• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القيادة القرآنية

د. زكي حسين جمعة

القيادة القرآنية
  ◄أ- بمثابة تمهيد: مع ولادة الإسلام، وبداية التحول التاريخي من نموذج القبيلة إلى نموذج الأُمّة، ومن عبادة الشرك إلى عبادة التوحيد، ولدت الدولة الإسلامية، والحكومة الإسلامية، وبوصول النبي (ص) إلى المدينة، بدأت مرحلة القيادة السياسية والفكرية والاجتماعية إلى جانب القيادة الدينية الرسالية (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (الأحزاب/ 6). في القرون السابقة وحتى القرن الحالي، تناول الكثير من العلماء مسلمين وغير مسلمين المسألة كلامياً وفلسفياً، ودرسوها بوصفها مسألة عقائدية وغيبية ماورائية عهدية، عهد من الله إلى خاصة أوليائه. مثال الفيلسوف الإسلامي صدر الدين الشيرازي[1]، وكذلك فخر الدين الرازي[2]، إضافة إلى علماء كثر، من حيث ارتباط هذا المفهوم كاملاً بحياة الإنسان وفي كلتا الحالتين يتضح أنّ هذا المبحث هو أكثر حيوية وهو أكثر ملاءمة، كلما تقدم الزمن خصوصاً في وجهه الاجتماعي. لا تنحصر مسألة ولادة الأُمّة في الإسلام بولادة التاريخ الإسلامي، وإنما الإنسان في نظر الإسلام ينبغي له الانتظام في جماعة ليحقق وجوده، باعتباره مخلوقاً وشاهداً وخليفة الله. منذ البدء هدف الإسلام إلى تكوّن مجتمع الأمّة، للحيلولة دون تفرق الناس شيعاً ومذاهب، وبالتالي للحؤول دون الشرك الجماعي، الذي يغرق المجتمع ويهدر الطاقات (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا) (الروم/ 31-32). تكوين المجتمع الواحد يمثل المجال الخصب لصيانة القِيم الإنسانية وتنميتها، وليست المدينة الفاضلة التي تحدث عنها الفارابي، ونظّر لها، سوى انعكاس للرؤية الإسلامية لما يجب أن يكون عليه المجتمع. أطلق الإسلام مفهوم الأُمّة، خياراً متقدماً ناظماً لحركة المجتمع، يتم فيه عقلنة الاجتماع الإنساني، متخطياً بذلك عقليات التفريق القبلي (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة/ 143). هنا يبدو عقل الإسلام حاضناً لوجهتين في التاريخ، وجهة الانتظام الاجتماعي والسياسي، ووجهة الانتظام العبادي والاعتقادي، وهنا نقف وجهاً لوجه أمام إشكالية العقلانية التاريخية العربية الإسلامية، التي يذهب البعض إلى معالجتها إخبارياً، مثلما حصل مع ابن خلدون في مقدمته في القرن الرابع عشر الميلادي. على أي حال نحن أمام حقل يجتمع فيه الانتظام الاجتماعي والعبادة، في مروحة التاريخانية التي انتصب فيها عقل السلطة ليُغلِّب عقل التاريخ على عقل الاعتقاد، في توظيف كبير للقوى المسيطرة والمتغالبة في حقل السلطة، إن ما جرى في حقل التاريخ كان من أخطر المغامرات التي خاضها العقل العربي بعد دولة النبي (ص)، بمعزل عن الإسلام القرآني، ليشوه معنى الهجرة الروحية التاريخية، مع ذلك كله كان كلام الله ولا يزال يحدث الانكسار في الزمن الكمي، ويفتح الآفاق أمام الزمن الروحي، ويمنح المؤمنين حق الإيمان بقيادة روحية، تحقق الوجود الأفضل والعدل الأمثل للأُمّة الأمثل (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران/ 110)، ثاراً جميعاً يستبطن المشاعر المتوقدة في القلوب والأفئدة (الإيمان والانتظار).   ب- القيادة والولاية: كيف برز مفهوم القيادة والولاية في العقل الإسلامي، وكيف ساهم في تولد هذا العقل وانبعاثه؟ في المستوى الفكرويّ، حصلت معركة بين عقل عربي تراثي عمره مئات السنين، وعقل يتولد من خلال وحي يوحى به إلى نبي معصوم لا ينطق عن الهوى، إلى فرد بالمعنى الاجتماعي. معظم العرب كان لديهم مقاومة لهذا العقل المتولد، (وكثيرٌ منهم ما زال يقاوم)، الذي بدأ تولده في مكة مدينتهم، وقاوموه بكل ما تمكّنوا، ولما لم ينثن، أخرجوه من إمارتهم، فهاجر في التاريخ ليقود الأُمّة بالعبادة، والسياسة بعد الانتصار، كانت المواجهة التي خاضها النبي (ص) للواقع بالولاية، بدل المشيخة والإمارة، ولاية القرآن المنزل والمتنزل، من وحي إلى وعي (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ)، هنا تكون الولاية بقوة العقل الاعتقادي، قوة النبوة المتنزلة المولاة من الله. هذه الولاية بدأت سيادتها بعد الهجرة، لماذا؟ "لأنّه قبل الهجرة كان مغلوباً على أمره في مكة" (اجتماعياً وسياسياً)، في المدينة تمكن من أن يطبق الإسلام، ولهذا يوم الهجرة أوّل التاريخ، لماذا لم يكن أوّل البعثة أول التاريخ؟ لأنّ البعثة أول نصف الإسلام، أول تكوين الإسلام والهجرة أول الإسلام الكامل[3]. هنا يتحول النبي إلى معيار لكل الناس، مرتفعاً فوق تاريخهم المنفصل عن الإلهي، والمفتقد للرابط معه، مع النبي ومن خلال شهادة التوحيد[4] برزت المنظومة الاعتقادية (الله والنبي) لتشكل فاصلة كبرى في مولد العقل الجديد، عقل العرب الجديد، عقل الإسلام القرآني. هذا الاقتران ينبغي أن يكون موضع تأمل. فهو يقترن في مستوى العبادات والمعاملات، وفي مرحلة تسبق وهي النية، نيّة التقرّب إلى الله، لتكون العبادات وكل معاملات المؤمنين بنية القربى، والتقرّب إلى الله يعني الاتصاف بأوصافه، وذلك يفضي إلى كسب العلم والعدل والرحمة والعزة... إلخ. على هذا الأساس يرتفع الإنسان إلى مستوى الصفات الكاملة، هذا الرابط أتى ليكرسه النبي (ص). وهو ما أعطى للنبوة علامتها الفريدة، في تاريخ الأديان، الانطلاق من الشهادة التكاملية، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، التي تقرن الاعتقاد الإلهي بالاعتقاد النبوي، وتجعل النبي (ص) شاهداً تاريخياً على الخالق، فيكون بذلك النبي البشري المتقدم إلى ما فوق البشر، المولود في الحياة الدنيا والمكلف إتمام مكارم الأخلاق، يوصل البشرية كلها إلى مستوى التقرُّب من الله، التقرّب إلى الكمال والتحرر من العبودية المصطنعة من أنفسهم وبهذا يكون ما أوحي إلى الرسول (ص) وحياً أبدياً أزلياً، أمراً إلهياً يتصل بوعي العقل البشري، المُعبر عنه بالمعنى القرآني، الروح. هنا علاقة المكوّن بالكائن، فضاء التوحيد المتسع لهما في علاقة روحية، يصعب وصفها ويمتنع فهمها على غير أهلها. فيكون الدين رسالة الأسرار الرفيعة أسرار العقل البشري المتصل وحياً بالعقل الإلهي، المتطهر من كل رجس، النبي هو الفريد في التاريخ، هو النموذج القويم للإنسان. هو الممارس للعبادة والقيادة، فإذا للرسول أن يطاع وله الولاية، هو الرسول والولي. صاحب مقام الرسالة ومقام الولاية. الرسول هو الذي يحمل رسالة الدين ويستوحي الأحكام، يرسخ العلاقة والاقتران في المعاملات والعبادات، فيصبح الشاهد التاريخي على الله الأبدي الأزلي السرمدي، وهو البشري المرتقي إلى ما فوق البشر المولود مثلهم والموجود قبلهم في المقصد الإلهي، في العقل الأرفع، وموجود معهم في النص (القرآن) والسنة (حياته) ينقل إليهم ما يوحى إليه لا ينطق عن الهوى، إنما يبلغ فهو مكلف اتمام المكارم، ووصل البشر بالألوهة الأزلية، وهذا مقام الرسالة، إنّه يبيّن جميع ما يوحى إليه من الله للناس، يتمم الصلة بين عقل الوحي وعقل الوعي، يعطي لرسالته مقام الفعل التاريخي، قبله وبعده، في ما وراء وما بعد (القيامة)، وهذا حدث عقلاني يقطع مع المعرفة الدينية السابقة، فيستحيل معه فصل الإلهي عن البشري وفصل الديني عن الدنيوي. بهذه القوة يتحول النبي (ص) إلى شخص معياري، يرتقي بالبشر عبادياً ويقودهم في هذا الارتقاء، فهو العارف الموحى إليه، الإنسان القديس المعصوم في التكوين والذات معاً (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (النجم/ 3)، وهو (أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (الأحزاب/ 6)، هو الذي يتصرف وتجب له الطاعة والإمرة (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (التغابن/ 12)، إنها الولاية الكبرى، المتلازمة مع ولاية الله، ولاية الرسول المتحدة مع ولاية الله، شهادة العقل للعقل، وبقدر ما تكون هذه الشهادة حية، يكون الرسول مطلق الصلاحية، في تربية الناس وبناء المجتمع وتوجيهه إلى الصراط المستقيم. هنا سؤال، متى بدأ الرسول ممارسة ولايته المعطاة له من الله؟ الجواب، يأتي، بعد الهجرة، لأنّه قبل الهجرة كانت بداية الرسالة والنصح والإنذار، بداية الإعلان، ولم يكن في ذلك الحين من إمكانية أو قوة لممارسة الولاية، مع أول يوم في الهجرة بدأت الممارسة، وبهذا تكون الولاية إتمام الرسالة وإكمالها.   الهوامش:
[1] راجع الشيرازي، صدر الدين: شرح أصول الكافي، ثلاثة مجلدات، طهران 1466- 1467هــ، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنكر. [2] راجع: الرازي، فخر الدين، مفاتيح الغيب، طبعة القسطنطينية. [3] راجع: مسيرة السيد موسى الصدر، م.س.، جزء 11، ص 107.

[4] «أشهد ان لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله».

    المصدر: كتاب تدافع العقول

ارسال التعليق

Top