• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الناصية ووظيفة الفص الجبهي للدماغ.. دراسة إعجازية لسورة العلق

أ. د. محمد يوسف سكر

الناصية ووظيفة الفص الجبهي للدماغ.. دراسة إعجازية لسورة العلق

ورد في القرآن الكريم ذكر الناصية – وهي مقدمة الرأس أو الجبهة(1) – في آيتين من سورة العلق، ربطت الأولى منها بين الناصية والتحكم في اتخاذ القرار، في قوله تعالى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ) (العلق/ 15)، ووصفت الآية الثانية، ذات الناصية بالكذب والخطأ في قوله تعالى: (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) (العلق/ 16)، ووصفتها آية أخرى بأنّها مكان القيادة في المخلوق الحي وبها جماع أمره كله قال تعالى: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (هود/ 56)، كما أشارت إلى هذا المعنى آيات قرآنية أخرى وأحاديث نبوية كريمة.

- الجانب التفسيري:
وبعد مراجعة أقوال اللغويين والمفسرين لهذه النصوص ظهر لنا أنها تشير إلى الحقائق التالية:
وصف ذات الناصية وصفاً حقيقياً بالكذب والخطأ، فمعنى ناصية كاذبة خاطئة: أي كاذبة في قوله خاطئة في فعلها(2)، أي أنّ القدرة على التحكم في الأقوال بجعلها الأفعال بجعلها خطأ أو صواباً، وصف لازم من أوصاف الناصية، وهذا الوصف وإن كان وارداً للناصية، التي تعنى مقدم الجبهة، إلا أنّه لا يوصف بهذه الأوصاف على الحقيقة، لأنّه جزء عظمى من الرأس فعند التحقيق بدراسة التركيب التشريحي لمنطقة أعلى الجبهة وجد أنها تتكون من أحد عظام الجمجمة المسمى بالعظم الجبهي (Frontal bone) وبهذا يمكن القول بأنّ الناصية كما تطلق على العظم الجبهي، يمكن أن تطلق أيضاً؟ على ما يستتر خلفه من الفص الجبهي للدماغ، حيث أنّه الجزء والمكان الذي يمكن أن يوصف بهذه الأوصاف وصفاً حقيقياً، ويتحقق العمل فيه بظاهر النص من غير حاجة إلى تأويل أو مجاز، وتعبير إسناد الوصف أو الفعل لشيء والمراد ما فيه تعبير شائع في القرآن الكريم، ولا أدل على هذا من قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا) (يوسف/ 82)، فلا يوجه السؤال إلى مباني القرية أو إلى ذوات العير، وإنما للناس داخل هذه القرية والمصاحبين منهم لهذه العير كما أن مفهوم النص في قوله تعالى: (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) (هود/ 56)، وقول النبي (ص) في الحديث (ناصيتي بيدك) يؤكد هذا المعنى حيث تشير النصوص إلى أنّ الجزء المختص بقيادة الدواب كلها وتوجيهها – وعلى رأسها الإنسان – يخضع لهيمنة الله وسلطانه وهذا الجزء لابدّ أن يكون في الدماغ حيث هو العضو المختص بتسيير شؤون الدواب والسيطرة على تصرفاتها وبما أنّ النصوص سمت هذا الجزء بالناصية فلابدّ أن يشمل الجزء الأمامي من الدماغ الذي يقع خلف مقدمة الرأس.
بناء على ذلك فإنّ مفهوم النصوص، يتيح لنا أن نقول بأنّ الناصية بما تحوى من الفص الجبهي للدماغ هي مكان القيادة والتوجيه للسلوك والتصرفات الإنسانية.
2- حرِّية الاختيار متاحة للإنسان وهي مرتبطة كما يفهم من الآية بالناصية، أي بالفص الجبهي للدماغ، فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يمكن أن يتحكم في سلوكه، وفق ضوابط التصرفات القولية والفعلية، من الصدق والكذب والصواب والخطأ، لذا قال ربنا سبحانه: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ)، أي لئن لم ينته عما يقول ويفعل وينزجز، لنأخذن بناصيته أخذاً عنيفاً، وربما يشير هذا التهديد بقطع أو فصل الناصية، لأنّ السفع هو الجذب الشديد.

