• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تساؤلات تربوية في وسائل الإعلام

د. صالحة سنقر

تساؤلات تربوية  في وسائل الإعلام

- أهمية وسائل الإعلام التربوية:
يصف بعض العلماء عصرنا الحاضر بأنّه عصر التنظيم العقلاني بالنسبة إلى الترشيد الذي أصاب إدارة المؤسسات والأعمال إلا أن أفضل تسمية له هو عصر المعرفة، انّه العصر التكنوتروني الذي يعطي القوة لمن يملك المعلومات المنظمة التي تمكنه من اتّخاذ القرارات المناسبة ويرى كثير من الباحثين ان وسائل الإعلام تقف على قدم المساواة مع العائلة والرفاق في التنشئة الاجتماعية والثقافية للناشئة، فهناك سيل من الطوفان الإعلامي الذي يصعب التخلص منه، وسحر الصور والأصوات والألوان تجعل من الصعب حمل الناشئين على القيام بواجباتهم التعليمية، وقد أصبحت البرامج التلفازية الواجب البيتي الأهم في حياتنا ولا مراد لسلطاتها وهذا مادعا كوربينكوف (Korobeninikov) عندما يشتري الناس جهاز تلفاز لا يفكرون تفكيراً كافياً بما سيحدثه هذا الجهاز من تغييرات في حياتهم وتقاليدهم وتفاعلهم ضمن الإطار العائلي، وكيف سيؤثر التلفاز على بنية الوقت وكيفية صرفه.
ولما كان المنهج كما عرفه بوستمان Postman "نظام اعلامي" مبني بناء خاصاً، يهدف التأثير على عقول الناشئة وأخلاقهم وتعليمهم وتدريبهم وتنشئتهم يمكن النظر إلى التلفاز كونه وسيلة الإعلام الأشد استقطاباً للمشاهدين على أنّه منهج قائم بذاته كما أنّ المدرسة كذلك.. وانهما نظامان اجمالين للتعلم إلا أن مواصفاتهما مختلفة.
وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد نظرت إلى التلفاز على أنّه أكبر مشروع تربوي في أمريكا من خلاله يتكون الإنسان الاعلامي الجديد وأنّه هو المنهج الأوّل والمدرسة هي المنهج الثاني كما أطلق عليه بوستمان أو أنّه على الأقل يحقق تربية موازية ان لم يحدث تعارض بينه وبين التربية المدرسية فإن واقع حال الدول النامية لا يختلف كثيراً عنها من حيث مدى تأثير البرامج التلفازية وفعاليتها، فثورة التواصل بصورة عامة تتمتع بقوى جبارة قادرة على تغيير أخلاقنا الاجتماعية واظهار بعض السمات الإنسانية وقمع بضعها الآخر، انّها قادرة على تغييرنا كلنا، كما يقول توفلر Toffler ولم يؤكد العلماء أهمية التلفاز في حياة الأفراد وتأثيره على معتقداتهم واتجاهاتهم وقيمهم إلا بعد أن أثبتت الدراسات العلمية مدى اهتمام الأفراد بهذه الوسيلة وما تقدمه من برامج. وإذا كان من المتعذر الإحاطة بجميع هذه الدراسات إلا أنّ عرض بعض منها يفيد في إظهار بعض الحقائق.
فالدراسة التي قام بها نيلسن في أمريكا والتي هدفت إلى تحديد عدد ساعات المشاهدة للبرامج التلفازية عند الأفراد على اختلاف أعمارهم قد بينت أن طفل الخامسة يمضي ثلاثة وعشرين ساعة ونصف أسبوعياً في مشاهدة التلفاز في حين يمضي الكبار 45 ساعة أسبوعياً. وانّ الطالب حتى نهاية المرحلة الثانوية تبلغ ساعات المشاهدة لديه 150.000 ساعة وهذا يساوي عدد ساعات النوم تقريباً ولا يوجد نشاط آخر يأخذ مثل هذا الوقت، ويكون هذا الطالب قد شاهد 35.000 ساعة من الاعلانات التجارية و18.000 جريمة قتل.
