• ١٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المثقفون والتفاهم الثقافي

د. أحمد الصدري

المثقفون والتفاهم الثقافي

الحقيقة أنّ الوقت آن ليأخذ المثقفون المسلمون مسألة التفاهم الثقافية بمنتهى الجدية. وأن يجتهدوا عالمياً بالكفاح ضد العصبيات الباطلة، وذلك من خلال تهيئة أرضية عقلية وعلمية متينة، فلو قررت المذاهب العالمية أن تتباحث وتتحاور فيما بينها فلن نفقد شيئاً في حرب العصبيات الدينية الضارية. نحن نستطيع أن نجمع علماء مختلف المذاهب والأديان في مؤتمر أو ندوة، ونتحدث بشكل علمي حول قضايا أساسية تطرح خلالهما. ألسنا نواجه في جميع العالم حفنة من المتعصبين الذين لا يعرفون منطقاً في الحوار؟ أليس الإسلام، هو أكثر الأيديولوجيات اهتماماً بالعقل والتفكير العقلاني؟ فلماذا إذن لا نتحرك ونخرج من جمودنا؟ ألسنا التقدميين في عصر تخلى المثقفون الغربيون فيه عن دورهم ولجأوا إلى (الاقليمية) و(ما بعد الحداثة) و(السفسطة) وكل نوع من الانحطاط. علينا أن ندخل الميدان ولا نخاف من بعض المثقفين في الداخل والخارج. وكلامي هذا أقوله كشخص لا كعالم اجتماع. فإذا كان هناك حوار فتأكدوا أنّنا نحن الغالبون. وعلينا أن نقضي على عقلية الخوف من الإخفاق. وباعتباري مثقفاً مسلماً أتساءل في نفسي دائماً، لماذا يجب أن نخاف من أفكار الآخرين وآرائهم؟ لقد كنت في فترة حكم الطاغوت طالباً جامعياً، وكان المحيط الجامعي مليئاً بالانحطاط والفساد، وكانت دار السينما تعرض أفلاماً منحطة، وصوراً بعرض عشرين متراً لنساء بحالات يخجل الانسان عن ذكرها، لكننا شاهدنا الفكر غلب على تلك الحالة وذلك الوضع واستطاع أن يقلبه. وبالطبع لا أقول بأنّ الفكر هو الغالب على الدوام من الناحية العلمية، لكن المهم هو الالتزام والرسالية في الحياة والفكر، وما علينا سوى أن نكون رساليين في أعمالنا، ولا نخاف من شيء، هذه هي الأرضية الايديولوجية لدراساتي، أما الأرضية النظرية لذلك، فهي التفاهم الثقافي.
والنقطة التي لابد من الاشارة إليها، هي أنني أحس خوفاً بيننا من المواجهات الحضارية، وهذا الخوف يأتي من عدم استعداد نخبتنا المثقفة. وأتصور أنّنا نعاني قليلاً من حالة بساطة وسذاجة في التفكير. وسبب ذلك أنّنا شعرنا ببعض الأمن من داخل أنفسنا ولم نشاهد العدو، فتجاهلنا أنفسنا، وتخوفنا بعض الشيء، من الخروج إلى العالم الخارجي. والحقيقة أنّنا كمثقفين مسلمين، لابد أن نطلع على العالم ونتعرف على ما يدور فيه. ففيما يتعلق بـ(إسرائيل) مثلاً، هناك قليل مَن يعرف ما يدور في داخلها، وعدد الأحزاب فيها، والاتجاهات والتيارات السائدة في مجتمعها. لكن (الإسرائيليين) في الوقت نفسه، يمتلكون معلومات وافية عنا (مع انّهم كفار حربيون، ونحن في حالة حرب معهم). فلماذا لا تكون لدينا مؤسسة دراسات خاصة بـ(إسرائيل)؟ هل يكفي أن نصفهم بالنظام الصهيوني؟ وهذا الوصف ليس شتيمة بالنسبة لهم، بل هو وصف وبيان. هذا على الرغم مما كتب حول (إسرائيل)، لكننا بحاجة إلى معلومات علمية دقيقة.