- الجانب العلمي:
هذه هي الحقائق المفهومة من النصوص، فماذا قال العلم الحديث عن ناصية الإنسان والحيوان؟
يظهر العلم الحديث عدة حقائق عن ناصية الإنسان ودماغه يمكن تلخيصها في النقاط التالية
1- دماغ الإنسان هو الأضخم:
يعتبر دماغ الإنسان من وجهة النظر التشريحية، أضخم ما في ملكة الحيوان بالنسبة لوزن الجسم، لكن هناك ثلاثة حيوانات فقط تتمتع بأكبر وزن مطلق للمخ وهي الحوت والفيل وخنزير البحر.
2- الفص الجبهي أكبر فصوص الدماغ:
يتكوّن دماغ الإنسان من عدة فصوص: الفص القذالي والجداري والصدغي، فإنّ الفص الجبهي هو أكبرها على الإطلاق.
3- قشرة المخ هي الوزن أو الحجم الأكبر في الدماغ:
يتكون حجم أو وزن دماغ الإنسان إلى حد كبير من المخ (Cerebrum)، وعلى الأخص قشرة المخ (Cerebral Cortex)، والتي يمثل الجزء الأكبر منها مناطق الربط الثلاث. منطقة الربط الجدارية الصدغية القذالية، ومنطقة الربط الجدارية الصدغية القذالية، ومنطقة الربط الصدغية، ومنطقة الربط الجبهية.
وتتكون النسبة الكبرى من مناطق الربط هذه، من قشرة المنطقة قبل الحركية (Premotor Area)، وقشرة المنطقة الحركية الإضافية (Supplementary motor area).
4- يمتلك الإنسان قشرة مخ شاسعة بالنسبة للحيوان، خاصة قشرة الفص الجبهي:
يختلف دماغ الإنسان عن دماغ الحيوان من الناحية الشكلية، حيث تتسع مساحة قشرة المخ، وخاصة قشرة الفص الجبهي، كما يزداد حجمه، أما لدى معظم الحيوانات فيتكون الفص الجبهي إلى حد كبير من قشرة الشم، التي لا تعدو لدى الإنسان أن تمثل جزءاً صغيراً، إذا ما قورنت بالأجزاء الكبرى من قشرة الفص الجبهي.
5- قشرة الدماغ الحوفية التي تتحكم في الوظائف الغريزية، أكبر في الحيوان منها في الإنسان:
وهناك أيضاً ميزة شكلية أخرى هامة تتعلق بحجم قشرة الدماغ الحوفية، والتي تتحكم في الوظائف الحركية الغريزية أو الانعكاسية، مقارنة بقشرة المخ الحديثة (Neo Cortex)، وهذا يقدم لنا الدليل على أنّ التحكم في الوظائف الحركية لدى الحيوانات، يكون إما انعكاسياً أو موجهاً بالغرائز، أما في الإنسان فتخضع وظائفه الحركية وتصرفاته للوعي والإدراك الموجه من قبل مساحة قشرة الدماغ الشاسعة.
6- تكوين الألفاظ المنطوقة يقع في الفص الجبهي:
إنّ التحكم في اختيار وتكوين الكلمات استعداداً للنطق حيث تختار الألفاظ في منطقة التلفيف الزاوي، ثمّ تكون الألفاظ أو الكلمات المنطوقة، في منطقة بروكا (Broca’s area) في الفص الجبهي، الواقعة أمام الجزء الأسفل من القشرة الحركية (Primary Motor Cortex)، التي تتحكم في الأعضاء المتعلقة بالنطق، وهذا يدل على أنّ مفتاح التحكم في الكلمات المنطوقة هو في الفص الجبهي للمخ، أي في الناصية، لذلك فليس كل الألفاظ التي ترد إلى الذهن تظهر على اللسان، وذلك لمرورها على مركز تكوين الكلمات في الناصية، لذا فالإنسان محاسب ومسؤول عما ينطق به لسانه طالما يستطيع التحكم في اختيار الألفاظ وأعضاء النطق وعلى رأسها اللسان، وقد أشار النبي (ص) إلى هذه الحقيقة بقوله: "فأخذ بلسانه قال: كف عليك هذا...".
7- التوجيه الإرادي للنظر في اتجاه محدد يقع في الفص الجبهي:
هنالك أيضاً في الفص الجبهي ما يماثل منطقة بروكا من تلفيف القشرة الحركية وهي منطقة تختص بتحريك العينين ومنطقة فوقها تختص بتحريك الرأس في حركة دائرية، وكلا المنطقتين توجه وتركز النظر في اتجاه معين وفق حركة إرادية، وهاتين المنطقتين توجهان قشرة الحركة الأولية (Primary Motor Cortex)، لإدارة الرأس وتركيز العينين في اتجاه محدد، إذاً فالتوجيه الإرادي للنظر يقع في الفص الجبهي أو الناصية، وهذا يتوافق مع ما أشار إليه النبي (ص) في حديث المؤاخذة على النظر المحرم للمرأة، حين قال لعلي (ع): "يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة"(3)، وفي رواية قال: "النظرة الأولى لك والآخرة عليك"(4).
فالأولى فجائية فيها تركيز وتوجيه، وإنما تقع المؤاخذة على النظرة الثانية الإرادية المحددة والموجهة.
8- التحكم الإرادي لحركة جميع أجزاء الجسد يقع في الفص الجبهي
أثبتت الأبحاث أنّ المنطقة الحركية الإضافية والمنطقة قبل الحركية، تعملان باعتبارهما منشئتان للوظيفة الحركية وتخزنان برامج الحركة التي تعتبر جزءاً من التخطيط الخاص، بتحكم مجموعة معينة من العضلات على القيام بحركة طوعية، لذلك فإنّه يمكن الاستنتاج أنّه كما هو الحال فيما يتعلق بالنطق واختيار الألفاظ وتحريك الرأس والعينين، فإن قشرة الفص الجبهي أو الناصية هي المختصة بالتحكم الواعي للقيام بعمل طوعي أو عدم القيام به، مما يتطلب تحريك بعض أو كل أجزاء الجسد.
9- التناسق بين حركة النطق وحركات الجسم يقع في الفص الجبهي:
