• ٤ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الفطرة فن الله تعالى وإبداعه الخالد

الشيخ محمد علي التسخيري

الفطرة فن الله تعالى وإبداعه الخالد

- أصل الفطرة في الثقافة القرآنية:
رغم التباين الموجود بين مفاهيم "الفن في القرآن" و"الفن في ظل القرآن" و"الفن القرآني" أو "القرآن والفن" إلا أنّها تلتقي في نقطة واحدة هي أنّ لجميعها ارتباطاً وثيقاً بأصل الفطرة التي هي أساس "الإيمان الديني".
إنّ "مبدأ الفطرة" الذي أشير إليه مراراً في القرآن الكريم وروايات المعصومين (ع) يمثل أحد المواضيع الرئيسية والمعمقة لعلم الاجتماع حسب وجهة نظر الإسلام؛ إذ يبقى تعلم الدين ومعارفه السامية والمتجذرة بدءاً من التوحيد والمعاد وانتهاءً بالأحكام والشرائع، وكذلك الوقوف على معارف كتاب الوحي وعجائبه وجمالياتها ناقصاً دون الغوص في مكنونات الفطرة.
الفن الديني، أو بعبارة أفضل: البعد الفني وعلم جمال الروح الإنسانية له ارتباط وثيق مع "الفطرة" ويتم تعريفه في ظل الفطرة.
وفي علم الاجتماع الإسلامي لا يعتبر الإنسان، هذا الموجود المعقد، صفحة بيضاء لا كتابة فيها بحيث لا ترى فيها أبداً أي أثر من تجسيم وتصوير ليد الخلقة الإلهية وأنّ ماهيته بشكل عام تتبلور بعد إيجاده.
إنّ الإنسان في الإسلام هو وجود حقيقي يمتلك مؤهلات وقدرات خاصة تمارس العوامل الطبيعية والاجتماعية والتربوية الخارجية ولعامل الإرادة دور أساسي في تجسيد ذاته، وأنّ العوامل الدخيلة في هذا الوجود تناور في مساحة بين أعلى عليين وأسفل سافلين (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * أَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس/ 7-8).
على أنّ نمو وتكامل وازدهار المؤهلات والمواهب الإنسانية رهن بالسير في ركاب الدين الإلهي؛ الحد الفاصل بين الإنسانية والحيوانية وعامل تسامي الإنساني وتسلّقه مراتب الكمال والتسامي الوجودي.
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الروم/ 30).
تعد معرفة الفطرة والجوانب المتعلقة بها أمراً مفصلياً وضرورياُ جدّاً في طي هذا المسير ومواكبته.
وعلى نحو الإجمال والعموم، فإنّ الجوانب المتعلقة بالفطرة يمكن تقسيمها إلى مجموعتين:
1- الإدراكات الفطرية.
2- الميول الفطرية.
فالإدراكات الفطرية التي هي أساس العلم والفلسفة وكل أنواع المعرفة للعلوم هي عبارة عن البديهيات الأولى كمبدأ عدم التناقض وما شابهه.
أما الميول الفطرية التي لها صلة أكبر ببحثنا، فهي تشمل الأمور التالية:
1- الميل نحو المعنوية وعبادة الله.
2- الميل نحو العلم وطلب الحقيقة.
3- الميل نحو الإحسان والفضائل الخلقية.
4- الميل نحو الكمال والجمال والظرافة التي هي أساس "الفن" في الحياة والتأريخ البشري.
من خلال الميول أعلاه، تتألف الحياة المعنوية للإنسان... فالعلم والأدب والدين والفضيلة والأخلاق والفن قد سجلت حضورها وعلى أساسها بني صرح الحضارة الإنسانية.

