• ١٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المساواة بين الخصوم امام القضاء في الشريعةالإسلامية

د.فتحي والي

المساواة بين الخصوم امام القضاء في الشريعةالإسلامية

1- حق الحياة
(أ‌) حياة الإنسان مقدسة... لا يجوز لأحد أن يعتدي عليها: (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) ولا تسلب هذه القدسية إلا بسلطان الشريعة وبالإجراءات التي تقرها.
(ب‌) كيان الإنسان المادي والمعنوي حمىً، تحميه الشريعة في حياته، وبعد مماته، ومن حقه الترفق والتكريم، في التعامل مع جثمانه: "إذا كفَّن أحدكم أخاه فليحسن كفنه". ويجب ستر سوءاته وعيوبه الشخصية: "ولا تسبّوا الأموات فإنهم أفضوا إلى ما قدّموا".
2- حق الحرية
(أ‌) حرية الإنسان مقدسة ـ كحياته سواء ـ وهي الصفة الطبيعية الأولى التي بها يولد الإنسان: "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة". وهي مستصحبة ومستمرة، ليس لأحد أن يعتدي عليها: "متى اسْتَعْبَدْتُمُ الناسَ وقد وَلَدَتْهُم أمهاتهم أحراراً". ويجب توفير الضمانات الكافية لحماية الأفراد، ولا يجوز تقييدها أو الحد منها إلا بسلطان الشريعة، وبالإجراءات التي تقرّها.
(ب‌) لا يجوز لشعب أن يعتدي على حرية شعب آخر، وللشعب المعتدي عليه أن يردّ العدوان ويسترد حريته بكل السبل الممكنة: (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل)(الشورى/41). وعلى المجتمع الدولي مساندة كل شعب يجاهد من أجل حريته، ويتحمل المسلمون في هذا واجباً لا ترخص فيه: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)(الحج/41).
3- حق المساواة
(أ‌) الناس جميعاً سواسية أمام الشريعة: "لا فضل لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلاَّ بالتقوى"، ولا تتمايز بين الأفراد في تطبيقها عليهم: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، ولا في حمايتها إياهم: "أَلاّ إنّ أضعفكم عندي القويّ حتى آخذ الحقّ له، وأقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق منه".
(ب‌) الناس كلهم في القيمة الإنسانية سواء: "كلُّكم لآدم وآدمُ من تراب"، وإنما يتفاضلون بحسب عملهم: (ولكل درجات مما عملوا)(الأحقاف/19). ولا يجوز تعريض شخص لخطر أو ضرر بأكثر مما يتعرض له غيره: "المسلمون تتكافأ دماؤهم". وكل فكرة وكل تشريع وكل وضع يسوغ التفرقة بين الأفراد على أساس الجنس أو العرق أو اللون أو الدين هو مصادرة مباشرة لهذا المبدأ الإسلامي العام.
(ج) لكل فرد حق في الانتفاع بالموارد المادية للمجتمع من خلال فرصة عمل مكافئة لفرصة غيره: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)(الملك/15). ولا يجوز التفرقة بين الأفراد في الأجر ما دام الجهد المبذول واحداً، والعمل المؤدَّى واحداً كمّاً وكيفاً: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)(الزلزلة/7-8).
4- حق العدالة
(أ‌) من حق كل فرد أن يتحاكم إلى الشريعة، وأن يحاكم إليها دون سواها: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)(النساء/59). (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم)(المائدة/49).
(ب‌) من حق الفرد أن يدفع عن نفسه ما يلحقه من ظلم: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم)(النساء/148). ومن واجبه أن يدفع الظلم عن غيره بما يملك: "لينصر الرجلُ أخاه ظَالِماً أو مظلوماً: إنْ كان ظالماً فلْيَنْهَهُ وإنْ كان مظلوماً فلينصره".
ومن حق الفرد أن يلجأ إلى سلطة شرعية تحميه وتنصفه وتدفع عنه ما لحقه من ضرر أو ظلم. وعلى الحاكم المسلم أن يقيم هذه السلطة، ويوفر لها الضمانات الكفيلة بحيدتها واستقلالها: "إنما الإمام جُنَّةٌ يقاتلَ مِنْ ورائه، ويُحْتَمَى به".
(ج) من حق الفرد ـ ومن واجبه ـ أن يدافع عن حق أي فرد آخر، وعن حق الجماعة "حسبة": "أَلاَ أُخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي قبل أن يُسْأَلها" (يتطوع بها حسبة دون طلب من أحد).
