• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الفقيه.. المثقف

إبراهيم العبادي

الفقيه.. المثقف

◄ربّما يشكّل الحديث عن فقيه مثقف مغامرةً في الوسط الاجتماعي أو استفزازاً لقطاع كبير من النخبة الإسلامية، التي لا تستسيغ الحديث عن موضوع من هذا النوع ولأسباب متعددة.

فهناك إشكالات عديدة تواجه الباحث وهو يحاول أن يربط بين موضوع أصيل كموضوع الفقه والفقاهة، وموضوع محدث وجديد كموضوع المثقف والثقافة بسبب إشكالية المفهوم والمصطلح أوّلاً وإشكالية الدور بالنسبة للمثقف في المجتمع المسلم.

فبينما يمتلك مفهوم ومصطلح الفقيه تأصيلاً منهجياً وحضوراً مكثفاً في الثقافة الإسلامية وفي وعي المسلمين بما يعطي للفقيه مكانة مرموقة ودوراً كبيراً مسبوغين بصفات التقديس والاحترام؛ بسبب الانتماء إلى عقيدة الأُمّة وإلى مرجعيتها الحضارية، فإنّ مصطلح ومفهوم المثقف ودوره يواجهان صعوبات كبيرة في الذهنية الإسلامية العامة؛ لعدم رسوخ المفهوم أوّلاً لكونه وافداً وجديداً في ذاته، بلحاظ الدور المثقل بالسلبيات، الذي مارسهُ المثقف في أغلب الأحوال، والذين جعله مرفوضاً من قبل قطاع كبير ولا يلقى قبولاً بل يعتبر خصماً لعقيدة الأُمّة وعدواً لثقافتها وعاملاً من عوامل تغريبها وتبعيتها.

وإذا كان الفقيه ينطلق في مهمته من خلال تخصصه واشتغاله بعلوم الدين، فإنّ اشتغال المثقف بعلوم الدنيا يجعل التقابل بين الاثنين متشحاً بوشاح الخصومة في الذهن العام، وترجح الكفة لصالح الفقيه من الوجهة الأخلاقية بلحاظ التقوى والاستقامة والانصراف من الدنيا التي غالباً ما يتميز بها سلوك الفقيه، الأمر الذي يقلل من أهمية إضافة دلالة مفهوم المثقف إلى مفهوم الفقيه كمعطى إيجابي.

ثمّ إنّ الحديث عن فقيه مثقف قد يوهم بالوقوع في إشكال منهجي، ذلك أنّ الإثبات هنا قد يعني النفي في الجانب الآخر، أي أنّ هناك وجوداً لفقيه غير مثقف، والمعروف أنّ الفقيه ظلّ على الدوام هو عنوان المثقف في المجال الإسلامي، فالفقهاء والمتكلمون والفلاسفة والشعراء واللغويون والمؤرخون والمفسّرون كانوا هم المثقفين طيلة الحقبة التاريخية ولا يزالون، والحديث عن فقيه مثقف قد يعني إلغاء الفقيه الآخر من دائرة المثقفين، أي إلغاء حقيقة تاريخية على ضوء مفهوم ومصطلح جديد، وربما حصل هنا نوع من الالتباس، ذلك أنّ الإثبات لا يعني النفي؛ لأنّه لا وجود للتضاد والتقابل والنسخ، بل الغرض الحديث عن نوع من المعطى الإيجابي والقيمة الإضافية على ضوء حاجات مستجدة، ومعطيات واقع جديد يحتاج إلى جيل جديد من الفقهاء، والالتباس يحصل من الاقتصار على التعريف النمطي للمثقف الذي يحصر دوره في العمل الذهني والفكري – أو من قرن الثقافة بالعلم والتخصص المعرفي دون ملاحظة الدور الفكري والمهمة النقدية، ودرجة المعايشة لأزمات المجتمع ومشاكله، والطروحات المقدمة لتغيره إلى واقع جديد.

إنّ توكيد وجود فقيه مثقف يعني أنّ هناك تمايزاً فعلياً بين نمطين من الفقهاء، وبالتالي فإنّ ذلك يؤشر إلى وجود فعلي لهذين النمطين وبما يمنح أفضلية وميزة لأحدهما على الآخر، الأمر الذي قد يثير حفيظة الأوفياء لمفهوم المثقف المساوي لأهل التخصص والخبرة في مجال معرفي محدّد، دون ملاحظة انعكاس آثار هذا التخصص في توصيل الاختصاص وربطه بالجانب الاجتماعي، والمشكل الثقافي وتبعاته السياسية والفكرية.