- رسالة الأنبياء:
من الجدير الإشارة إلى أنّ أنبياء الله تعالى، وهم رواد الحياة المعنوية للناس، لم يبعثوا من أجل إيجاد هذه الخصال في نفس الإنسان، بل أنّ رسالتهم تمثّلت في تربية وتعزيز وتحقيق مظاهر البعد السامي للوجود الإنساني والحؤول دون انزلاقه في هاوية الماديات والشهوات.
لقد جسد القرآن الكريم، معجزة الرسول الخاتم محمد المصطفى (ص) بأكمل صورة ممكنة، عناصر الفطرة الأربعة وكان نقطة التقاء "المعرفة والعبودية" و"العلم والحكمة" و"الأخلاق والفضيلة" و"الجمال والظرافة".
إنّ تعاليم هذا الكتاب تنسجم تماماً مع فطرة الإنسان وتلبّي كافة احتياجاته الفطرية، ومنها تعطش الروح الإنسانية للفن والأبعاد الجميلة.
وفضلاً عن أنّ القرآن الكريم تبلورت في ظله كثير من الفنون وكان الأصل في ظهور أو تكامل التلاوة والتجويد، والخط، والتجليد، والتذهيب، والتصوير، وخط الرسومات، والمعرّقات، وأنّه ترك بصماته وتأثيره على فروع فنية أخرى كفن العمارة، وعمل الكتائب المزخرفة بالكاشي، والرسم و... فإنّه بحد ذاته مخلوق فني إعجازي مدهش تجلى في صيغة (الكلام) و(البيان) وعرض المعاني السامية والمتكاملة من عالم الغيب إلى عالم الشهود، ومن الله الرحمن إلى الناس.
إنّ بيان القرآن الكريم بيان فني وجميل ذو بناء هندسي خاص... من مختلف أنواع الصيغ الأدبية من الحقيقة والمجاز، والتشبيه والاستعارة، والكناية، والإيهام... وكذلك الأمثال والحكم، والقصص الجميلة، والموعظة والحكمة، والتأريخ، والفلسفة، والبحث والمناظرة والاستدلالات العقلية والفطرية جعلت الإنسان يندفع إلى التدبُّر والتفكُّر، وحرّك فيه قدرة التخيل، وصوَّر له الحقائق العلمية والعرفانية بشكل فني حتى وكأن الحقائق المعنوية السامية باتت مجسدة أمام عين القارئ والسامع فأخذت منه مأخذها وصار متحيراً في مقابل تلك المناظر.
إنّ تركيب الآيات والكلمات، وكون الحروف والحركات تخضع لقاعدة التفخيم والترقيق، وتناسب الجمل والسياق النغمي إلى جانب تنوع وكثرة الموظية المثيرة للعجب وكذلك التحليق المدهش في الآفاق والغور في مكنونات الأنفاق الإنسانية يعدُّ من أوجه جمالية هندسة الآيات والسور.
إنّ استخدام الأوزان الشعرية في جمل منثورة، وموسيقية الآيات والبيان النغمي في صياغة الجمل القرآنية، التي تهتزُّ لصوتها أو تار قلب كلّ إنسان صاحب ذوق وناشد للحقيقة وتنفتح قريحته بإطلاق كلمات الإشادة والإطراء، تفصح على استخدام مختلف أنواع الفنون بأجمل صورها في خلقة هذا الكتاب السماوي.
إنّ هذه الموسيقى والنغمة المرتبطة والمتناسقة تماماً مع مضمون وفحوى الآيات الشريفة، لها تأثير سحري على روح ونفس الإنسان.
حتى أنّها تروّض أحياناً القلوب القاسية وتجذبها للكتاب العزيز، وهذا يعد بحد ذاته أحد أسس تحدي القرآن الكريم.

- الوليد بن المغيرة والجاذبية السحرية للقرآن الكريم:
يتم الكشف عن هذه الحقيقة في سورة المدثر ببيان إلهي جميل وشاعري من على لسان الوليد بن المغيرة.. هذا المدعو ابن المغيرة وهو أحد أعداء الإسلام والرسول الأكرم (ص)، حينما سمع شيئاً من القرآن الكريم في أيام الوحي الأولى تأثر جدّاً بجاذبية القرآن الكريم إلى الحد الذي اضطر رغم أنفه الاعتراف بعظمته.
لكن الكبر والعناد جعله يسمي تلك الآيات الجذابة بالسحر. ولذا فالله تعالى فضحه قائلاً:
(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ) (المدثر/ 18-25).
إنّ عظم الآيات أعلاه يتجلى ببيانها السهل والشاعري والموزون والموسيقي، وفي قصر جملها وحزمها وتماسكها حتى أنّ الفاضح والقامع يميط اللثام عن الحالات النفسية للعدو المعاند والحاقد. وبعد أن يمهِّد للسامع الأمور من الناحية النفسية، ينقل له كلام المنكر للقرآن الكريم ومن ثمّ يجيب بقاطعية وحزم:
(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ) (المدثر/ 26-30).
لا شك أنّ من الأهمية بمكان الوقوف على حالات التصوير القرآنية الجميلة تجسيد ظواهر الخلقة الرائعة من أرض وسماء، وكواكب وسيارات، وصحار وبحار، وجبال، وطيور، وحيوانات أخرى وباقي مظاهر الخلقة وكذلك المشاهد المهيبة ليوم القيامة من حوادث النفخ بالصور وما يحصل للأرض والسماء وحتى الجنة والنار وجماليات الأولى وبلايا الثانية، والحوار بين أهل الجنة والنار و... وكذلك القصص القرآنية وأسلوبها الفني في رسم الشخصيات الإيجابية والسلبية وأبطال القصص وإعداد القارئ نفسياً، وتحريض وإثارة العواطف والأحاسيس واصطحاب القارئ إلى استنتاجاتها الإنسانية والإلهية؛ لا شك أنّ مطالعة كل ذلك يحظى بأهمية بالغة.
التناسق الرائع بين الإطار والمضمون وفحوى المواضيع القرآنية لا يقتصر على القصص وظواهر الدنيا والآخرة، بل إنّ القرآن الكريم اختار إطاراً خاصاً فيما يتعلق بالعقائد والمعارف والأحكام والشرائع وبما يتناسب مع مضمون الآيات وفحوى المواضيع، مستخدماً مناهج وأساليب مختلفة بغية المزيد من التأثير.