والدراسة التي تمت باشراف جمعية ميونيخ لعلم النفس التطبيقي والتي تمت بجامعة لوبليانا بيوغوسلافيا بهدف معرفة مدى قدرة تحمل الفرد لعدم مشاهدة التلفاز لمدة عام، حيث اشترك في هذه التجربة 150 فرداً كمتطوعين على أن يعطي كل فرد يتمكن من عدم مشاهدة البرامج التلفازية لمدة عام مبلغ 20 ماركاً ألمانياً للمتزوج و30 ماركاً للعزب وتبين أن جميع المتطوعين لم يحتملوا عدم مشاهدة البرامج التلفازية للمدة المتفق عليها وهي العام.
أمّا الدراسة التي قام بها بوستمان فقد بينت انّ الفتى الأمريكي في سن الثالثة عشرة يحضر في المدرسة وحتى نهاية المرحلة الثانوية (2340) يوماً أي ما يعادل 11700 ساعة في حين يشاهد 15.000 ساعة تلفزيون من عمر 5-15 أي أنّ الوقت الذي يشاهد فيه الفرد التلفاز تزيد عدد ساعات الاستماع إلى المذياع والمسجلة ومشاهدة السينما وعندها يصبح مجموع الوقت الذي يتعرض فيه الفتى لمنهج الوسائل الاعلامية 20.000 ساعة تقريباً أي ما يقارب ضعف الوقت الذي يصرفه في المدرسة ويبلغ هذا التركيز على مشاهدة التلفاز أوجه في بداية مرحلة المراهقة. وقد عزا كلارك تدني النتائج في اختبار القدرة الأكاديمية المؤهلة لدخول الجامعات في أمريكا إلى انصراف الطلاب لمشاهدة البرامج التلفازية ووسائل لهو أخرى.

- آثار البرامج التلفازية في الشخصية الإنسانية:
رغم ان جميع وسائل الإعلام تتحلى بقدرة واضحة على التوجيه. الان أنّ التلفاز أو الصحافة المرئية يعد مفتاح العمل التوجيهي كونه أكثر فعالية في النفوس من حيث المدى الذي تطاله الشاشة ولهذا فاق التلفاز كل وسائل الاتصال الأخرى بالجماهير وأصبح بين عشية وضحاها الوسيلة التي يتجه إليها الجميع، والظاهرة الحياتية الواضحة لديهم فليس من السهل الاستغناء عنها.
ويبقى التلفاز آلة علم قد توجه نحو الهدم أو صوب خير الناس وفائدتهم بحسب ما تقدم من برامج وهذا ما دعى ساندي إلى القول: "التلفاز إدارة تكنولوجية جبارة قادرة على نشر الخير كما هي قادرة على نشر الشر المستطير"، ذلك أنّ للتلفاز سلطانه في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية والترفيهية ومن خلاله يتم بناء الأفراد وتوجيه سلوكهم وتنمية قدراتهم فهو يخاطب أبعاد الشخصية جميعها، فيحرك الشعور ويثير مكامن الأعماق. وفي الأمسيات تتحلق العائلة حول الشاشة ويمسك التلفاز بتلابيب المرء فيصبح أسيراً لسحره ويحصل شبه انقطاع عن الحركة والعمل. وإذا كانت الأمسيات في الماضي تزيد من الروابط العائلية وتؤالف بين الأجيال والتجارب إلا أننا أمام الشاشة يقل الحديث والتعليقات ويهمل العمل والإجابات وتتوقف الضمائر الفردية عن التواصل بل قد تتصادم المطالب والأفضليات فكثيراً ما تهمل الأُم صغارها بسبب لقطة أو منظر وكثيراً ما يفرض الآباء النوم على أطفالهم لينعموا بساعات راحة ومشاهدة. وتعد البرامج التلفازية من أشد عوامل تشتت انتباه الطلاب عن تدبير شؤونهم المدرسية والاستغراق في ما يعرض أمامهم من نتاج وفكر الآخرين. وقد يسبب هذا الفساد والجنوح لديهم إذا تضمن محتوى البرامج تمجيد أبطال العنف والجريمة، وبصورة عامة يسبب طول مشاهدة البرامج التلفازية قلقاً لدى الأفراد نتيجة عدم وجود عمليات متعاقبة متكاملة للمدخلات والمخرجات، فالفرد يشكو من نظام يتلقى فيه الكثير من المعلومات وتتراكم لديه الكثير من المثيرات والمنبهات مما يؤدي به إلى الهبوط والانهيار ويصبح الفرد عبداً لوسائل الإعلام لا سيداً لها، يتعجل في قبول آرائها الجاهزة وينساق بحسبها في سلوك غريب مضطرب، وإذا كان للتلفاز آثاره السلبية في الأوساط العادية إلا أن تأثيراته في الأوساط الشعبية أكبر مدى وأشد عمقاً فهو يزيد التوتر من خلال مقارنة الواقع المعاش مع ما يعرض في البرامج فرؤية مشهد عنيف أو صعب التقليد يولد ضغطاً داخلياً أو خللاً في التوازن الانفعالي يعرض الصحة النفسية والشخصية المتوازنة إلى اضطرابات وسلوكات عدة تتجلى في الهروب من الواقع والرغبة في التخريب والإساءة، وأحلام اليقظة والتسلية بأنواع اللعب المختلفة أو بكثرة الاقبال على الطعام.