إذن، فالتفاهم الثقافي وكيفية طرحه على مستوى عالمي، يعد من مسؤولية نخبتنا الإسلامية المثقفة، ولهذه المسألة، جانب عالمي وليس وطنياً. وعلينا أن نطرح مسألة التفاهم الثقافي، بشكل يجذب إلينا جميع مثقفي العالم. فاستراتيجيتنا، يجب أن لا تكون على أساس الخوف، وعلينا أن لا نخاف من الحجارة التي سترمى باتجاهنا، بل يجب أن نفجر تلك الحجارة، وإنّنا نمتلك السلاح المناسب لها. كما أنّ استراتيجيتنا، يجب أن لا تكون دفاعية، بل هجومية، وأن ندخل الساحة بقوة.
هذه المواضيع اطرحها كفرد مسلم، وما قلته في القسم الأول من البحث هو أرضية علمية يتبعها جانب من السيرة الشخصية، أي إنّني كانسان أمتلك هذه القيم، وبعد ذلك لي تلك الأفكار. وليس من الضروري أن تعودوا من تلك الأفكار إلى هذه القيم، كما انّه لم يكن ضرورياً طرحها. بل هي أرضيتان مختلفتان في أذهاننا. وعندما نتحول إلى المستوى العالمي، يجب أن نتعامل معها بهذا الحجم فنحن لا يمكن أن نتحاور مع الشاب النازي أو الشاب الهندوسي المتطرف.
وإذا أردنا أن نحفظ أرواح المسلمين ونصون دماءهم، فلابد أن نفكر بهذه الطريقة فيما يتعلق بالعالم، وأن نمسك زمام الأمور بأنفسنا. ففي إيران يشكل المسلمون الأكثرية. لكنهم ليسوا كذلك في الهند، فهناك يتعرضون لضغوطات جمّة، لكن هناك فراغ ايديولوجي في الغرب، ويجب أن نوظفه لمصلحتنا. وعلينا أن نستغل الساحة. هذه هي أرضية البحث من الناحية الايديولوجية. إذن، المثقفون هم حملة التفاهم الثقافي، والمثقفون المسلمون هم الأجدر والأليق.
- الأساليب العملية للتفاهم الثقافي:
قد يتساءل بعضهم عن الأسلوب العملي لهذا التفاهم، وهل يوجد أساساً طريق عملي لذلك، أو أنّ المسألة مجرد نظرية؟ وأتصور أنّ السبل العملية للتفاهم بسيطة جداً. تأملوا الذي يقال في المؤتمرات، وما هو الذي يجب أن يقال وإيصال هذا الكلام إلى مسامع مثقفي العالم سهل جداً. لكن هناك عديداً من المثقفين اليوم لا يملكون شيئاً يقولونه، ولو تكلموا، فإنّ مواقفهم تنشأ إما عن ضعف أو عن خوف، وهذا ما ينتهي إلى التعصب. ونحن غير ملزمين بالانطلاق في مشروعنا من هذه المواقف. فلو تعرفنا بشكل جيد على المصادر الثقافية، فسيمكننا التحدث بقوة في المحافل الدولية. وباعتقادي أنّ أهم شيء هو الفكر، أي تحديد ما تبتغيه على المستوى العالمي، كما إنّنا لا نبحث عن الخلفيات والتعامل السياسي، لأنّ ذلك من مهام وزارة الخارجية وليس من مهامنا، وفي اعتقادي يجب أن نفكر بهذا الشكل وهو: القاء فكرنا وما نريده في المؤتمرات الدولية والدفاع عن أنفسنا مقابل الهندوسي أو البعثي أو الملحد أو الاشتراكي أو اليهودي المتعصب، لنخوفه منا علمياً، أو نعلمه كيف يجب أن يتعامل معنا. وهذه مثالية غير موجودة حالياً في العالم، وفي الوقت نفسه هي ما يطالبنا بها المسلمون الذين يعانون من ظلم المتعصبين والأصوليين. فالفكر هو المهم، أما الأساليب العملية فستظهر تلقائياً.
وبعد تلك المقدمة، لنرى مَن هم حملة التفاهم الثقافي، وأنا اسمي مَن يدعو للتفاهم الثقافي، ويسعى إليه بالمثقف.