وليس هناك خشية من هذا المحذور طالما أنّ مدار التقويم لقيمة أهل العلم والفكر والاختصاص المعرفي يتحدّد بمقدار الفاعلية الفكرية، وتجلياتها في الحركة الاجتماعية وتمظهراتها في الوعي العام للمجتمع، وهذا لا يقلل من شأن أهل الاختصاص في مجال عملهم إنتاجاً وتدريساً، غير أنّ هذا الصنف يبقى متحركاً في الإطار التخصصي الصرف (الأكاديمي) وداخل دائرة النخبة الممتازة معرفياً في داخل حقل معرفي محدّد.

ولكن ماذا عن العلاقة بين السياسي والثقافي من جهة، والفقاهة والسياسة من جهة ثانية، طالما أنّ البعد السياسي في التحرك مرتبط بالشأن الاجتماعي، وهذا يعني أنّ العمل في الميدان السياسي من جانب الفقيه يؤكد صلته بالثقافة من زاوية الدور، ويلغي بالتالي تصنيف (الفقيه المثقف) هذا بالنسبة لأولئك العاملين في المجال السياسي.

وفي الواقع، فإنّه يكون للفقيه بحكم موقعه الشرعي والأخلاقي وتكليفه الديني دور سياسي وتربوي، دون أن يكون هناك قدرة على تصنيفه في دائرة (المثقفين من الفقهاء)، وهو هنا يستجيب لمتطلبات الدور السياسي والاجتماعي المناط به، فهل هذا الدور هو استجابة للانتماء الأيديولوجي أم لنوازع فردية أم لطبيعة الانتماء الطبقي؟

رغم صعوبة الإجابة عن السؤال، لكن الموقف السياسي والدور الناتج عنه لا يعبران بالضرورة عن انتماء إلى طبقة المثقفين إلّا بمقدار صلتها بمشروع فكري اجتماعي، يعالج واقع المجتمع المأزوم ضمن أطروحة تغييرية تعيد بناء الوعي، وتصحيح مكامن الخلل بطريقة مفهومة وبأسلوب يستجيب له المجتمع.

وهنا نحتاج إلى تحديد مفهوم المثقف ودوره في المفهوم المعاصر لنستوعب الفوارق الأساسية، التي يمكن بواسطتها ممارسة التصنيف، فالزعيم الديني أو السياسي حتى وإن بلغ مستوى (الكاريزما) بفعل تشخيصه لبعض مشاكل المجتمع وأهدافه، فقد لا يكون مصنفاً ضمن دائرة المبدعين في الميدان الثقافي، وممتلكاً قدرة إنتاج خطاب ثقافي متميز، مالم يكن يمتلك وعياً عميقاً بمشكلات المجتمع ضمن رؤية كلية تتحرك بمشروع بديل، وهذا لا ينفي أن يكون القائد الديني أو السياسي مثقفاً بمعنى أنّه يجمع المقدرة الفكرية والعقل المبدع والإرادة السياسية وفن إدارة الجماهير، إذ قد يكون القائد السياسي والديني مثقفاً بينما قد لا يكون المثقف رجلاً سياسياً أو زعيماً شعبياً.

وعموماً فإننا أردنا أن نثير هذه الملاحظات في بداية الموضوع حتى لا يكون دخولنا مفاجئاً يثير الكثير من الحساسيات، خاصة وأنّ هناك أجواءً من العاطفة تحاول أن تثير قضية وهمية، وترى أنّ ثمة هجوم على الحوزة العلمية من جانب تيار متأثر بالفكر الغربي، وأنّ أهداف الإثارات التي يطرحها هذا التيار تستهدف هدم الكيان الحوزوي، ولا نحسب أنّ لهذه الرؤية كثيراً من الصدقية؛ لأنّ الموضوع المثار يتحرك في الاتجاه الإيجابي لأكثر من سبب.