وإذا كان للتلفاز آثاره السلبية الا أن له فوائده وميزاته، فقد عزز النزعة الإنسانية في العنصر البشري، وساعد على معالجة الكثير من المشكلات التربوية والإجتماعية. وقد درس بوستامن أبرز الخصائص التي يتميز بها التلفاز فوصفه بأنّه: يجذب الانتباه، لا يعاقب، يتمركز حول الانفعالات والعواطف، يتمركز حول الصورة، يتمركز حول القصة، معلم أخلاق، غير تحليلي، غير تراتبي، سلطوي، يستر في الزمن، يقضي بالعزلة عن الآخرين، متقطع المحتوى، يعطي من ذاته اشباعاً فورياً.
ويرى بوستمان أنّ التلفاز قدم الجديد في المعارف والعلوم ووضح الفلسفات والقيم ومهد لتكون المهارات من خلال تهيئة الأجواء المناسبة لتطبقها في المجتمع. أي انّ للبرامج الإعلامية عامة والتلفازية خاصة آثارها الإيجابية والسلبية وقد أصبحت واقعاً حياتياً معاشاً نتأثر به. ولكي تحقق وسائل التواصل الجماهيري الأهداف المرجوة منها بصورة عامة يتطلب رسم استراتيجية ذات إطار فلسفي واقتصادي واجتماعي وسياسي وقانوني محدد يراعي متطلبات التنمية ويواكب التقدم العلمي وما وصل إليه في مجالات التربية والإعلام والتقنية وصولاً إلى مجتمع عربي متطور يتحلى جميع أفراده بالوعي الديمقراطي الصحيح.
وما نلحظه من سلوك خاطئ لبعض الأفراد إن هو إلا نتيجة طبيعية لتوجيه خاطئ ارتكز في أساسياته إلى أهداف خاطئة تبنتها المؤسسات التربوية أو الإعلامية ومن هنا فإن أي تربية صحيحة للمواطن تتطلب الوقوف على الأهداف التربوية والإعلامية ومدى تأكيدها المعارف والمهارات والقيم والاتجاهات الصحيحة ومستوى التنسيق والتكامل بين هذه الأهداف.

- ولتحقيق أهداف التربية الإعلامية لابدّ:
- أن تسعى وسائل الإعلام إلى تحقيق الانماء الوطني، وتأكيد السيادة الوطنية والثقافية الوطنية، وأن تبتعد عن الثقافات الأجنبية التي تهدد تقاليدنا وقيمنا.
- أن تهدف إلى تخليص المجتمع العربي مما يعانيه من معوقات وتخلف كالأمية والجهل وما ينجم عنهما من شتى أنواع الخضوع والتبعية والعقلية السحرية اللامنطقية وغيرها من المفاهيم الخاطئة.
- أن ترتبط البرامج الإعلامية بجذور الأُمة وآمالها وأن تأخذ بإيجابيات التراث الوطني والقومي والإنساني لتعزز لدى الأفراد روح التمسك بالقيم العربية السامية ذات الهدف الإنساني المشترك.