(د‌) لا تجوز مصادرة حق الفرد في الدفاع عن نفسه تحت أي مسوِّغ: "إن لصاحب الحق مقالاً". "إذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضِيَن حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبيّن لك القضاء".
(ه‍) ليس لأحد أن يُلْزِم مسلماً بأن يطيع أمراً يخالف الشريعة، وعلى الفرد المسلم أن يقول "لا" في وجه من يأمره بمعصية، أيّاً كان الأمر: "إذا أُمَرِ بمعصيةٍ فلا سمعٌ ولا طاعةٌ". ومن حقه على الجماعة أن تحمي رفضه تضامناً مع الحق: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه".
5- حق الفرد في محاكمة عادلة
(أ‌) البراءة هي الأصل: "كُلُّ أُمَّتي معافى إلا المجاهرين"، وهو مستصحب ومستمر حتى مع اتهام الشخص ما لم تثبت إدانته أمام محكمة عادلة إدانة نهائية.
(ب‌) لا تجريم إلا بنص شرعي: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)(الإسراء/15). ولا يُعْذَر مسلم بالجهل بما هو معلوم من الدين بالضرورة، ولكن يُنظَر إلى جهله ـ متى ثبت ـ على أنه شبهة تُدْرأ بها الحدود فحسب: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمَّدت قلوبكم)(الأحزاب/5).
(ج) لا يُحْكَم بتجريم شخص ولا يُعَاقَب على جرم إلا بعد ثبوت ارتكابه له بأدلة لا تَقْبل المراجعة، أمام محكمة ذات طبيعة قضائية كاملة: (إن جاءكم فاسق بنبإِ فتبينوا)(الحجرات/6) (وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً)(النجم/28).
(د) لا يجوز ـ بحال ـ تجاوز العقوبة التي قدرتها الشريعة للجريمة: (تلك حدود الله فلا تعتدوها)(البقرة/229). ومن مبادئ الشريعة مراعاة الظروف والملابسات التي ارتكبت فيها الجريمة درءاً للحدود: "ادْرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله".
(ه‍) لا يؤخذ إنسان بجريرة غيره: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)(الإسراء/15). وكل إنسان مستقل بمسؤوليته عن أفعاله: (كل أمرئ بما كسب رهين)(الطور/21). ولا يجوز بحال أن تمتد المُسَاءلة إلى ذويه من أهل وأقارب، أو أتباع وأصدقاء: (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون)(يوسف/79).
6- حق الحماية من تعسف السلطة
لكل فرد الحق في الحماية من تعسف السلطات معه، ولا يجوز مطالبته بتقديم تفسير لعمل من أعماله أو وضع من أوضاعه ولا توجيه اتهام له إلا بناءً على قرائن قوية، تدل على تورطه فيما يوجه إليه: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثما مبيناً)(الأحزاب/58).
7- حق الحماية من التعذيب
(أ‌) لا يجوز تعذيب المجرم فضلاً عن المتهم: "إن الله يعذِّب الذين يعذِّبون الناس في الدنيا". كما لا يجوز حمل الشخص على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها، وكل ما يُنتزع بوسائل الإكراه باطل: "إن الله وضع عن أُمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
(ب‌) مهما كانت جريمة الفرد، وكيفما كانت عقوبتها المقدَّرة شرعاً، فإن إنسانيته، وكرامته الآدمية تظل مصونة.
8- حق الفرد في حماية عرضه وسمعته
عرض الفرد وسمعته حرمة لا يجوز انتهاكها: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا". ويحرم تتبع عوراته، ومحاولة النيل من شخصيته وكيانه الأدبي: (ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً)(الحجرات/12)، (ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب)(الحجرات/11).
9- حق اللجوء
(أ‌) من حق مسلم مُضطهَد أو مظلوم أن يلجأ إلى حيث يأمن في نطاق دار الإسلام، وهو حق يكفله الإسلام لكل مضطهَد، أيّاً كانت جنسيته أو عقيدته أو لونه، ويحمل المسلمين واجب توفير الأمن له متى لجأ إليهم: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه)(التوبة/6).
(ب‌) بيت الله الحرام ـ بمكة المشرفة ـ هو مثابة وأمن الناس جميعاً لا يصدّ عنه مسلم: (ومن دخله كان آمناً)(آل عمران/97)، (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً)(البقرة/125)، (سواء العاكف فيه والباد)(الحج/25).
