كتاب الله أهل الثناء والمجد

ارسال التعليق

Top