- أن تهتم بالتربية الجادة والملتزمة في تنمية شخصية المواطن وحمايتها من التشويه والدفاع عن قضايا الجماهير فتتجنب الثقافات المعارضة لأهداف التنشئة التربوية الصحيحة.
- أن تنمي التفكير النقدي وتثير النزعة الإبداعية لدى المواطنين على أفضل صورة ممكنة وأن تدفع بقدراتهم وإمكاناتهم إلى أقصى مداها.
- أن تدفع بالمواطنين نحو أنماط سلوكية مفيدة كالإستفادة من أوقات الفراغ في أعمال ابتكارية منتجة، وفي مجال التعليم الذاتي، وفي مجال ترشيد الاستهلاك، والحفاظ على البيئة، وغير ذلك.
ومادة البرامج التلفازية ومحتواها هما السبيل لتجسيد الأهداف على نحو عملي اجرائي فمضمون البرامج التلفازية وما يقدم فيها من موضوعات تعد الجوهر الأساسي الذي عليه ترتكز معالم التوجيه والتربية، فإذا اتّسم مضمون البرنامج بغلبة الفكر والتعقل وضبط الشعور والتحكم في الوجدان، وامعان النظر في الكون، وتحليل ظواهره، والعمق في تفسير السلوك الإنساني، استطعنا عن طريقه تكوين مواطن صالح، متكامل الشخصية مدرك لدوره في المجتمع، مؤمن بأمته، إلا أننا نلحظ من خلال تحليل مضمون ما يقدم من برامج في أجهزة التلفزة العربية عدم قدرة هذه البرامج على تحقيق الأهداف التي اتينا على ذكرها.
فكثيراً ما يقدم في التلفاز برامج ومسلسلات تقفز على الواقع دون أي خطة مبمرجة وتقدم قيماً متعارضة فإذا ما أكّد أحد البرامج ضرورة عمل المرأة ومشاركتها في الحياة الاجتماعية مثلاً، بين برنامج لاحق مدى المتاعب التي تلحق بالمرأة العاملة وجوانب القصور التي تحيط بها.
وكثيراً ما يكون محتوى هذه البرامج وخاصة المستوردة منها غريباً عن خصائص المجتمع العربي الاجتماعية والاقتصادية والصناعية والحكومية للدولة المصدرة ولما كان التلفاز كما وصفه كوربينكوف بأنّه يفسر الواقع بأسلوبه الخاص ولديه إمكانات كبيرة أسوة بغيره من وسائل التواصل الجماهيري لتشويه ذلك الواقع كان لابدّ من التدقيق في محتوى البرامج قبل عرضها والتأكد من سلامة الثقافة الوطنية فيها ومقاومة سموم التربية التي يحملها الغزو الإعلامي الكبير في ثناياه والتي قد تبدو بريئة في مظهرها إلا أنها تحمل في طياتها أفكاراً ومواقف وقيماً هدامة. وكذلك تجنب البرامج العرضية التي تجعل من أمور مؤقتة زائلة مبدأ من مبادئ الوجود، فما يقدم من ظواهر المجتمع الاستهلاكي انما يستند على مبدأ نفعي انتهازي يقوم على طرح الأشياء بعد استعمالها، وما يعرض من أفلام الرعب والجنس والحروب الفضائية انما يستند في تأثيره في شخصية المشاهد واستلاب حريته الذاتية وتعديل نمط إدراكه للواقع على أساليب توجيه لا شعوري يقوم على احداث تباعد بين قدرة الفرد على الرؤية البصرية وقدرته على الفهم والاستيعاب بحيث يخالف المرء مما لا يخيف ويخضع لتأثيرات عليه تجاوزها.
ومن الضروري توفير رقابة شديدة على محتوى البرامج ومادتها للتأكد من انها خالية من أي تلوث تربوي اجتماعي. ولابدّ من ارتباط هذه البرامج مع خطة التنمية وحاجات المشاهدين وميولهم واهتماماتهم وعقليتهم وبيئتهم، فالناس مختلفون في أمور ومتشابهون في أمور أخرى، ولابدّ للبرامج من أن تلحظ هذه الفروق الفردية من خلال التنوع والتعدد في الموضوعات.