والمثقف ترجمة للفظة (Intellectual) التي تستخدم في العالم الغربي الحديث مع أنّ هذه الكلمة قد ينظر إليها من زوايا مختلفة. فإذا نظرنا من زاوية موضوعية تاريخية، فالمثقف هو الشخص الذي ظهر في عقد معين في فرنسا، ولا يمكن سريانه إلى بريطانيا أو ألمانيا ـ البريطاني والألماني شخص آخر ـ ولو أردنا النظر إلى الموضوع من زاوية جزئية، فهذه الكلمة خاصة بالفرنسيين، وأصبحت موضة في دول أخرى، وكلمة (Intelegentsia) هي روسية أو بولونية في الأساس، أما جذورها فلاتينية. وقد ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وعلى هذا الأساس، لو قلنا أنّ المثقف (النخبة المثقفة) مفهوم غربي أو يوناني، فكيف يحق لنا أن نتكلم هكذا، ألا يعدّ هذا استخداماً خطأً؟ ومن جهة أخرى متى يمكن أن نطلق على أنفسنا تسمية (المثقف)؟ فلو كان المقصود من لفظة المثقف جوهر كلمة (Intellectual) في الفرنسية، فإنّ اطلاقه على أنفسنا خطأ. ما هو وجه التناسب بيننا وبين المثقف الغربي، لكن لا إشكال في استخدام مفاهيم خاصة بحضارة معينة ـ مع الأخذ بالفروق وتعميمها على لغات وحضارات أخرى، مع الأخذ بخصائص كل حضارة. ولن تحدث مشكلة إذا قمنا بذلك عن وعي.
لقد كان أولئك مجموعةً دافعت عن ضابط يهودي في الجيش الفرنسي اتهمته بالخيانة كذباً وإفشاء الأسرار للعدو، وذلك ليغطوا فشلهم واندحارهم المخزي فالقوا القبض عليه وسجنوه في إحدى الجزر، فقامت مجموعة من المثقفين للدفاع عنه، منهم (إميل دوركهايم) و(إميل زولا) وقد أطلقت تلك اللفظة عليهم منذ ذلك الحين. وكلمة (Intelegentsia) أطلقت على مجموعة من الأشخاص في روسيا وأوروبا الشرقية، لم تكن تابعة لطبقة النبلاء، مع ان أغلبهم من أبناء النبلاء والأشراف، وليسوا من طبقة المزارعين وما شاكلهم، وكان لهؤلاء شهادات علمية عامة. وهذان المفهومان من المفاهيم الخاصة، التي لا نبحث فيها، لكنه يمكننا تعريفها بشكل ينتج عنه إمكانية المقارنة بين مختلف الحضارات.
وفي جميع الحضارات العالمية والثقافات، نشاهد مجموعة تنبذ الحياة العادية، وتتجه نحو ما نسميه نحن بـ(الحقيقة) أو (الجمال) أو (العلم) أو (تحليل بنية الحقيقة). وهؤلاء هم الذين يطلق عليهم (العلماء) أو (أهل العلم) أو (الفنانون) أو (رجال الأدب). فهؤلاء تركوا الحياة وأداروا ظهورهم للناس والخلق وتوجهوا نحو شيء أسمى من ذلك. ومن حيث المعايير الاجتماعية، فهؤلاء يتحدثون بلغة خاصة، تختلف عن لغة الناس العاديين. لهم اصطلاحاتهم الخاصة. وبعبارة أخرى من (أهل الاصلاح) ومن أجل بلوغ تلك الحقيقة يحتاجون إلى أدوات لغوية.
وفي مقابل هؤلاء، هناك مجموعة ملازمة لهم في هذه المسيرة نحو الحقيقة، لكنهم يعودون إلى الناس في نقطة من تلك المسيرة، وفي هذه العودة نصل إلى مفهوم الالتزام، وهم الذين نسميهم بالمثقفين. والفارق بين الاثنين، هو أنّ المجموعة الأولى (أهل العلم) تركوا الناس والخلق، في حين انّ المجموعة الثانية (المثقفين) يوجهون خطابهم إلى الناس ويتعاملون معهم. وهذا أحد التعاريف التي نقدمها عن مفهوم المثقف. إذن عندما نقول (مثقف) لا نقصد به الشخص الذي يقرأ الفلسفة. بل الشخص الملتزم (الرسالي) الذي يريد عمل شيء ما والاستفادة من علمه.