الأوّل: أنّ هناك دعوة مازالت قوية، وتلقى المزيد من الدفع باتجاه تكوين مجتهد بمواصفات وسمات جديدة نوعاً ما تلائم متطلبات الدولة الإسلامية، أو حالة الإحياء الإسلامي الراهنة. انّ من خصائص المجتهد الجامع هي المعرفة بأساليب التعامل مع مكائد الثقافة المسيطرة على العالم وتضليلاتها، وامتلاك الوعي والبصيرة في الشؤون الاقتصادية، والإحاطة بكيفية التعامل مع النظام الاقتصادي المسيطر على العالم، ومعرفة أنماط السياسة ومعادلاتها.

ومما لاشكّ فيه أنّ المعرفة المطلوبة هنا لا تتأتى بدون إطلاع واسع على الفكر الإنساني الحديث، وبدون مواكبة لتطورات العصر، التي توفر بدورها حسّاً ثقافياً، وبعداً معرفياً – مضافاً – بالواقع الخارجي والظروف المختلفة المحيطة به، حتى يأتي الفقيه متحدثاً بلغة العصر ومشاكله، ومعبراً بصراحة عن المعاصرة في جوهرها.

إنّ تجربة التطبيق الإسلامي وحالة الإحياء الراهنة أثبتت الحاجة إلى وعي جديد بمشاكل الفكر والتقنين والإرادة والتغيير الاجتماعي، وبالمستوى الذي بات مجتمع الدولة الإسلامية بحاجة إلى نمط جديد من الفقهاء بسمات جديدة، ربما كان الشيخ محمد إبراهيم الجناتي قد عبّر عنها بوضوح تام في أبحاثه المتكررة عن (السمات المطلوبة للمجتهد في الحكومة الإسلامية)، وهذه المواصفات لا تتأتى إلّا بالانفتاح القوي على مشاكل المجتمع والتحديات التي تواجهها، وهي تحديات تنطلق في جوهرها من عالم الأفكار القادمة والمستحدثة المؤثرة في تفكير الناس وأخلاقياتهم وسلوكياتهم ونظرتهم إلى الحياة.

الثاني: أنّ التحدي الفكري والثقافي الذي تشكّله الحضارة الغربية، وقدرتها المستمرة على توليد الأفكار وإنتاج النظريات في مختلف حقول المعرفة الإنسانية، صار شغلاً شاغلاً لجميع الحضارات والثقافات، التي ترفض التماهي مع الغرب فكرياً وثقافياً وتصرّ على خصوصياتها وذاتياتها المعرفية، ولاسيما في المجال المتعلق بالدين ودوره في تنظيم حياة الإنسان والمجتمع، ورؤيته المختلفة عن الرؤية المعرفية ذات الطابع البشري.
إنّ الأسئلة القلقة التي تحتاج إلى أجوبه عقلانية تشكل تحدياً معرفياً لكلّ منظومة معرفية تنتمي إلى الدين، الذي يعتقد اتباعه أنّه الحلّ الأمثل لمشاكل البشرية وأنّه ذو قدرة على إدارة شؤون الحياة وفق ثوابته ومتغيراته في كلّ زمان ومكان.

وإذا كنا نشكو من الغزو الثقافي، وقدرة الغرب المتزايدة على اختراق العقول، ونقل خطاباته المعرفية ورسائله الأخلاقية والسلوكية بفعل امتلاكه للقدرات التقنية والمادية، فإنّ فحوى هذه الشكوى يقود بالضرورة إلى إعداد رسالة ثقافية متينة، وبناء عقول الناس وتشكيلها على أساس إعداد الأجوبة لكلِّ الأسئلة المثارة، ومثلما أمكن لمفكرين وفقهاء متفتحين الرد على بعض النظريات التي انتجها الغرب، ودحض شبهاتها وأنقذوا شطراً من الأجيال المسلمة، عندما استطاعوا صياغة الفكر الإسلامي بلغة معاصرة ومنهج مقارن وأسلوب نقدي، فإنّ الحاجة ستظل متجددة لهذا الصنف من الفقهاء، وإلّا فإنّ الصنف الآخر الذي ظلّ ينتج في الدائرة التقليدية – على أهميتها وقداستها – لم يكن ليواجه المشكلة من موقع قوي إلّا اعتماداً على منطق الفتوى وأسوبها، وهذا الأسلوب قد يجدي مع المؤمنين والمتمسكين بحبل الدين، لكنه لم يكن مقنعاً للتيار الآخر، الذي لا يرى للفتوى قداستها ولا لعالم الدين أهميته، ولكنه كان ينتظر ردّاً معرفياً وأسلوباً عقلانياً في الجدال والمناقشة، ومنهجاً حديثاً في الاستدلال والمقارنة.