ويبقى من الأهمية بمكان وبغية حماية الإنسان العربي من خطر الانسلاخ الثقافي والمجتمعي نتيجة الغزو الثقافي الذي تحمله البرامج المستوردة رسم استراتيجية واضحة للإعلام العربي يتم التأكيد فيها على بناء الإنسان العربي المعتز بهويته القومية وبثقافة امته، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتصميم واخراج البرامج التلفازية ذات المضمون العربي الصحيح وذلك بسبب امكانية التحكم بأقنية البث والإرسال أكثر مما هو حاصل في المجال الإذاعي، وأن تراعي في هذه البرامج الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للأمة العربية أو أنّه إلى جانب مراعاة الحداثة والأصالة والسعي لاقتراح تغيير إيجابي في سلوك المواطنين تجاه قضايا أمتهم. وإذا كان التركيز على محتوى البرامج ضرورياً إلا أنّه شرط لازم غير كاف، فلابدّ من طريقة تنفيذ متميزة قادرة على تجسيد المضمون الثقافي والتربوي وتوفير العناصر السمعية والبصرية والمشاهد الواقعية والخيالية اللازمة لتكوين خبرات صحيحة ولما كان التواصل عنصراً إنسانياً فانّ مجموعة الظروف التي يتم بها عبر وسائل الإعلام لها أهميتها ولابدّ من توفر شروط تضمن تحقيق البرامج الإعلامية لأهدافها، من ذلك مثلاً اختيار الكلمات السهلة الفهم والمعبرة عن الحقيقة، واختيار التوقيت المناسب، واعتماد التشويق والحيوية وجدة الخبر.
ولما كان سبيل البرامج الإعلامية في التأثير على الروح المعنوية للأفراد هو السيطرة على سلوكهم من خلال توجيههم نحو المثل والقيم المرغوبة كان لابدّ من الاهتمام بطريقة عرضها وتقديمها وتوفير الاطر البشرية المؤهلة لذلك.
فطريقة عرض البرامج يحتاج إلى قدرات مركبة منها ما يتعلق باستعدادات مقدم البرنامج العقلية ومكوناته البيولوجية، وسماته المزاجية، ومنها ما يتعلق بحياته الاجتماعية في الأسرة والعمل، ومنها ما يتعلق بالتراث الثقافي للمجتمع والتيارات الفكرية والظروف الاقتصادية والاجتماعية.
وبهذا تكون الطريقة كما عرفها ستافسلافسكي: عملية إدراك معقدة تتطلب الشعور بالانتماء تجاه العمل وتوفر الذاكرة الإبداعية والانتباه والخيال والإرادة والمرونة وسلامة الصحة والطلاقة في اللفظ والحركة والسلوك.
ولما كانت مواصفات شكل البرنامج لا تقل أهمية عن محتواه من حيث التأثير فقد ينجح البرنامج الاعلامي بما يستخدمه من حيل الاقناع كالصور والموسيقى والأصوات وغيرها من المثيرات في التأثير على الجهاز العصبي للإنسان وتحويل اتجاهاته أو تبديلها. فلابدّ للطبقة الصوتية من أن تتلاءم وتتوافق مع الصورة والا أصبحت مصدر ازعاج وقلق، وقد أثبتت الدراسات الطبية والنفسية التي قام بها كل من هربارت مارشيل وماك لوهان أنّ الأصوات العالية والضجيج والصخب تثير أعصاب الإنسان وتربك عمله وتعكر عليه صفاء ذهنه وتحدث تأثيرات ضارة في أجهزة الجسم ونفسية الإنسان.

- التقويم التربوي للبرامج التلفازية:
إنّ أي عمل يسعى إلى التطور يتطلب تقويماً، والبرامج الإعلامية وخاصة التلفازية منها أولى من غيرها بالتقويم لأن آثارها ونتائجها تصيب جميع الناس، انها تعزز المشاعر وتزرع الأفكار والقيم وتقدم مواد ذات تأثير واضح على عمليات تفكيرنا الاجمالية بأساليب لا نستطيع حتى الآن قياسها بالطرائق المعروفة في العلوم الاجتماعية وهذا ما دعى كولدسن Goldsen إلى القول انّ الخبرة التلفازية تقولب الناس إلى حد كبير وتحدث تغييرات حاسمة في تشكيل النفس الإنسانية وبالتالي في تغيير الوجود الاجتماعي ومع هذا نلحظ في السنوات الأخيرة اهتماماً واضحاً في مسألة تقويم البرامج التلفازية وانعكاساتها على سلوك وقيم المشاهدين وذلك بحسب الفئة الاجتماعية المعنية في البرنامج. فكل برنامج يجب أن يقوّم من جوانب ثلاثة:
الجانب المعرفي ومستوى المعارف العلمية المقدمة وموضوعيتها.