- نماذج من البيان الفني في القرآن الكريم:
إنّ حالات استخدام فن البلاغة والصياغات الأدبية المختلفة وتناسب أشكال الكلمات ومرامي مفاهيم القرآن المجيد أكثر من أن تعدّ وتحصى، ولا يسع هذا المقال البحث في التفاصيل إلا أنّنا مضطرون إلى أن نشير بصورة عابرة ومقتضبة إلى نماذج مختلفة في هذا المجال بغية المزيد من الفائدة للباحثين والراغبين بالمطالعة.

1- بيان فني في رسم الظواهر الطبيعية وجماليات الخلقة:
(اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد/ 2-4).
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) (الرعد/ 12-13).

2- البيان القرآني الفني في رسم وتصوير أحداث يوم القيامة:
( بسْمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ. إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) (التكوير/ 1-14).
وكذلك كافة آيات سورة الحاقة المباركة ومنها:
(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) (الحاقة/ 25-33).

3- حوار أهل الجنة والنار:
(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) (المدثر/ 38-47).

4- وصف الجنة ونعمها:
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا) (النبأ/ 31-36).

5- وصف جهنم وعذابها:
(إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا) (النبأ/ 21-30).

6- البيان القرآني الفني في ذكر القسم:
(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (التكوير/ 15-19).

7- البيان القرآني الفني في ذكر الوقائع التاريخية والقصص القرآنية:
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص/ 7).
وفي سورة نوح يسرد القرآن الكريم الحوار بين النبي نوح (ع) ورب العزة على النحو التالي:
(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) (نوح/ 5-14).
وكذلك:
(قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا * مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا * وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا * رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَارًا) (نوح/ 21-28).

8- سائر الأمثال والحكم:
هناك آيات كثيرة في القرآن الكريم دخلت الأدب العربي وفرضت لنفسها مكاناً في الحوار بين الناس بصفتها بسبب قصرها وجماليتها ومعناها الوافي وتعلقها بقضاياهم الاجتماعية وخلفياتهم وحياتهم اليومية وبصفتها حكماً وأمثالاً، منها:
(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ) (البقرة/ 179).
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8).
(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (آل عمران/ 54).
(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الانشراح/ 6).
(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ) (الإسراء/ 7).
(هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ) (الرحمن/ 60).

9- (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا...) (الحديد/ 20).