إنّ احتواء الفص الجبهي للمنطقة الحركية الإضافية والمنطقة الحركية الأولية تشير إلى التناظر ما بين منطقة (بروكا) المتعلقة بالسيطرة على النطق من جهة، ومناطق تحريك الرأس والعينين وبين المنطقة ما قبل الحركية، المتعلقة بالسيطرة على الوظائف الحركية الأخرى، تؤدي إلى التصرفات الطوعية لسائر أعضاء الجسد مما يؤكد أنّ التناسق بين حركة النطق والنظر وحركات الجسم المختلفة، يقع في الفص الجبهي أو الناصية.
10- قشرة المخ في الفص الجبهي تتحكم في سلوك الإنسان:
ولتأكيد هذا الاستنتاج نجد أنّ عدم وجود معظم قشرة الفص الجبهي في الحيوانات يظهر أثره في السلوك الحيواني، فحاسة الشم تثير السلوك الجنسي مباشرة وكذلك السلوك الغذائي والنشاط الحركي المتعلق بهذه الوظائف، أما بالنسبة للإنسان فلابدّ من اعتبارات ومعلومات تم تخزينها وترسيخها مسبقاً في وظائف قشرة الدماغ خاصة في مناطق الربط، بالإضافة إلى الوظائف الحوفية الغرائزية، قبل أن يقع السلوك الجنسي أو الغذائي أو أي سلوك آخر، مع ما يتبع ذلك من القيام بأعمال حركية أخرى بالأيدي أو الأرجل، أو أي أجزاء أخرى من الجسم، كحركة العين للرؤية، وحركة اللسان بالنطق، هكذا يكون الخيار بالقيام بعمل أو عدم القيام به مركوزاً في مناطق الحركة الإرادية في الفص الجبهي ذو المساحة الشاسعة من قشرة الدماغ خاصة في مناطق الربط فيه.
11- السلوك الغريزي المكتسب:
يمكننا بعبارات تواكب عصر الحاسوب وصف السلوك الغريزي بالبرامج الداخلية التكوين، التي تحركها منبهات محددة، ووصف السلوك المكتسب بالبرامج الخارجية للحاسوب.
ويتمثل السلوك الغريزي بوضوح في سلوك الحيوانات، حيث تثير – كما ورد سابقاً – حاسة الشم، السلوك الجنسي مباشرة، وكذلك السلوك الغذائي والنشاط الحركي المتعلق بهذه الوظائف، والدليل على ذلك كبر حجم قشرة الدماغ الحوفية (Limbic Cortex) مقارنة بقشرة المخ الحديثة (Neo Cortex) في جميع الحيوانات السفلي، حيث تمثل القشرة الحوفية الأجزاء من قشرة المخ، وهذا يثبت لنا أنّ التحكم في الوظائف الحركية لأعضاء جسم الحيوان يكون إما انعكاسياً أو موجهاً بالغرائز إلى درجة كبيرة.
هذا، وقد أثبتت التجارب أنّ الدافع لسلوك الحيوان هو غريزي أو فطري، بناء على معلومات مركوزة محددة في قشرة الدماغ الحوفية، وقد يؤثر عليه بعض التجارب المكتسبة من البيئة، وقد وجد بعض الباحثين أنّ الفئران التي تمت تنشئتها في ظلام تام منذ ولادتها، استطاعت أن تتبين حجم الأشكال وبريقها، بالقدر نفسه من الدقة التي ظهرت لدى فئران تم تنشئتها في ظروف طبيعية(5)، لذلك فإنّ المعلومات الغريزية هي العامل الرئيسي الموجه للسلوك الحيواني.
أمّا السلوك المكتسب فهو الذي توجهه معلومات مكتسبة من البيئة، تركزت في قشرة مخ الحيوان، وإذا نظرنا إلى قشرة المخ الإنساني نجد أنّ مناطق الربط فيها) (Association areas) لما لها من سيطرة، ولما تقوم به في توظيف المعلومات الحسية، لتؤدي دوراً بارزاً ومهماً في إمكانات التعلم الهائلة لدى البشر، فهناك كم هائل من المعلومات المبرمجة والتي يتم اكتسابها إما من خلال الخبرات العشوائية المستمدة من البيئة، أو من خلال عملية التربية والبرامج الدراسية، وتعتبر مناطق الربط الجدارية – الصدغية القذالية، التي توجد غالباً في نصف المخ السائد (Categoric or dominant hemisphere) هي المختصة بعملية تعلم اللغات عبر حواس السمع والبصر، ثمّ تنتقل هذه المعلومات المكتسبة من الألفاظ وسائر العلاقات المرئية، من خلال التلفيف الزاوي (The angular gyrus)، والحزمة المقوسة (Arcuate fasciculus) التي تقع تحته، إلى منطقة (بروكا) في الفص الجبهي، والتي تقوم بتكوين الكلمات المنطوقة. كما تنتقل الاستجابة النطقية عن طريق الحزمة المقوسة من منطقة فيزنيكي (Wernike’s area) الواقعة في أعلى التلفيف الصدغي، والمسؤولة عن فهم المعلومات السمعية والمرئية إلى منطقة بروكا أيضاً، الواقعة أمام الجزء الأسفل من القشرة الحركية، والتي تتحكم في الأعضاء المتعلقة بالنطق.
وهكذا تنتقل جميع المعلومات المكتسبة والمفهومة بالتعلم بواسطة السمع والبصر إلى مركز التحكم النهائي في الفص الجبهي، لاستخدامها في النطق بالألفاظ المناسبة.
هذا، وقد تمت دراسة منطقة المهارات الإدراكية (Congnitive Skills)، ذات العلاقة، بوظائف الرؤية والسمع وغيرها من الوظائف الحسية، وثبت ارتباطها وتأثيرها على الوظائف الحركية، وقد أولت البرامج التعليمية هذه الحقيقة اهتماماً كبيراً، في تركيزها على تطوير المهارات الإدراكية والحركية معاً. كل ذلك يثبت أنّ السلوك الإنساني ليس كالسلوك الحيواني توجهه الغرائز فقط، وإنما تسيطر عليه وتوجهه المعلومات والخبرات المكتسبة من البيئة، لذلك فالسلوك الإنساني المكتسب قابل للتغيير والتطوير، عكس السلوك الحيواني الغريزي، ويمتلك الإنسان المقدرة لإحداث هذا التغيير في سلوكه بناء على خصوصيته في اختيار معلوماته واكتساب خبراته، وضبط سلوكه وفق معايير وقيم مكتسبة، إن خيراً فخيرا وإن شراً فشرا، وقد أثبت القرآن الكريم هذه الحقيقة وبيّن أنّها قانون عام وسنة مضطردة في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11)،