10- حقوق الأقليات
(أ‌) الأوضاع الدينية للأقليات يحكمها المبدأ القرآني العام: (لا إكراه في الدين)(البقرة/256).
(ب‌) الأوضاع المدنية، والأحوال الشخصية للأقليات تحكمها شريعة الإسلام إنْ هم تحاكموا إلينا: (فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم فالقسط)(المائدة/42). فإن لم يتحاكموا إلينا كان عليهم أن يتحاكموا إلى شرائعهم ما دامت تنتمي ـ عندهم ـ لأصل إلهي: (وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك)(المائدة/43). (وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه)(المائدة/47).
11- حق المشاركة في الحياة العامة
(أ‌) من حق كل فرد في الأمة أن يعلم بما يجري في حياتها، من شؤون تتصل بالمصلحة العامة للجماعة، وعليه أن يسهم فيها بقدر ما تتيح له قدراته ومواهبه أعمالاً لمبدأ الشورى: (وأمرهم شورى بينهم)(الشورى/38). وكل فرد في الأمة أهل لتولّي المناصب والوظائف العامة متى توافرت فيه شرائطها الشرعية، ولا تسقط هذه الأهلية أو تنقص تحت أي اعتبار عنصري أو طبقي المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد من سواهم، يسعى بذمّتهم أدناهم.
(ب‌) الشورى أساس العلاقة بين الحاكم والأمة، ومن حق الأمة أن تختار حكامها، فإرادتها الحرة، تطبيقاً لهذا المبدأ، ولها الحق في محاسبتهم وفي عزلهم إذا حادوا عن شريعة: "إني وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم فإنْ رأيتموني على حقّ فأعينوني، وإنْ رأيتموني على باطل فَقَوِّموني، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسولَه، فإنْ عصيتُ فلا طاعة لي عليكم".
12- حق حرية التفكير والاعتقاد والتعبير
(أ‌) لكل شخص أن يفكر، ويعتقد، ويعبر عن فكره ومعتقده، دون تدخل أو مصادرة من أحد ما دام يلتزم الحدود العامة التي أقرَّتها الشريعة، ولا يجوز إذاعة الباطل، ولا نشر ما فيه ترويجاً للفاحشة أو تخذيلاً للأمة: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً* ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً)(الأحزاب/60-61).
(ب‌) التفكير الحر ـ بحثاً عن الحق ـ ليس مجرد حق فحسب، بل هو واجب كذلك: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا)(سبأ/46).
(ج‌) من حق كل فرد ومن واجبه: أن يعلن رفضه للظلم، وإنكاره له، وأن يقاومه، دون تهيُّب من مواجهة سلطة متعسفة، أو حاكم جائر، أو نظام طاغ.. وهذا أفضل الجهاد: "سئل رسول الله (ص): أيّ الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر".
(د) لا حظر على نشر المعلومات والحقائق الصحيحة، إلا ما يكون في نشره خطر على أمن المجتمع والدولة: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)(النساء/83).
(ه‍) احترام مشاعر المخالفين في الدين من خُلُق المسلم، فلا يجوز لأحد أن يسخر من معتقدات غيره، ولا أن يستعدي المجتمع عليه: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم، كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم)(الأنعام/108).
13- حق الحرية الدينية
لكل شخص: حرية الاعتقاد، وحرية العبادة وفقاً لمعتقده: (لكم دينكم ولي دين)(الكافرون/6).
14- حق الدعوة والبلاغ
(أ‌) لكل فرد الحق أن يشارك ـ منفرداً ومع غيره ـ في حياة الجماعة: دينياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً، الخ، وأن ينشئ من المؤسسات ويصطنع من الوسائل ما هو ضروري لممارسة هذا الحق: (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني)(يوسف/108).
(ب‌) من حق كل الفرد ومن واجبه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن يطالب المجتمع بإقامة المؤسسات التي تهيئ للأفراد الوفاء بهذه المسؤولية، تعاوناً على البر والتقوى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، (وتعاونوا على البر والتقوى)، "إنَّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوْشَكَ أن يعمّهم الله بعقاب".
15- الحقوق الاقتصادية
(أ‌) الطبيعة ـ بثرواتها جميعاً ـ ملك الله تعالى (لله ملك السماوات والأرض وما فيهن)(المائدة/120). وهي عطاء منه للبشر، منحهم حق الانتفاع بها: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه)(الجاثية/13). وحرَّم عليهم إفسادها وتدميرها: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين)(البقرة/60). ولا يجوز لأحد أن يحرم آخر أو يعتدي على حقه في الانتفاع بما في الطبيعة من مصادر الرزق (وما كان عطاء ربك محظوراً)(الإسراء/20).