وهناك مفهوم آخر للمثقف في مقابل ذلك المفهوم هو: المستنيرون (Intelegentsia). والفرق بينهما ليس في نوع من الاختيار الأخلاقي ـ الالتزام ـ الموجود بين العلماء والمثقفين، بل في مكانة كل فريق منهم. فلو تصورنا وجود هرم، فسيكون المثقفون في قمته، والمستنيرون في قاعدته. فالمثقفون مثلاً يكتبون كتاباً، والذين في القاعدة يقرأونه، وبعبارة أخرى أولئك منتجون، وهؤلاء مستهلكون، وهؤلاء الآخرون يقومون بدورين، فهم من جهة يأخذون عن المجموعة التي في القمة أفكارهم، ومن ثم يقومون بنشرها بين عامة الناس. وعلى هذا، فهناك إبهام في كلمة المثقف، فمرة يكون هو الشخص الرسالي (الملتزم) ومرة يكون هو الشخص الذي ينتج فكرة معينة. وسنحاول في هذا البحث، تفصيل المفهوم الذي طرحته عن المثقف. ومن خلال أقسام هذا المفهوم، أقدم مفهوماً مشتركاً للمثقف، يمكن تعميمه على جميع الحضارات، دون إغفال عن خصائص كل حضارة وثقافة.
إذن هنا أربعة أنواع من المثقفين، يمكن استنتاجها من خلال تضارب تلك المقولات الأربع، وهم:
المجموعة الأولى: طلاب الحقيقة المطلقة. الذين يقفون على رأس الهرم الفكري ويسيرون نحو الحقيقة.
المجموعة الثانية: القادة المصلحون أو الثوريون. وهم الذين يقفون على رأس الهرم الفكري، إلا أنّهم رساليون (آيديولوجيون) من الناحية الاجتماعية. وهؤلاء يسعون إلى تحويل الحقائق إلى آيديولوجيات ثورية واصلاحية. وقد أسميتهم بالقادة، لأنّهم يقفون على رأس الهرم الفكري.
المجموعة الثالثة: المحافظون على السنة والتقاليد الفكرية. وهؤلاء مقلدون للمجموعة الأولى، وأتباع لهم، ولا ينظرون في عملهم إلى الناس، لكنهم ليسوا في مستوى المجموعة الأولى، بل على مستوىً أدنى منهم.
المجموعة الرابعة: المنفذون للعقائد عملياً. وهم على مستوىً أدنى من القادة الثوريين.
فهذه أربعة أنواع من المثقفين، وقد وجدتها ضمن كل ما كتب حول المثقفين، وقد تداخل تعريف المثقف حيث يحاول بعضهم تجاوزه، وعدم الخوض فيه ـ وهو عمل صحيح أيضاً ـ لكننا ننظر إلى نوع من المثقفين، يستطيع أن يعيننا في البحث الذي نحن في صدده.
وهنا، نريد أن نكمل نوعاً من السنخية الموجودة بينهم، فالمجموعة الثانية رسالية، بينما المجموعة الأولى تمتلك ما يمكن أن نسميه (مهنة). والذي يطمح للوصول إلى العلم، هو في حقيقته متعهد بالحقيقة، لكن أفراد المجموعة الثانية متعهدون أمام الناس، ويقال ـ على سبيل المثال ـ إنّ الراهب و القسيس يشعران بمسؤولية (Calling) تجاه الآخرين، فكأنما مدعوون إلى ذلك العمل، ولذلك يمكن تسميتهم بـ(المشدودين نحو الحقيقة). والعقلانية الموجودة هنا هي من النوع النظري (Theoritical) في حين أنّ عقلانية المجموعة الأخرى هي من النوع العملي.
وإذا أردنا إكمال هذا المعرفة المقارنة، فيجب أن ننظر إلى ما يصيرون إليه في مجالات العلم والمذهب والفكر. وسنقدم تقسيمات فرعية في كل مجال.
وكما يتضح من التقسيم أعلاه، نكون قد قدمنا تصنيفاً سنخياً لأعمال ومهن المثقفين. وهذا التصنيف هو من إبداعنا، على أساس أدلة ومعايير محددة. فبالنسبة ـ مثلاً ـ لطلاب الحقيقة المطلقة، أسميناهم (الكاشفين)، وأطلقنا على المجموعة الثانية، أي المصلحين والقادة الثوريين، اسم (المخترعين)، أي أنّ الأول يهدف لكشف شيء معين، والثاني يخترع أمراً لفائدة الناس، أو أنّنا نطلق على المجموعة الأولى، من الزاوية الفكرية اسم (المنظرين) وللمجموعة الثانية، المقننين أو المصلحين.