كما أشار القرآن الكريم إلى أنّ الأشياء المسموعة والمبصرة والمدركة بالفؤاد، تصب كلها في محل التحكم في السلوك واتخاذ القرار، التي تنبني عليه المسؤولية في قوله تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/ 36)، وهذا يتوافق مع ما سبق من حقائق في هذه الموضوع.
إنّ الإنسان يكتسب في بيئته المعلومات التي توجه سلوكه وتصرفاته، إما من برامج التربية والتعليم القائمة على الدين والأخلاق، فينشأ الفرد بسلوك قويم وتصرفات رشيدة وفق صحة هذا الدين، ورسوخ قيمه وأخلاقه في قشرة دماغه، بغير معارضة لما فطر عليه من معلومات بدهية مركوزة فيه، أو يتلقى الإنسان معلوماته من مصادر لا تعتمد في برامجها النواحي الدينية والأخلاقية، فينشأ الفرد على اتباع الهوى والغرائز تحت شعار الحرية الشخصية، وأحياناً يتصرف هذا الإنسان بسلوك أدنى وأضل من سلوك الحيوان، وقد أثبتت الدراسات هذه الحقيقة، فقد وجد أنّ المجتمعات التي تهمل فيها برامج التربية والتعليم الناحية الروحية، ولا تهتم بالقيم الدينية اللازمة لتوجيه سلوك الإنسان، ينشأ الفرد فيها وقد سيطرت ووجهت سلوك الأهواء والغرائز والقيم المادية دون واعز من الفطرة التي جبلت على الخير أو دين يهدي إلى الرشد.
هذا، ويتوافق مفهوم السلوك الغريزي والسلوكي المكتسب عند الإنسان – كما أثبته العلم – مع نصوص القرآن والسنة التي أشارت إلى هذه الحقائق منذ أربعة عشرة قرناً من الزمان، فقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، وميزه بالعقل والإدراك، وأودع فيه بجانب غرائزه الحيوانية، قدراً من المعلومات الأساسية الهامة وسماها الفطرة، أو فطرة الإيمان كما قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم/ 30)، وكما قال (ص): "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه..."(6)، وكقوله (ص): "أصبحنا على فطرة الإيمان..."، فالفطرة على الإيمان تمثل البرنامج الداخلي للدماغ التي تكون قاعدة ثابتة وراسخة من المعلومات المركوزة في نفس الإنسان، تجعله دائماً على استعداد للإيمان وطاعة الله، ما لم يشوش عليها أو تطمسها معلومات أخرى، مضادة لها أو متعارضة معها، مكتسبة من البيئة المحيطة، وهذا ما أشار إليه النبي (ص) في الحديث: "فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، وأشار إليه في الحديث الآخر: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم(7) عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا"(8).
بينما تمثل التعاليم التي أوحى الله بها إلى الأنبياء لتبليغها للناس برامج مكتسبة لضبط وتوجيه سلوكهم، وهي التي فيها التكليف والاختيار وعليه الجزاء. قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (المائدة/ 48).
إذن يمكننا أن نقول بأنّ الوحي الذي لم يتبدل ويتغير والمتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية، هو بمثابة برنامج مكتسب ومنهاج للتحكم أو السيطرة على تصرفات البشر أفراداً كانوا أو جماعات وأمماً، بما يحقق مصالحهم العاجلة والآجلة، وهذا ما يتوافق ومفهوم الآية الكريمة: (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ) (الأحزاب/ 72) الآية، فكلمة الأمانة تعني قبول التكليف بطاعة الله على أساس من حرية الاختيار المركوز في العقل الإنساني، حيث أنّ الإنسان هو المخلوق الذي وهبه الله هذه الخاصية، في قدرته على النظر والتفكير والتأمل، واتخاذ القرار وتحمل المسؤولية عن جميع ما يقوم به من سلوك وتصرف، خيراً كان أم شراً بناءً على برنامج أساس مركوز في النفس الإنسانية، وبرنامج آخر مكتسب، لذلك يتوجب علينا نحن المسلمين بما نملك من قواعد الدين الصحيح في العقيدة والقيم والأخلاق، وبما نملك من رصيد كبير في التربية والتزكية، والتي تشكل منهجاً متكاملاً يجمع شرائع الأنبياء جميعاً، منزلة من عند الله الخالق العليم الخبير، تضبط سلوك الإنسان بالعدل، وتوجه تصرفاته بالحكمة، وتهديه بالحق إلى سواء السبيل، فتهذب غرائزه وتحقق أمانيه ومصالحه، وتضفي على نفسه الرضا والطمأنينة، وتحميه من اليأس والقلق وجميع الآفات النفسية والجسدية، حرى بنا نحن المسلمين أن نقدم لأنفسنا وللبشرية الشاردة، ميثاقاً سلوكياً شاملاً لكافة أوجه الحياة متمثلاً في تأصيل برامج تعليمية وتربوية ليس فقط لتنمية المهارات الإدراكية والنفس حركية لكن لاتخاذ القرار الأمين الصالح في جميع التصرفات من الأقوال والأفعال محققين قول الله تعالى: (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب/ 4).