(ب‌) لكل إنسان أن يعمل وينتج، تحصيلاً للرزق من وجوهه المشروعة: (وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها)(هود/6)، (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)(الملك/15).
(ج) الملكية الخاصة مشروعة ـ على انفراد ومشاركة ـ ولكل إنسان أن يقتني ما اكتسبه بجهده وعمله: (وأنه هو أغنى وأقنى)(النجم/48). والملكية العامة مشروعة، وتوظف لمصلحة الأمة بأسرها: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)(الحشر/7).
(د) لفقراء الأمة حق مقرر في مال الأغنياء، نظمته الزكاة: (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم)(المعارج24-25). وهو حق لا يحوز تعطيله، ولا منعه، ولا الترخيص فيه، من قبل الحاكم ولو أدى به الموقف إلى قتال مانعي الزكاة: "والله لو منعوني عقالاً، كانوا يؤدّونه إلى رسول الله( ص)، لقاتلتهم عليه".
(ه‍) توظيف مصادر الثروة ووسائل الإنتاج لمصلحة الأمة واجب، فلا يجوز إهمالها ولا تعطيلها: "ما من عبد استرعاه الله رعيّة فلم يُحِطْها بالنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنّة". كذلك لا يجوز استثمارها فيما حرمته الشريعة، ولا فيما يضر بمصلحة الجماعة.
(و) ترشيداً للنشاط الاقتصادي، وضماناً لسلامته، حرَّم الإسلام:
1- الغش بكل صورة: "ليس مِنَّا مَنْ غَشّ".
2- الغرر والجهالة، وكل ما يفضني إلى منازعات لا يمكن إخضاعها لمعايير موضوعية: "نهي النبي (ص) عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر". "نهي النبي (ص) عن بيع العنب حتى يَسْوَدَّ وعن بيع الحَبِّ حتى يشتدّ".
3- الاستغلال والتغابن في عمليّات التبادل: (ويل للمطففين* الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون* وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون)(المطففين/1-3).
4- الاحتكار، وكل ما يؤدي إلى منافسة غير متكافئة: "لا يحتكر إلا خاطئ".
5- الربا، وكل كسب طفيلي يستغل ضوائق الناس: (وأحل الله البيع وحرم الربا)(البقرة/275).
6- الدعايات الكاذبة والخادعة: "البيعان بالخيار ما لم يتفرّفا، فإن صدَقَا وبينَّا بورك لهما في بيعهما، وإنْ غَشَّا وكذبا مُحِقت بَرَكة بيْعهما".
(ز) رعاية مصلحة الأمة، والتزام قيم الإسلام العامة، هما القيد الوحيد على النشاط الاقتصادي في مجتمع المسلمين.
16- حق حماية الملكية
لا يجوز انتزاع ملكية، نشأت عن كسب حلال، إلا للمصلحة العامة: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل)(النساء/29). ومع تعويض عادل لصاحبها: "مَن أخذ مِن الأرض شيئاً بغير حقّه خُسِفَ به يوم القيامة إلى سبع أرضين". وحرمة الملكية العامة أعظم، وعقوبة الاعتداء عليها أشدّ لأنه عدوان على المجتمع كله، وخيانة للأمة بأسرها: "ومن استعملناه منكم على عمل فكتمنا منه مخيطاً فما فوقه، كان غلولاً يأتي به يوم القيامة". "قيل يا رسول الله: إن فلاناً قد استشهد! قال: كلا! لقد رأيته في النار بعباءة قد غلّها. ثم قال: يا عمر: قُمْ فنِاد: إنه لا يدخل الجنّة إلا المؤمنون ـ ثلاثاً ـ".
17- حق العامل وواجبه
العمل شعار رفعه الإسلام لمجتمعه: (وقل اعملوا)(التوبة/105). وإذا كان حق العمل الإتقان: "إنّ الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" فإن حق العامل:
1- أن يوفى أجره المكافئ لجهده دون حيف عليه أو مماطلة له: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه".
2- أن توفر له حياة كريمة تتناسب مع ما يبذله من جهد وعرق: (ولكل درجات مما عملوا)(الأحقاف/19).
3- أن يمنح ما هو جدير به من تكريم المجتمع كله له: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)(التوبة/105). "إن الله يحب المؤمن المحترف".