وعلى صعيد المذهب، باعتقادي أنّ الإسلام فرّق بين مفهومي (النبي) و(الولي). فـ(الولي) مقام ومفهوم يتجه نحو الله سبحانه وتعالى، بينما (النبي) مقام مَن يأتي بأمر من الله إلى الناس بعد أن كان قد اتجه نحو الله. وبالطبع يمكن أن تدمج المقامات في شخص واحد، كما هو الحال في رسول الإسلام العظيم (ص).
ولنأخذ هذه الاعتبارات الثلاثة لطبقتين أخريين: من الناحية الدينية، نسمي المجموعة الثالثة ـ (المحافظين على التقاليد) ـ العابدين أو العارفين أو الرهبان، في حين أنّنا أسمينا المجموعة الرابعة ـ أي المنفذين للعقائد ـ بالروحانيين، لأنّهم يشعرون بالمسؤولية أمام الناس ولا يفكرون فقط بتزكية وتطهير أنفسهم، والوصول إلى مقام العرفان والفناء، بل هدفهم هو الرجوع إلى الناس والأخذ بأيديهم. وقد قلنا من قبل، أنّ المجموعة الرابعة تابعة للمجموعة الثانية، هنا أيضاً يكون الروحانيون أتباع النبوة، في حين أنّ العارفين أتباع الولاية. وتبقى هذه مجرد مفاهيم لا تستحق الجدل.
ويجب الانتباه إلى هذه النقطة، وهي أنّ المجموعات الأربع التي ذكرناها يمكن أن تجتمع في مكان واحد. وسنوضح لاحقاً، انّه قد نتحول من حالة إلى أخرى على مرور اليوم الواحد! في لحظة معينة نكون في مقام وفي لحظة أخرى نتحول إلى آخر وهكذا. فهذه التقسيمات ليست قوالب وأطراً ثابتة أنّها مجرد وجهة نظر تحليلية تساعدنا على فهم مَن هو المثقف أساساً.
وكما قلنا، في نهاية طبقة الكاشفين يقع الجامعيون والباحثون والمتخصصون أما المعلمون والبيروقراطيون والعاملون في مجالات الصحافة والإعلام والنشر، فجميعهم من الطبقة الرابعة. أما الفنانون فتختلف طبقاتهم حسب أعمالهم، وفي هذا المجال، لابد من مزيد من البحث، فالفن في البداية كان له جانب عملي، أما اليوم فقد اتخذ الفن حالة تجريد وتحول من حالة هامشية إلى مركزية، وفي الوقت نفسه لا نجد في الفن اليوم الحالة الرسالية، التي كانت قبل خمسة عشر أو عشرين عاماً في الغرب.
على أية حال، انّ بيان هذه السنخية الموجودة يجعلها أدق في معرفة مفهوم (المثقفين)، فجميعهم يحملون فكراً وعقلانيةً خاصة. وهم الذين تقع على عاتقهم مسؤولية الازدهار الفكري والثقافي، في جميع الحضارات.
النقطة الأخرى التي يجب الاشارة إليها، هي أني استخدمت العلم هنا بمعنى العلوم الدقيقة في الغالب، وقصدت بالفكر العلوم الإنسانية، هنا نقول هل يمكن تسمية العلماء الذين لا يهدفون في علومهم الناس بل ذات العلم، بالمثقفين؟ الجواب: نعم، لأنّنا قسمنا المثقفين فيما سبق، وبعض الباحثين، يرى أنّ اينشتاين من المثقفين أيضاً. ولو كان كذلك، فهل الأطباء من المثقفين؟
انّ كثيراً من عملاء الاجتماع يرون أنّ الأطباء ليسوا من المثقفين، لأنّهم ليسوا رساليين، والحقيقة أنّ الذي يعد الطبيب مثقفاً، يقصد بالمثقفين الطبقة المتعلمة من المجتمع.