الجانب الوجودي والسعى لكشف القدرات الحقيقية عند الإنسان.
الجانب القيمي وتحقيق العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع.
ولابدّ لمقوم البرامج من أن يضع في حسبانه النقاط التالية:
- قدرة البرنامج على إثارة الانتباه وتلبية رغبات المشاهدين.
- تمكنه من تكوين المعارف والمهارات والقيم والاتجاهات الصحيحة.
- مدى تلبيته لواقع البينة والسعي لحل مشكلاتها.
- الاصالة والمعاصرة اللتان يتحلى بهما.
ووفق هذه المعايير لابدّ أن تتم تصفية البرامج عبر الأنظمة القيمية التي تؤمن بها. ومن المفيد قيام الباحثين في الجامعات العربية والكليات المعنية بالأمر بدراسات مستفيضة تحلل فيها محتوى البرامج الإذاعية والتلفازية والتأثير العام الذي احدثته في نفوس الناس ومدى تكامل مضمونها مع ما يقدم للطلاب في المؤسسات التعليمية وقدرتها على مواجهة المشكلات التعليمية والتربوية في المدارس والجامعات وكليات التربية ومعاهد اعداد المعلمين ومؤسسات التدريب. ومدى اهتمامها بالموضوعات الجادة والهادفة وحمايتها لجمهور المواطنين من آثار الدعايات المعاكسة والتفاهة والابتذال. وإلى أي حد استطاع اخراج البرنامج أن يحقق تواصلاً ثنائي الاتجاه.
ولابدّ عند تقويم أي برنامج إعلامي من النظر إلى شبكة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تؤثر فيه.
ونظراً إلى أن معظم الاقطار العربية لا تملك مخزوناً كافياً من البرامج المصممة محلياً وعربياً، وحفاظاً على الثقافة العربية الأصيلة من الغزو الثقافي الدخيل فقد أكدت الدول العربية ضرورة رقابة البرامج المستوردة لما تحمله في كثير من الحالات من قيم تغاير قيمنا واهتمامات غير مرغوب فيها وخاصة الموضوعات المتعلقة بالعنف والجنس.
وإذا كان التقويم ضرورة للبرامج المستوردة فلا يعني هذا قبول البرامج المحلية جميعها ذلك انّ كثيراً منها كالبرامج الأجنبية في محتواها المشوّه الا أنّها تتقنع بقناع عربي يتجلى بالشكل واللباس واللغة.
وسنعرض فيما يلي لبعض الدراسات التقويمية التي تمت حول برامج تلفازية في بعض الدول:
ففي دراسة تقويمية للبرامج التلفازية المخصصة للمزارعين في الصين الشعبية تبين للباحث انّ قرابة مائتي تغير معرفي وسلوكي وقيمي حصل عليها المزارعون نتيجة مشاهدتهم البرامج مدة زمنية كافية، من ذلك: نجاح المشرفين على المنطقة في تعبئة أعداد ضخمة من المزارعين لمكافحة الفيضانات ورصف الطرق واصلاح الأراضي وريها إضافة إلى التغيرات الكثيرة التي احدثتها البرامج الإعلامية في نفسية المزارعين وسلوكهم، وسواء ما يتعلق بسلوكهم داخل البيت ونشاطاتهم وترتيب أدواتهم أو في تحديد ساعات عملهم وملء أوقات فراغهم وتوفير مستلزماتهم.
كما ساعدت وسائل الإعلام في تنمية الوعي والمسؤولية الاجتماعية وتفتح القدرات الإبداعية لديهم وابتكارهم أساليب شتى للإستفادة من الموارد المحلية.