4- أن يجد الحماية، التي تحول دون غبنه واستغلال ظروفه. قال الله تعالى: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرّاً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره".
18- حق الفرد في كفايته من مقومات الحياة
من حق الفرد أن ينال كفايته من ضروريات الحياة: من طعام وشراب وملبس ومسكن، ومما يلزم لصحة بدنه من رعاية، وما يلزم لصحة روحه وعقله من علم ومعرفة وثقافة في نطاق ما تسمح به موارد الأمة. ويمتد واجب الأمة في هذا ليشمل ما لا يستطيع الفرد أن يستقل بتوفيره لنفسه من ذلك: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)(الأحزاب/6).
19- حق بناء الأسرة
(أ‌) الزواج ـ بإطاره الإسلامي ـ حق لكل إنسان. وهو الطريق الشرعي لبناء الأسرة وإنجاب الذرية، وإعفاف النفس: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منهما زوجها وبث منهما رجالاً كثيرا ونساءً)(النساء/1).
ولكل من الزوجين قِبَلَ الآخر ـ وعليه له ـ حقوق وواجبات متكافئة قررتها الشريعة: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة)(البقرة/228). وللأب تربية أولاده بدنياً وخلقياً ودينياً، وفقاً لعقيدته وشريعته، وهو مسؤول عن اختياره الوجهة التي يوليهم إياها: "كلُّكم راعٍ وكلًّكم مسؤول عن رعيته".
(ب‌) لكل من الزوجين قِبَلَ الآخر حق احترامه، وتقدير مشاعره وظروفه، في إطار من التواد والتراحم: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة).
(ج) على الزوج أن ينفق على زوجته وأولاده دون تقتير عليهم: (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله)(الطلاق/7).
(د) لكل طفل على أبويه حق إحسان تربيته، وتعليمه، وتأديبه: (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً)(الإسراء/24). ولا يجوز تشغيل الأطفال في سن باكرة، ولا تحميلهم من الأعمال ما يرهقهم أو يعوق نموهم أو يحول بينهم وبين حقهم في اللعب والتعلم.
(ه‍) إذا عجز والدا الطفل عن الوفاء بمسؤوليتهما نحوه، انتقلت هذه المسؤولية إلى المجتمع، وتكون نفقات الطفل في بيت مال المسلمين ـ الخزانة العامة للدولة ـ : "أنا أوْلَى بكلّ مؤمن من نفسه، فمن ترك دَيْناً أو ضيعة فَعَليَّ، ومن ترك مالاً فلِوَرَثَته".
(و‌) لكل فرد في الأسرة أن ينال منها ما هو في حاجة إليه: من كفاية مادية، ومن رعاية وحنان، في طفولته وشيخوخته وعجزه، وللوالدين على أولادهما حق كفالتهما مادياً، ورعايتهما بدنياً ونفسياً: "أنت ومالُك لِوالِدِك".
(ز) للأمومة حق في رعاية خاصة من الأسرة: "يا رسول الله: من أحقّ الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمّك: قال ـ السائل ـ: ثم من؟ قال: أمّك. قال: ثم من؟ قال: أمّك. قال: ثم من؟ قال: أبوك".
(ح) مسؤولية الأسرة شركة بين أفرادها، كل بحسب طاقته وطبيعة فطرته، وهي مسؤولية تتجاوز دائرة الآباء والأولاد لتعمّ الأقارب وذوي الأرحام: "يا رسول الله: مَن أبر؟ قال: أمّك! ثم أمّك! ثم أمّك! ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب".
(ط) لا يُجْبَر الفتى أو الفتاة على الزواج ممن لا يرغب فيه: "جاءت جاريةٌ بِكْر إلى النبي (ص)فذكرت أن أباها زَوَّجها وهي كارهة فخَّيرها النبيّ (ص).
20- حقوق الزوجة
(أ‌) أن تعيش مع زوجها حيث يعيش: (أسكنوهن من حيث سكنتم)(الطلاق/6).
(ب‌) أن ينفق عليها بالمعروف طوال زواجهما، وخلال فترة عدتها إنْ هو طلقها: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)(النساء/34). (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن)(الطلاق/6). وأن تأخذ من مطلقها نفقة من تحضنهن من أولاده منها، بما يتناسب مع كسب أبيهم: (فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن)(الطلاق/6).
(ج) تستحق الزوجة هذه النفقات أَيّاً كان وضعها المالي وأيّاً كانت ثروتها الخاصة.