يقول أفلاطون في كتابه الأول: الطبيب من زاوية كونه طبيباً هو ليس بتاجر، وفي اللحظة التي يعدّ بها نقوده، هو لا يأخذ المال لأنّه طبيب. ولربما يكون هناك شخص طماع إلا أنّه ليس تاجراً، لكونه طبيباً. ولأنّه يحمل رسالة معينة، فهو مثقف، مع امكان اطلاق لفظة المثقف بالمعنى العام من الناحية السنخية على العلماء والأدباء المنعزلين عن عامة الناس، ولهم تخصصاتهم واصطلاحاتهم الخاصة.
وقد يقال: لو كانت الرسالية والتعهد، هما الدليل على المثقف فربما يكون هدف بعضهم من العودة إلى الناس والاهتمام بهم، هو النفع الشخصي، وهذا الأمر خلاف الحالة الرسالية.
وقد تناول أفلاطون هذه المسألة بشكل جيد، في الفصل الأول من كتاب (الجمهورية)، وكذلك في كتاب (جدل مقابل السوفسطائيين)، وعندما نقول إنّ (القبطان) أو (الراعي) يمتلكان فناً، فلا يمكن أن يكون فن (القبطان) أو الطبيب أو القائد لمنفعته هو، بل النفع للآخرين، لأنّه فن، والراعي يبقى راعياً ما دام نفعه يصل إلى الأغنام، لكنه عندما يذبح شاةً فلن يكون راعياً حتى لو استفاد هو من ذلك.
وحول مَن هو الفيلسوف، هناك مثال الغار في الفصل الرابع من كتاب أفلاطون، فبعض الناس يجلسون في باب الغار وهم يشاهدون صوراً لأشخاص لا يرونهم إلا من خلال انعكاس صورهم على الجدار. وهؤلاء هم العامة من الناس، في حين أنّ الفيلسوف هو الذي ينهض من تلك الجلسة ويفك السلاسل والأغلال التي قيدته، ويخرج من باب الغار فيرى ويفهم (المُثُل)، و(المُثُل) هي الحقائق بمعنى أنّه لا يرى صورة الشجر أو البحر، بل الشجر والبحر عينيهما. هنا نجد الفيلسوف، لا يريد الرجوع إلى الغار مرة ثانية. والإنسان عندما يصل إلى بعض الإشراقات الفلسفية أو المعارف الخاصة ويستأنس بها ويجد لذة من خلالها، لا تحصل لغير المطلع عليها. فلا يوجد من الفلاسفة مَن يود الدخول إلى عالم السياسة، لكن يجب أن يكون رسالياً، ويعود إلى الناس لتوجيههم وقيادتهم، حتى لو لم يستسغ ذلك داخلياً. والفيلسوف الذي يترك حياته الجيدة (المرفهة) (Good Life)، ويتجه نحو هداية الناس وإرشادهم، سيكون هو (الفيلسوف الحاكم).
ومن الذين تحدثوا في هذا المجال (الفين غولدنر) الذي يقول: يعاني جميع المثقفين من العقدة الأفلاطونية، أي انّهم يريدون أن يعودوا ويصبحوا فلاسفة حكاماً. في حين هو لم يفهم جيداً ما يرمي إليه أفلاطون. فالفلاسفة لا يريدون الرجوع إلى الغار، بل على المجتمع أن يجبرهم على الرجوع إلى الغار والناس، أو انّه يرغبهم من خلال منح دراسية وفرص للبحث ومن ثم العودة لقيادته، هذه هي النظرية الأفلاطونية، فصاحب التخصص الذي لا يشعر بالمسؤولية تجاه المجتمع، هو في الواقع، بعيد عن الحقيقة ولم يفهمها بعد. يقول أفلاطون: (الفيلسوف هو الذي أدرك الحقيقة، ولا يمكن تقديم مصلحته على الحقيقة). وكما قال المرحوم آية الله البروجردي: (الروحاني لا يسرق، بل سارق في ملابس الروحانيين). فالفيلسوف الحقيقي، لا يمكن أن يقدم مصلحته على مصلحة المجتمع، لأنّه يعلم جيداً أن ليست هناك مصلحة أفضل من أن يعمل لمصلحة الناس وأنّ ذلك أكثر انسجاماً مع الحكمة.
إذن، عندما نقول إنّ المثقف يعود إلى المجتمع، نقصد بذلك المثقف الذي يقدم مصلحة الآخرين على مصلحته، وليس المثقف الأناني الذي لا نرضاه وننتقده.

المصدر: مجلة التوحيد/العدد84 لسنة1996م

ارسال التعليق

Top