- الأدلة العلمية على صحة هذه الحقائق:
أ- فصل أو تلف الفص الجبهي يؤدي إلى اضطراب الشخصية في الأقوال والأفعال.
أثبتت الأدلة الإكلينيكية (السريرية) أنّ تلف الفص الجبهي أو فصله يؤدي إلى فقدان المريض التحكم في سلوكه الاجتماعي، والمقدرة على استعمال الألفاظ، مع تغيرات كبيرة في معالم الشخصية، حيث تنقص قدرته في التركيز وروح المبادرة والتحمل، وعلى حل المشكلات التي تحتاج لقدرة عقلية متميزة، وتتأثر قدرة المريض على الحكم على موقفه فيفقد الشعور بالمسؤولية نحو نفسه، كما تحدث بعض التغيرات العاطفية فيبدي المريض علامات الابتهاج والرضا عن النفس كما يفقد اهتمامه بمظهره الاجتماعي وقد يعاني من هبوط في المعايير الأخلاقية. وقد أخذ هذا كدليل قوي على وظيفة قشرة ما قبل الجبهة في التحكم في الجوانب الأكثر تعقيداً في السلوك البشري.
ب- قياس تدفق الدم في قشرة المخ: أصبح من الممكن في السنوات القليلة الماضية، قياس تدفق الدم في قشرة المخ، أو أجزاء أخرى منه عن طريق النظائر المشعة والرنين المغناطيسي الوظيفي، وقد استخدمت هذه الوسائل في دراسة الوظائف العليا للدماغ، خاصة في مجال وظائف أجزاء الدماغ المختصة باللغة، التي هي من خصائص الإنسان وقد تبين من هذه الدراسات: أنّ الفص الجبهي يزداد تدفق الدم في عدة مراكز منه عند التفكر في معاني الكلمات، وعند النطق بها، بينما يزداد النشاط في مناطق الإبصار في مؤخرة الدماغ، عند التعرض إلى بعض الحروف كشكل كلمة لا معنى لها.