(د) للزوجة أن تطلب من زوجها: إنهاء عقد الزواج ـ ودِّيّاً ـ عن طريق الخلع: (فإن خفتم ألا يقيما ـ (الزوجان) ـ حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به)(البقرة/229). كما أن لها أن تطلب التطليق قضائياً في نطاق أحكام الشريعة.
(ه‍) للزوجة حق الميراث من زوجها، كما ترث من أبويها وأولادها وذوي قرابتها: (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم)(النساء/12).
(و) على كلا الزوجين أن يحفظ غيب صاحبه، وألاَّ يفشي شيئاً من أسراره، وألاَّ يكشف عما قد يكون به من نقص خِلْقِيّ أو خُلُقِيّ، ويتأكد هذا الحق عند الطلاق وبعده: (ولا تنسوا الفضل بينكم)(البقرة/237).
21- حق التربية
(أ‌) التربية الصالحة حق الأولاد على الآباء، كما أن البّر وإحسان المعاملة حق الآباء على الأولاد: (وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحساناً، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً* واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً)(الإسراء/23-24).
(ب‌) التعليم حق للجميع. وطلب العلم واجب على الجميع ذكوراً وإناثاً على السواء: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة". والتعليم حق لغير المتعلم على المتعلم: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون)(البقرة/187). "ليبلغ الشاهدُ الغائب".
(ج) على المجتمع أن يوفر لكل فرد فرصة متكافئة ليتعلَّم ويستنير: "مَنْ يُرِد اللهُ به خيراً يفقِّهه في الدَّين. وإنما أنا قاسم والله ـ عزّ وجل ـ يعطي". ولكل فرد أن يختار ما يلائم مواهبه وقدراته: "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له".
22- حق الفرد في حماية خصوصياته
سرائر البشر إلى خالقهم وحده: "أفلا شققت عن قلبه". وخصوصياتهم حمى، لا يحل التسور عليهم: (ولا تجسسوا). "يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه: لا تؤذوا المسلمين ولا تعيِّروهم ولا تتَّبعوا عوراتهم، فإنه من تتَبَّع عورةَ أخيه المسلم تتبَّع الله عورته، ومن تتبَّع الله عورته يفضحه ولو في جوف رَحْلِهِ".
23- حق حرية الارتحال والإقامة
(أ‌) من حق كل فرد أن تكون له حرية الحركة، والتنقل من مكان إقامته وإليه، وله حق الرحلة والهجرة من موطنه والعودة إليه دون ما تضييق عليه أو تعويق له: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)(الملك/15). (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين)(الأنعام/11). (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)(النساء/97).
(ب‌) لا يجوز إجبار شخص على ترك موطنه ولا إبعاده عنه تعسفاً أو دون سبب شرعي: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير، وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله)(البقرة/217).
(ج) دار الإسلام واحدة، وهي موطن لكل مسلم، لا يجوز أن تقيَّد حركته فيها بحواجز جغرافية أو حدود سياسية. وعلى كل بلد أن يستقبل من يهاجر إليه أو يدخله من المسلمين استقبال الأخ لأخيه: (والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)(الحشر/9).
الخلاصة
إن الدولة الإسلامية التي ليس لها دستور مكتوب وإنما تعتبر القرآن الكريم والسنَّة النبوية دستورها وتشريعها المدَّون، تُرْجع حقوق الإنسان إلى ما ورد بشأنها من آيات قرآنية وأحاديث نبوية فضلاً عما ورد في سيرة الخلفاء الراشدين وفقه الأئمة المعتمدين. فالمصادر القانونية لحقوق الإنسان في مثل هذه الدول تتمثل دستورياً وتشريعياً في الشريعة الإسلامية أساساً للحكم في الدولة أساساً لحقوق الإنسان: وهو أساس يضاف إلى الأساس الدولي للحقوق الإنسانية الذي يُعتبر أحدث في النشأة.
وبالنسبة لسائر الدول في العالم الإسلامي التي وضعت لنفسها دساتير مكتوبة وتشريعات في حقوق الإنسان، فإن القرآن الكريم والسنَّة النبوية يظلان فيما لم يرد بشأنهما دستور أو تشريع مصدراً احتياطياً إلى جانب المصدر الرسمي المباشر أي الدستور والتشريع.


المصدر : حقوق الإنسان مجلد3  (اعداد محمود شريف بسيوني)

ارسال التعليق

Top