نعم قد تكتب أعظم الكتب وتظهر أكبر النظريات الفلسفية والمنطقية واللغوية، ولكنها إذا لم تصغ بطريقة مماثلة لصياغات العلوم الإنسانية الحديثة، فإنّ مجال الانتفاع منها يبقى محدوداً، وهذا قد يحل مشكلة المتخصصين لكنه لا يحل مشكلة القطاع المتعلم الذي يدرس الفكر الغربي، ويواجه مشكلاته بطريقة وأخرى.

إنّ التغريب الفكري لم يكن لينجح في البلاد الإسلامية لو كانت رسالة الدين المعرفية والفكرية حاضرة – تملأ عالم الناس – ومصاغة بلغة متجددة غير لغة الدرس الديني القديمة، وطرقها الاستدلالية الخاصة، إننا لا نريد أن نقلل من الأثر الفعّال للعوامل الأخرى، التي ساهمت في نجاح التغريب الفكري، وفي مقدمتها التبعية السياسية وغلبة التوجهات العلمانية على الحكم، ومحاولات استنساخ التجربة التحديثية الغربية، لكن العامل الداخلي كان مؤثراً هو الآخر، والدليل، أنّ شخصيات من داخل الحوزة العلمية كالشهيدين الصدر والمطهري استطاعا أن يعيدا للفكر الإسلامي نصابه في عقول القطاع الكبير من الأُمّة، عندما أعادا صياغة الفكر الديني وتجديده بلغة تلامس مشاكل الناس اليومية وهمومهم المعرفية، فسدّا بذلك ثغرة انحباس الفكر الديني عن المجتمع عندما كان يتحرك بلغته القديمة.

إنّ القضايا المثارة مثلاً حول النص وكيفية قرأته وفهمه، وعلاقة العلم بالدين في موضوع الحدود، والحدّ الفاصل بين المعرفة الدينية والمعرفة البشرية وغير ذلك من القضايا، التي لم تعد تحتمل التأجيل ومزيداً من الوقت، تحتاج إلى تصدي الفقهاء والمجتهدين للتعامل معها، وهذه القضايا المطروحة كلّها نتاج حقول العلوم الإنسانية ذات المصدر الغربي، وليس هناك شك في قدرة الفقهاء والمجتهدين على التعاطي مع هذه الموضوعات، لكن ذلك يتطلب مواكبة هذه الأفكار، والتعرف عليها من مصادرها الأساسية بطريق مباشر أو غير مباشر عبر الاستعانة بالمتخصصين والمثقفين، ومن هنا كان الشرط الأساسي هو الانفتاح والتفاعل مع الأفكار، والتعامل معها على أساس أنها تمثل تحدياً معرفياً، أو على الأقل بيان رأي الإسلام فيها بوصفه منظومة معرفية متكاملة؛ لسدّ أبواب التأثر المعرفي السلبي وتحصين العقول، وهي مهمة الحوزة العلمية وعالم الدين، وإذا لم يتصد الفقيه وعالم الدين، فإنّ هناك مستويات أضعف ستتصدى، طالما كان الحرص على الدين ونظامه المعرفي تكليف الأُمة كلها وليس عالم الدين وحده، ومن هذا الموقع سيثار السؤال المهم، مَن له أهلية التصدي؟ بالتأكيد لا يوجد غير المثقف الديني – تمييزاً له عن المثقف غير الديني من المنتسبين للإسلام في الهوية –.

الثالث: أنّ المثقف الديني الذي نفترض أنّه يمثل الحلقة الوسطية بين الحوزة العلمية والمجتمع – في مجالات محددة على الأقل – هو الأكثر حساسية لموضوع العصرنة وتحدياتها، وبالتالي فهو موقعه يعاني من ضغط الفكر المعاصر الوافد، وعدم جاهزية الفقهاء للتعامل مع هذا الفكر، وبوصفه امتداداً لمؤسسة إنتاج المعرفة الدينية من جهة، ومنفتحاً على تحديات الفكر الآخر من جهة أخرى، فإنّ المتوقع هو أن يقوم المثقف الديني بملإ الفراغات، والإجابة على الأسئلة التي يطرحها العصر، ومتطلبات الفرد والمجتمع في اللحظة الزمانية المعاشة.

