• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

علي بن أبي طالب (ع).. صاحب المواقف العظيمة

د. عائض القرني

علي بن أبي طالب (ع).. صاحب المواقف العظيمة

سر هذا الإنسان، أنّه يحب الرحمن، ويحبه الرحمن:

هذا الثناءُ الذي ما صاغه كلمُ **** وها هو المجدُ عند البابِ يزدحمُ هذا الرجلُ شجاعٌ يجيد فن قطع الرؤوس الوثنية على الطريقة الإسلامية، إذا ضرب بالسيف هزه هزاً، لأن في الرؤوس مسامير اللات والعزى: بسيفك يعلو الحق الله أكبر **** ويذبح عجل البغي والزور ينحر أسلم طفلاً، وحضر بدراً شاباً، وتولى الإمامة كهلاً، وقتل شيخاً، فالسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً. هو صاحبُ تلك الكلمات، وأستاذُ تلك العبارات. ومدبج تلك الجمل النيرات، لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق، ولا يخرج عليه إلا باغٍ، ولا يسبه إلا فاجر. لعظمك في النفوس تُبات تُرعى **** بحراسٍ وحفاظ ثقات خطف رأس الوليد في بدر، جمجمة عمرو في الخندق، ونحر العاص ابن وائل يوم الفرقان، وكسر لواء الباطل يوم أحد، ودكَّ الحصن يوم خيبر. ناشته الحراب في المحراب، فسجد سجدة طويلة لله لم يرفع رأسه بعدها أبداً، فصيح لسن، كل ما فيه حسن، ليعش أبوالحسن. ماذا نقول: وهو ابن عم الرسول، وسيفه المسلول، وزوج ابنته البتول. أبناؤه سادة الأبناء، وعمه سيد الشهداء. لك في المكارم دولة وولاية **** وعليك من آثارها أنوار حطم جماجم المشركين، ومزق جلود اليهود، وكمم أفواه البغاة، وأخرج بالسيف أدواء الخوارج، شتت شمل الفتنة في الجماعة، وجمع شمل الأُمّة في الفتنة، جبر قناة الدين، وكسر رمح المعتدين. له في عالم البطولات فنون، وله في عنق الأُمّة ديون، وهو من الحبيب بمنزلة هارون. أعطى الدين كل همه، فنام في فراش ابن عمه، من أحب محمداً أحب عليّاً، ومن أحب علياً أحب محمداً. حطم درعه فتزوج به فاطمة، وكسر سيفه فعوض بذي الفقار، ومزق قميصه فألبس تاج: "ويحبه الله ورسوله"[1]، طلب الشهادة في بدر، قيل له في أحد، فبحث عنها هناك، فنودي لعلها في حنين، فهب إليها، قالوا ربما تكون في خيبر. فلما وصلها قالوا: تأخر الموعد، فقال: ما أحسن القتل في المسجد. ترى المحبين صرعى في ديارهم **** والحب يقتل أحياناً بلا قود بديهته أسرع من الضوء، وأعجل من البشرى، وأنصع من الفجر، عالم إن لجلج في الأعماق غاص، وإن طلبَ الحجة حضرت بلا مناص، لأنّه من الخواص. جبنت نفسه عن طلب الدنيا، فالأثاث حصير، وركوة وملحف وجفنة، وتاقت نفسه للجنة، فالزاد إيمان وهجرة وجهاد وشهادة: مناقبٌ كنجوم الليل ظاهرة **** قد زانها الدين والأخلاق والشيم ما فر في معركة قط، وما ضرب بسيفه في الكفار إلا قط. الناس فيه طرفان ووسط، ما بين غلو وشطط، مادح غلا حتى ادعى في عصاميته العصمة، وقادح جفا حتى شك في صحة صحبته، وهو لا هذا ولا ذاك، بل هو ابن عم النبي الأمي المنير، وهو عالم مجتهد نحرير، للمؤمنين أمير، وبكل فضل جدير، رغم أنف من أبغضه. أشجع ما يكون إذا لقي، وأرهب ما يكون إذا بكى، وأصدق ما يكون إذا نطق. وآنس ما يكون إذا ضحك. من مفاخر الشجاعة أن علياً وحيدها، ومن تفاهة الدنيا أن علياً لا يحبها، ومن مدائح المنابر أن علياً بطلها، ومن خصائص الشهادة أن علياً يخطبها: لئن عظمت فيك المراثي وذكرها **** لقد عظمت من قبل منك المدائح سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض **** فحسبك مني ما تُكِنُّ الجوانح ترخص عندنا الدنيا إذا ذكرنا علياً، ونشتاق للشهادة إذا ذكرنا علياً، يغضب الباطل إذا أحببناه، ويثور الحق إذا أبغضناه. علي طراز آخر، وقصة أخرى، وشيء ثان، إن تكلم فهي الكلمة الثائرة العابرة الصادقة، وإن ضرب فهي الضربة القاتلة القاضية، وإن بكى فهي الدمعة الحارة المعبرة الواعظة، وإن ضحك فهي البسمة الموحية الجاذبة الأسرة. تهلل للقاء فقلت فجر **** وشمر للقتال فقلت ليل إذا احتشد الجموع فأنت شمس **** وإن حل الضيوف فأنت سيل زهدٌ إذا أقبلت الكنوز، ثباتٌ إذا أدلهمت الخطوب، شجاعةٌ إذا حضرت الجيوش، فصاحةٌ إذا ازدحمت الجموع. عليٌ للمواقف، أبوالحسن للمعضلات، أبوتراب للأزمات، أحبك يا علي، وأحب مَن يحبك، يا أباالحسن، أحبك حباً كثيراً طيِّباً، كما تحب أن يكون الحب، وافياً مثلما تريد أن يكون الوفاء، صادقاً كما تهوى أن يكون الصدق، ولكنني أحبك يا علي وكفى ألا يكفيك أنك في فؤادي. وذهب علي إلى الله بعد أن طلق الدنيا ثلاثاً لا رجعة فيها، وهو لا يتحللها، لأنّه راوي حديث: "لعن الله المحلل والمحلل له"[2] أدخل علي كساء المعصوم (ص) واكتسى ببرده: ولو أن برد المصطفى إذ لبسته **** يظن لظن البرد أنك صاحبه وقال وقد أعطيته ولبسته **** نعم هذه أعطافه ومناكبه ألجم الله ابن ملجم بلجام من نار لأنّه كسر السيف البتار.

يا ليتها إذ فدت عمراً بخارجة **** فدت علياً بمن شاءت من البشر

 

الهامش:

  [1]- هذا ما قاله النبي (ص) يوم خيبر، أخرجه البخاري برقم (2975، 3702، 4209)، ومسلم برقم (2407).

[2]- أخرجه أحمد برقم (662، 673)، وأبو داود برقم (2076)، والترمذي برقم (1119)، وابن ماجه برقم (1935).

  المصدر: كتاب حدائق ذات بهجة

ارسال التعليق

Top