وفي دراسة تقويمية للبرامج التلفازية المخصصة للنساء في داكار والتي هدفت إلى توعيتهنّ تجاه مشاكل الصحة والأمراض والتغذية حيث طبقت الدراسة على 500 امرأة تابعين مشاهدة البرامج المقدمة في نادي التلفزة حول موضوعات الحميات والأمراض والنظافة وأنواع التغذية ولمدة عشرة أشهر. وطبق الباحث اختباراً نفسياً واجتماعياً عليهنّ قبل مشاهدة البرنامج وبعده وتبين له ان:
- النساء أصبحن على معرفة كافية بالأسباب الحقيقية لانتشار الأمراض.
- أصبحن أكثر تفاعلاً اجتماعياً وأكثر اجتهاداً في تعريف الآخرين بأسباب المرض.
- ان سلوك النساء قد تغير نتيجة مشاهدتهنّ البرامج التلفازية حيث ظهر أثر واضح في نظافة الأجسام والبيوت والأطفال.
انّ النساء المتقدمات بالسن ابدين نوعاً من المقاومة ازاء برامج التلفزة التربوية بالقياس إلى بقية العينة وانهنّ أقل من غيرهنّ تأثراً بتعليمات التلفزة.
- انّ قوة التلفزة على الاقناع كانت ذات أثر واضح تجاه مشكلات الصحة إلا أنها كانت محدودة تجاه مشكلات التغذية وذلك لعظم تأثير الخبرة اليومية للنساء في مجال التغذية رغم أن كثيرات من أفراد العينة قد تعرفن إلى خطورة استهلاك الدهنيات والزيوت وامنعن عن شراء الأطعمة المطبوخة في الشوارع ولم يمنعن أطفالهنّ من تناول اللحوم بعد قناعتهنّ بضرورتها للنمو.
- انّ مراعاة اهتمام النساء ببعض الموضوعات كالعناية بالأطفال والأعمال المنزلية وشؤون المرأة الخاصة كانت أكثر تفضيلاً دون سواها من الموضوعات.
- انّ العرض التربوي الجيِّد للموضوع والتقنية الإذاعية المناسبة هما سبب اختيار بعض الموضوعات أكثر من سواها.
- انّ للتلفزة التربوية أثراً واضحاً في مضاعفة المعلومات وفي تغيير أنواع السلوك وفي زيادة القدرة على التعبير عن الرأي وفي تطوير اللغة الاجتماعية وفي تعزيز ثقة المرأة بذاتها وزيادة نشاطها العملي وميلها للمساهمة في الحياة العملية ورغبتها في التعليم.
وفي دراسة تقويمية لأثر البرامج المخصصة للأطفال في تكوينهم الاجتماعي والمعرفي والانفعالي والسياسي من حيث الشكل والمحتوى والتي أجريت في طوكيو على عدد من النساء المتطوعات بلغ عددهنّ (1408) امرأة ممن لديهنّ أطفالاً تتراوح أعمارهم بين الرابعة والخامسة حيث طلب إلى فريق من الأُمّهات أن يشاركن أطفالهنّ في مشاهدة برامج الأطفال التلفازية التي تبث محلياً ومن ثمّ اجراء حوار ومناقشة مع الطفل حول مضمون البرنامج وشكله وأفضل شخصية في البرنامج وأجمل منظر وأشياء أخرى اثارت اهتمامه. أما الفريق الآخر فكان الطفل فيها يشاهد البرنامج التلفازي ذاته دون أيّة مشاركة من الأُم أو سواها ودون أن يعقب المشاهدة أي حوار أو تعليق.
وبعد انتهاء دورة برامج الأطفال هذه تم الوقوف على آرائهم في البرامج وعدلت على نحو تصبح فيه أكثر توافقاً مع المرحلة العمرية التي يمر بها الطفل وإلى جانب هذا خضع الأطفال لاختبارات لغوية واجتماعية ومعرفية ونفسية فتبين أنّ الأطفال الذين حاورتهم أمهاتهم كانوا أكثر تعبيراً وأسلم نطقاً وأشد ثقة بالنفس وأكثر ارتباطاً بأسرهم، يتصرفون بعفوية ويرغبون بإقامة علاقات اجتماعية مع الآخرين وينجزون الأعمال التي يكلفون بها حتى النهاية ولديهم رغبة في مزيد من الاطلاع والتعلم والتجريب.