- الاستنتاج:
بناءً على ما سبق نصل إلى الاستنتاج بأنّ التحكم في الحركات والأفعال الإرادية، تكمن في الفص الجبهي، وأنّ البرامج الحركية تزود بها القشرة الحركية من الفص الجبهي، من خلال القشرة قبل الحركية، ومن المعروف أنّ قشرة الدماغ هي المكان الذي يقوم بجميع الوظائف الواعية أو الإرادية الحركية، وعليه فإنّه يمكن القول باطمئنان: إنّ قشرة الفص الجبهي هي المسؤولية عن إرسال القرار الحركي الإرادي، لأجزاء الجسم، بما في ذلك حركة اللسان بنطق الألفاظ، وحركة الرأس والعينين، لتركيز النظر في اتجاه وغرض محدد، بناءً على ما ترسخ فيها من معلومات مسبقة، والتي تتمثل في فطرة الله أو فطرة الإيمان، وما اكتسبته من معلومات خارجية أخرى لتوجيه وضبط السلوك والتصرفات، لذلك يمكن أن نقول: إنّ حمل أمانة التكليف أو حرِّية الاختيار للأقوال والأفعال تكمن في الفص الجبهي للمخ أو الناصية والله أعلم.

- وجه الإعجاز:
أشار القرآن الكريم إلى أنّ ملاك أمر دواب الأرض كلها بما فيها الإنسان، ومكان تسيير شؤونها وقيادتها، يكمن في ناصيتها، في قوله تعالى: (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) (هود/ 56).
ووصف الله سبحانه ناصية الإنسان بالكذب والخطأ، ويتبع ذلك لزوماً وصفها بصفات الصدق والصواب وهذا الوصف وصف حقيقي للناصية بصفات سلوكية في قوله تعالى: (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) (العلق/ 16).
وقد ثبت في هذا البحث أنّ الفص الجبهي للدماغ والذي يقع داخل عظام ناصية الإنسان أو مقدم جبهته تقع فيه مراكز التحكم في القيام بالحركات والأعمال الطوعية واختيار ونطق الكلمات، ومركز توجيه وتركيز النظر في اتجاه مقصود محدد. كما أنّ مساحة قشرة الفص الجبهي تمثل المساحة الأكبر من قشرة الدماغ كله، والتي تؤدي دوراً حيوياً وبارزاً في التحكم الإرادي من خلال المعلومات والخبرات المختزنة فيها، بعد تحليلها واستدعائها لمركز التفكير والعقل، والذي ثبت وجوده أيضاً في الفص الجبهي، واستطاع العلماء تصويره وتحديد مكانه.
وبناءً على ذلك يمكننا القول باطمئنان: إنّ القرآن الكريم أشار إلى دور الفص الجبهي من الدماغ، الذي يقع داخل الناصية، في توجيه السلوك الإنساني، بالتحكم في الأقوال والأعمال، من خلال وجود مراكز تكوين الألفاظ، والتحكم في الحركات المتعلقة بالنطق والنظر وجميع الحركات الإرادية لكل أجزاء الجسم، ووجود مساحة شاسعة من قشرة الدماغ في هذا الفص، تتيح للإنسان تحصيل وتحليل المعلومات المكتسبة، مما يحقق له خبرة كبيرة في اختيار الأقوال والأفعال وتوجيه السلوك، بمساعدة مركز العقل والإدراك الموجود في هذا الفص، لذلك يمكن أن يشار إلى قشرة الفص الجبهي – لما فيها من هذه المراكز والإمكانات – بأنّها المنطقة المسؤولة عن ما يصدر من الخطأ والصواب والصدق والكذب وهذا الاستنتاج يتوافق مع نصوص القرآن والسنة التي نزلت على النبي محمد (ص) والتي أشارت بوضوح لهذه الوظائف للفص الجبهي للدماغ الكائن خلف الجبهة أو الناصية، وهو ما لم يكن معروفاً للعلماء في ذلك الزمان، ولم تكتشف هذه الحقائق إلا في النصف الثاني من هذا القرن، بعد التقدم الهائل في الأجهزة والدراسات العميقة في علم وظائف الأعضاء، ووظائف الفص الجبهي وفلقات الدماغ..
أليس هذا دليلاً إضافياً على أن محمداً رسولُ من عند الله، لا ينطق إلا بنور الله ووحيه!
قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (النجم/ 3-5).