غير أنّ المشكلة تكمن في أنّ المثقف الديني يفتقد مكانة وأهلية الفقيه في المجتمع أوّلاً، ولأنّه معرض للشبهات والتشكيك ثانياً، وثالثاً لأنّه ينقصه الإلمام الكافي بأصول وقواعد الدين وجذوره غير ثابتة بمستوى ثبوت جذور الفقيه، وبالتالي فهو فاقد للشرعية ومضطر لتجديدها والحصول عليها في كلّ مرة يدلي بها برأي.

وإذا جأت أجوبة وأسئلة واستفسارات وصياغات المثقف الديني غير منسجمة مع الشروط المعرفية للفكر الديني، أو فيها نوع من التجديد والتجاوز، فإنّه يصبح عرضة للاتهام تارة على مستوى الوعي والفهم فيكون متأثراً بالفكر الغربي مثلاً، أو يُتّهم بنواياه تارة أخرى.

ولسد هذه الثغرة، فإنّ من واجب المجتهدين والفقهاء ملأ الفراغ والتصدي الفعال – دون إلغاء المثقف الديني – بالمستوى الذي يقود تلقائياً إلى انفتاح الفقيه على معارف عصره وتعاطيه مع موضوعات مستجدة غالباً ما تفرزها حركة الزمان وقضايا الإنسان المعاصر.

لقد أدّى المثقف الديني رسالة كبيرة، وكان له دور في ملإ ساحة الفكر الإسلامي، وسدّ الكثير من الفراغات، وشدّ الذهنية العامة للإسلام والفكر الإسلامي، ولولاه لانتهى مصير قطاع مهم من الجيل المتعلم إلى القطع مع الإسلام قطعية كبيرة، وليس بوسع أحد أن ينكر دور أسماء لامعة (في إيران والعراق ومصر وتونس وغيرها) سواء حصل الاختلاف معها أم لم يحصل، لكننا أردنا الإشارة إلى أنّ ولادة المثقف الديني كانت مؤشراً على حاجة المجتمع لهذا الصنف من الملتزمين بالإسلام والمدافعين عن رسالته في الحياة بتأثير ضغط الفكر الغربي الوافد، وتلكؤ منهج التجديد والانفتاح على قضايا المجتمع ومشاكل الواقع من قبل الحوزات العلمية والمدارس الدينية الإسلامية.

إنّ هناك تعويلاً جدياً على الحوزات العلمية للرد على أسئلة العلوم الإنسانية، حتى من قبل المثقفين الملتزمين إسلامياً والعاملين في حقل هذه العلوم وتخصصاتها، ويشار هنا إلى أنّ أحد فضلاء ومثقفي الحوزة العلمية من المطّلعين على الفكر الغربي سأل أستاذاً جامعياً لبنانياً عن آثار توظيف نتائج العلوم الإنسانية في مواجهة الفكر والثقافة الإسلامية، ومسؤولية المثقفين الإسلاميين الملتزمين في هذا المجال، فكان جواب الأستاذ: أنّه كان يتوقع أنّ الحوزة العلمية تتابع هذه التحديات، وهي مشغولة بإعداد الجواب المناسب لها؟

ولربما تجدر الإشارة إلى أن قضية الأستاذ المصري نصر حامد أبو زيد غير بعيدة عن هذا الموضوع، فالضجة التي أثيرت حول قرار المحكمة، التي حكمت بارتداده عن الإسلام وضرورة انفصال زوجته عنه، جأت بعد تطبيقه لمنهج جديد في قراءة وتفسير الخطاب القرآني، يلغي كلّ ثوابت الفهم المتعارف لمفردات هذا الخطاب، لمصلحة رؤى جديدة (عصرية) مستحدثة من علم قراءة النص وتفسيره، على ضوء تطور علوم اللسانيات، داعياً إلى قراءة النص الإسلامي على ضوء ما توصل إليه وعينا الحاضر، وعدم الركون إلى ثوابت المعنى، وما ينصرف إليه الدال والمدلول والظهور اللفظي، وأسباب النزول كما جأت في زمن صدور النص، ورغم قوة ومكانة علم أصول الفقه لدى المدرسة الإمامية إلّا أنّ كتاباً لم يصدر في الرد على أمثال هذه الأفكار والرؤى ودحضها رغم خطورتها، وقد يكون القطاع الأكبر من الحوزات العلمية والمدارس الدينية لم يسمع بالمشكلة وتداعياتها لحدّ الآن.