10- البيان الرائع في تشريع الأحكام:
لا يقتصر التناسق بين الإطار وكوامن المواضيع القرآنية على قصص وأيمان وأمثال وحكم القرآن الكريم، بل إنّه اختار إطاراً خاصاً عند تطرُّقه للعقائد والمعارف والأحكام والشرائع وذلك بما يتناسب مع مضامين الآيات الشريفة، واستخدم أساليب مختلفة بهدف المزيد من التأثير... من بين تلك المواضيع تشريع الصيام؛ فهذا الحكم الإلهي الداعي إلى تجنُّب الأكل والشرب وابتعاد الإنسان عن اللذائذ الأخرى كان يعدُّ عملاً شاقاً وغير مألوف بالنسبة للمسلمين الذين كانوا يعيشون في أرض الحجاز الملتهبة بحرارة الشمس وأيام الصيف الطويلة، ولذلك عمد إلى استخدام أسلوب مغاير في التشريع حيث راعى الجوانب العاطفية والنفسية أثناء تبيينه للحكم ومن ثمّ تطرَّق إلى التسهيلات وحالات التخفيف التي من شأنها أن تخفّض من شدّته وحدّته وبما يجعل النفوس تركن إلى الحكم وتقتنع بالعمل به. هذا فضلاً عن الفوائد المادية والمعنوية التي ترتَّبت على الحكم. إن صيغته شجَّعت المسلمين ورغَّبتهم بقبول الصيام.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 183-184).
إنّ النقاط التالية تكشف عن جانب من البيان الرائع الذي استخدمه القرآن الكريم في الآيتين أعلاه من أجل تحفيز المسلمين على الصيام.
1- التركيز على إيمان الناس بقوله: (يا أيها الذين آمنوا)، وبالتالي تمسكهم بمقوماته.
2- (كُتِبَ عليكُمُ الصِّيامُ)؛ أي لا مجال للجدال بل هو أمر من قبل تعالى.
3- (كما كُتِبَ على الذين مِنْ قَبلِكُمْ)؛ أي لا تقلقوا، فلستم وحيدين والأمم التي من قبلكم كانت تصوم أيضاً.
4- (لعلَّكُم تَتَّقُونَ)؛ إن فائدة الصيام تتمثل في التقوى والورع عن المحارم.
5- (أياماً)؛ جاءت بصيغة النكرة؛ أي عدداً من الأيام.
6- (مَعْدُودَاتٍ)؛ تأكيد على قلة عدد أيام الصيام.
7- (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)؛ تسهيل وتخفيف عن المرضى والمسافرين.
8- (وعلى الذين يُطيقونه)؛ تخفيف عن مجموعة آخرين من الشيوخ والعجزة ومن يشق عليه الصيام.
9- (وَأنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)؛ تبيين لفوائد الصيام وأنّ هذا الحكم إنَّما هو لمصلحة الناس.
10- وفي آخر هذه الآيات يقول: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة/ 185).
إنّ هذه الآيات وعبر بيانها الرائع، والمتَّسم بالمعالجة النفسية، فلسفة وفوائد الصيام، وأوضحت حالات التخفيف والتسهيل، ولفتت الأنظار للأهمية المعنوية لشهر وأوضحت حالات التخفيف والتسهيل، ولفتت الأنظار للأهمية المعنوية لشهر رمضان المبارك ونزول القرآن الكريم فيه، استخدمت أفضل أسلوب للنفوذ إلى ضمير ووجدان المخاطب مشرعة بذلك حكم الصيام الإلهي.
إنّ الآيتين الآنفتي الذكر ما هما إلا نموذجين من استثمار العلم والحكمة والفن والإبداع في البيان القرآني الذي يؤلِّف بمجموعه الخلقة الفنية للقرآن المجيد. وإنّه لمن نافلة القول أن يستلهم كافة المسلمين من الكتاب العزيز أدوات الفن بفروعه المختلفة نحو المزيد من إشاعة الثقافة القرآنية ونشرها بين الأجيال وفي مختلف العصور وخاصة بين الجيل الواعد، ولا يغلقوا الطريق أمام التحديث والتجديد والإبداع. وإنّ الأمل ليحدو بنا ونحن في كنف المعرض القرآني الذي نرجو له التقدُّم عاماً بعد آخر، بأن ينجح في جذب الشعوب المسلمة ويكون مصدر إلهام لباقي الدول. إنّه مركز مليء بالجاذبية يمكن التعويل عليه وترقُّب الخير منه حتى تتفتح براعم الحياة والنشاط في ظله.
علينا أيضاً أنّ لا ننسى أن شهر رمضان المبارك الذي هو شهر ضيافة الله تعالى وأنّ الحضور حول مائدة رحمته الواسعة هو انطلاقة للتحرُّك في مسير التكامل الإنساني الإلهي والمعنوي نحو التقرب لله تعالى والوصول إلى (فطرة الله).
إنّ الخروج بنجاح من امتحان محاربة هوى النفس وتسويلات إبليس وكذلك بلوغ الذروة في التقوى والزهد حيث الغاية النهائية للصيام في عيد الفطر السعيد وفيه العودة المنتصرة للصائمين إلى الفطرة الإنسانية – الإلهية الطاهرة والأصيلة.
هذا الفوز العظيم يتكامل بإقامة صلاة العيد التي هي تجسيد لوحدة صف المسلمين وأخوّتهم (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (الأعلى/ 14-15).
إذن: يؤصل القرآن في خلد الإنسان العودة إلى فطرته وما تقتضيه من النظر في الكون وتناسقه الكاشف بكل وضوح عن خالقه العظيم، فإذا غفل عن ذلك غفل وفسق عن فطرته نفسها. (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر/ 19).
كما يؤصِّل أيضاً فيه حسّ الفنّ والإبداع الفني باعتبارهما ميلين فطريين لينطلق الإنسان متكاملاً مجدداً – وهي خاصية لا يتمتع بها غيره من الحيوانات – عاملاً على إعمار الأرض وتحقيق مقتضيات خلافته لله سائراً تحت ظل الله يقوده الأنبياء مرحلة مرحلة شاهدين عليه في سفينة الحياة. وكأنّ الآية التي تتحدَّث عن سفينة نوح تتحدَّث عن سفينة التاريخ كله إذ تقول: (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (هود/ 41).

المصدر: كتاب حول القرآن.. مقالات ومحاضرات

ارسال التعليق

Top