وفي دراسة تقويمية حول محتوى العنف في البرامج وأثره على السلوك العدواني لدى المشاهدين تبين وجود ترابط إيجابي، فالعنف في البرنامج التلفازي يدفع إلى السلوك العدواني مع وجود اختلاف في درجة التأثير بحسب الفروق الفردية القائمة بين شخصيات الأفراد مما يؤكد قدرة التلفزة على تكوين السلوك الاجتماعي المرغوب فيه إذا دققنا في انتقاء المادة السليمة.
وفي دراسة تقويم البرامج التلفازية وأثرها في تكوين قيم الأطفال قام ادوارد سانتورو Eduard Santoro في فينزويلا بدراسة عينة من البرامج التلفازية الأمريكية التي يشاهدها الأطفال الفينزويليين وحلل محتواها ثمّ وقف على آرائهم من خلال استبيان طرح فيه أسئلة عدة بغية معرفة رأي التلاميذ في مجريات البرنامج وأين حدث؟ ولماذا؟ ومن هم الصالحون؟ ومن هم الأشرار؟ فتبين أن نموذج الرجل الصالح في إجابات الأطفال هو من الولايات المتحدة وغالباً من بيض البشرة والأغنياء ومن رجال الشرطة أو الجيش أما الأشرار فهم سود البشرة ومن بلدان أخرى، فقراء وهم على الأغلب من العمال والفلاحين موظفي المكاتب. مما يؤكد أثر محتوى البرنامج في شخصية المشاهد وتكوين قيم خاصة لديه.
كما قام كومستوك Comstock ورفاقة بتقويم البرامج التلفازية من خلال تحليل أنواع وأنماط المشاهدين للبرامج والجمهور وآثارها على سلوكهم فتبين له التأثير القوى للبرنامج التلفازية على السلوك الاجتماعي والسياسي والتجاري للناشئة.
وإذا كان تقويم البرامج الإعلامية يحدد مسارها ومداها ونتائجها وآثار ذلك في تربية الفرد وتطوير معارفه ومهاراته وتوجيهه نحو القيم والمثل والاتجاهات الصحيحة فلابدّ من الاهتمام بأهداف البرامج ومحتواها وطريقتها والسعي لاستثارة التفكير النقدي حولها لتتكامل مع التربية المدرسية وتساعدها في خلق اهتمامات جديدة لدى الأفراد واثارة دافعيتهم لتعلم الموضوعات الدراسية المختلفة فقد يتعلم الطالب كما تبين لنا بعض العبارات اللغوية أو بعض آداب السلوك ويتعرف على أسماء بعض الأماكن... إلخ.
لهذا كله فان من الضرورة بمكان إجراء مراجعة شاملة للبرامج التربوية التلفازية القائمة ذلك لأن لكل من البرامج المدرسية والبرامج الإعلامية:
- أسلوبه الخاص في تنظيم الأوقات والأزمنة وتقديم المعلومات.
- سرعته في نقل المعلومات.
- طريقته في تكوين المعارف والمهارات والقيم الاتجاهات.
- متطلباته وموارده المادية والبشرية.
وما لم تخصص قناة بث تلفازية قائمة بذاتها للبرامج التعليمية والتربوية إلى جانب محطات للإذاعات المدرسية يشرف على إدارتها والتخطيط لتنفيذها تربويون متخصصون يعتمدون مضموناً متدرجاً يساعد في تعريف الطفل بعالم الكبار ويخلق لديه قيماً تربوية واهتمامات جديدة تساعد على استيعاب البرامج المدرسية بدرجة أكبر فستبقى التربية الإعلامية عاجزة عن تحقيق المرامي الحقيقة لوجودها فهي الإدارة التي أن أحسنت البشرية استخدامها ووظفت برامجها لصالح الإنسان والمجتمعات جنت منها الخير الوفير وأن أساءت وقعت في شر مستطير.

المصدر: مجلة التربية/ العدد 95 لسنة 1990م

ارسال التعليق

Top