وعلى ضوء كلّ ذلك، فإنّ ضرورات التحديات الثقافية والمعرفية الراهنة ومسؤولية الحوزات العلمية في وعي مشكلات الخطة التاريخية الراهنة والقادمة، وواجبات تقديم الرسالة الإسلامية للإنسانية، تستدعي تجديد الشروط العملية لتكوين المجتهد ولظهور جيل جديد من الفقهاء منسجم مع عصره، ومنفتح على مشاكل الإنسان في العالم بأسره، حتى يمكن صياغة خطاب الفكر الإسلامي المعاصر وحلوله لمشاكل الإنسانية، ضمن رؤية واثقة قادرة على إنجاز وتقديم هذا البديل المعرفي والأخلاقي، بما ينسجم مع مهمات الفقيه بوصفه شاهداً على الحيرة ومؤتمناً عليها ومكلفاً برفدها وتصحيحها.

إنّ فقهاءَ أمثال الشهيدين الصدر ومطهري لم يتركا هذا الدوي الكبير في سماء الفكر الإسلامي وخارجه، لو لم يخرجا على مألوف الحوزات العلمية، ويتعاطيا مع الفكر الإنساني الحديث، ويعالجا مشاكل الإنسان والمجتمع الإسلامي من منطلق الحرص على شخصية المجتمع وهويته والمساهمة في إبداء رأي الإسلام في حلّ مشاكله، ومواجهة الفكر الوافد وتحدياته وقد نجحا في ردم الهوة الكبيرة، التي كانت تتعمق بين غالبية الجمهور – المتعلم تعليماً حديثاً، والمنفصل كلياً أو جزئياً عن الفكر الإسلامي والإسلام بوصفه رسالة شاملة في الحياة، فأعادا الثقة بالإسلام، وجدّداً حيوية الفكر الإسلامي وعبّدا طريق النهوض الإسلامي المعاصر، وما كان ذلك ليحصل لمصلحة الإسلام والمسلمين لو أنهما بقيا حبيسي المناهج التقليدية في انتاج الفكر الديني، في إطار النخبة المتخصصة من طلبة العلوم الدينية، وكان الانفتاح على العصر ومشاكله والتماس المباشر مع الهم الاجتماعي، وقضايا التحديث والعصرنة وصلتها بالإسلام، وموقع المسلمين في قبال الفكر الغربي الوافد، ومواجهتهما للنزعة الفردية في التفكير الفقهي إضافة إلى النبوغ الذاتي والمؤهلات الخاصة، كلّ ذلك كان السمات الأساسية التي ميزت هاتين الشخصيتين العظيمتين، وصيرتهما نموذجاً كبيراً ومثالاً يقاس عليه، ولكن ينبغي الاعتراف بأنهما لم يكونا نتاج مسار عام ومنهج مخطط له بقدر ما كانا نتاج مؤهلاتهما الذاتية وتكوينهما الخاص، وما نطمح إليه هو تحويل النبوغ الذاتي والتكوين الخاص، إلى منهج ومخطط عام يسير في هذا الاتجاه؛ لأننا لا نعدم الكفأات العظيمة داخل الحوزات العلمية، بل نحتاج إلى تجديد التأطير، فلا يمكن تصور حدوث نهضة فكرية، ونجاح عملية التغيير الاجتماعي والتحصين الثقافي بدون فكر إسلامي حديث متواكب مع العصر ومحافظ على استمراريته وأصالته، وغير منغلق على نفسه أو منفصل عن الواقع الإنساني المعاصر، فالتربية الروحية والأخلاقية لا تنتج وحدها بدون فكر إسلامي متوثب ومعطاء، والعكس صحيح أيضاً.

إنّ أهمية الحديث عن فقيه مثقف تأخذ مشروعيتها من الموقع الذي يصدر منه الفقيه، باعتباره ممثلاً للإسلام وناطقاً باسمه وحاضناً للفكر الإسلامي ومصدر عطاءٍ معرفي. وتغذية روحية وفكرية للجمهور، ومسؤولاً عن صيانة معتقدات وأفكار وسلوك هذا الجمهور.

 

المصدر: كتاب الاجتهاد والتجديد/ قضايا إسلامية معاصرة

ارسال التعليق

Top