المصدر: مجلة الإعجاز/ العدد 2 لسنة 1996م

- المراجع:
مراجع عربية
1- القرطبي (أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري) الجامع لأحكام القرآن، دار إحياء التراث.
2- ابن الجوزي (أبو الفتوح بن علي القرشي)، زاد المسير في علم التفسير (1404-1984م)، ط 1، المكتب الإسلامي – بيروت.
3- أبو حيان (محمد بن يوسف الأندلسي)، تفسير البحر المحيط (1403-1983م)، ط 2، دار الفكر – بيروت.
4- الطبري (أبو جعفر محمد بن جرير) جامع البيان عن تأويل أي القرآن (1405-1984م)، دار الفكر – بيروت.
5- الشوكاني (محمد بن علي) فتح القدير 1983م، دار الفكر – بيروت.
6- عبدالرحمن بن ناصر السعدي – تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 1404هـ الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد – الرياض.
7- ابن كثير (أبو الفداء إسماعيل بن كثير تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة – بيروت.

REFERENCES
1- Carpenter RHS (Neurophysiology) Edward Arnold, 2nd ed, 1990.
2- Ganog FG (Revision of Medical physiology).
Appleton & Lange, 16th ed, 1993.
3- Guyton Ac (Textbook of Medical physiology).
Saunders, 8th ed. 1991.
4- Sukkar M.Y Al munshid & Ardawi M.S. (Concise Human physiology).
Blackwell Sc. Publications, 1993.
5- Raichle, M.E, Visualizing the mind, Sci. Amav
6- 270: 58 – 64.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- هوامش:
 (1) لسان العرب 15/ 327.
(2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، لعبدالرحمن السعدي.
(3) رواه الترمذي ج 5/ 101 وقال حسن غريب.
(4) رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار ج 3/15 وهو حديث حسن.
(5) مجلة العلوم، العدد 8 و9 (1995م) ص 43-44.
(6) رواه البخاري.
(7) فاجتالتهم: أي استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم عما كانوا عليه وجالوا معهم في الباطل.
(8) رواه مسلم/ حديث 63.

ارسال التعليق

Top