• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تعدد الأحزاب في ظل الدولة الإسلامية

د. يوسف القرضاوي

تعدد الأحزاب في ظل الدولة الإسلامية

لقد اشتهر بين بعض الفصائل الإسلامية أنّ الاسلام يوجب الوحدة، ويمنع التفرق والاختلاف، وتعدد الأحزاب لا يأتي من ورائه إلا اختلاف الكلمة، وتفرق الأمة.
وقد ذكر حسن البنا: أنّ لا حزبية في الإسلام، وبهذا تمسك الكثيرون في رفضهم لفكر التعدد. ولهم في ذلك شبهات يذكرونها، وأدلة يسوقونها.
لا يوجد مانع شرعي من وجود أكثر من حزب سياسي داخل الدولة الإسلامية، إذ المنع الشرعي يحتاج إلى نص ولا نص.
بل إنّ هذا التعدد قد يكون ضرورة في هذا العصر، لأنّه يمثل صمام أمان من استبداد فرد أو فئة معينة بالحكم، وتسلطها على سائر الناس، وتحكمها في رقاب الآخرين، وفقدان أي قوة تستطيع أن تقول لها: لا، أو: لمَ؟ كما دلّ على ذلك قراءة التاريخ، واستقراء الواقع.
كل ما يشترط لتكتسب هذه الأحزاب شرعية وجودها أمران أساسيان:
1 ـ أن تعترف بالإسلام ـ عقيدة وشريعة ـ ولا تعاديه أو تتنكر له، وإن كان لها اجتهاد خاص في فهمه، في ضوء الأصول العلمية المقررة.
2 ـ ألا تعمل لحساب جهة معادية للإسلام ولأمته، أياً كان اسمها وموقعها.
فلا يجوز أن ينشأ حزب يدعو إلى الإلحاد أو الإباحية أو اللادينية، أو يطعن في الأديان السماوية عامة، أو في الإسلام خاصة، أو يستخف بمقدسات الإسلام: عقيدته أو شريعته و قرآنه، أو نبيه عليه الصلاة والسلام.
وذلك أنّ من حق الناس في الإسلام ـ بل من واجبهم ـ أن ينصحوا للحاكم، ويقوموه إذا اعوج، ويأمروه بالمعروف، وينهوه عن المنكر، فهو واحد من المسلمين، ليس أكبر من أن يُنصح ويؤمر، وليسوا هم أصغر من يَنصحوا أو يأمروا.
وإذا ضيعت الأمة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فقدت سر تميزها، وسبب خيريتها، وأصابتها اللعنة كما أصابت من قبلها من الأمم، ممن (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة/79).
وفي الحديث: (إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منهم).
ولكن علّمنا التاريخ، وتجارب الأمم، وواقع المسلمين: أن تقويم اعوجاج الحاكم ليس بالأمر السهل، ولا بالخطب اليسير، ولم يعد لدى الناس سيوف يقومون بها العوج، بل السيوف كلها يملكها الحاكم!
والواجب هو تنظيم هذا الأمر لتقويم عوج الحكام بطريقة غير سل السيوف، وشهر السلاح.
وقد استطاعت البشرية في عصرنا ـ بعد صراع مرير، وكفاح طويل ـ أن تصل إلى صيغة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقويم عوج السلطان، دون إراقة للدماء وتلك هي وجود (قوى سياسية) لا تقدر السلطة الحاكمة على القضاء عليها بسهولة، وهي ما يطلق عليها (الأحزاب).
إنّ السلطة قد تتغلب القهر أو بالحيلة على فرد أو مجموعة قليلة من الأفراد، ولكنها يصعب عليها أن تقهر جماعات كبيرة منظمة، لها امتدادها في الحياة وتغلغلها في الشعب، ولها منابرها وصحفها وأدواتها في التعبير والتأثير.
فإذا أردنا أن يكون لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معناها وقوتها وأثرها في عصرنا، فلا يكفي أن تظل فريضة فردية محدودة الأثر، محدودة القدرة، ولا بد من تطوير صورتها، بحيث تقوم بها قوة تقدر على أن تأمر وتنهى، وتنذر وتحذر، وأن تقول عندما تؤمر بمعصية: لا سمع ولا طاعة. وأن تؤلب القوى السياسية على السلطة إذا طغت، فتسقطها بغير العنف والدم.
إنّ تكوين هذه الأحزاب أو الجماعات السياسية أصبحت وسيلة لازمة لمقاومة طغيان السلطات الحاكمة ومحاسبتها، وردها إلى سواء الصراط، أو إسقاطها ليحل غيرها محلها، وهي التي يمكن بها الاحتساب على الحكومة، والقيام بواجب النصيحة والأمر بالمعروف، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وربما يتصور بعض المخلصين أنّ الدولة التي تحكم بشرع الله، وترجع في كل أمورها إلى حكمة، لا تحتاج إلى كل هذا، فهي دولة ملتزمة وقافة عند حدود الله تعالى.
فعلى العاملين أن يجاهدوا حتى تقوم هذه الدولة المنشودة: فإذا قامت كانت كما وصفها الله تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) (الحج/41).
وحينئذ عليهم أن يسلموا لها الزمام، وأن يمنحوها كامل الولاء والطاعة والتأييد.
وأحب أن أقول لهؤلاء: إنّ (الدولة الإسلامية) ليست هي (الدولة الدينية) التي عرفت في مجتمعات أخر، أعني: إنّها دولة مدنية تحتكم إلى الشريعة، رئيسها ليس (إماماً معصوماً)، وأعضاؤها ليسوا (كهنة مقدسين) بل هم بشر يصيبون ويخطئون، ويحسنون ويسيئون، ويطيعون ويعصون، وعلى الناس أن يعينوهم إذا أحسنوا، ويقوموهم إذا أساؤوا، ويرفضوا أمرهم إذا أمروا بمعصية، بل كما قاتل النبي (ص): (السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة).
وإذا انتفت العصمة والقداسة فكل الناس بشر، لا يؤمن أن تغرهم الحياة الدنيا ويغرهم بالله الغرور، فيستبدوا ويظلموا، وأشد أنواع الاستبداد خطراً ما كان باسم الدين، فإذا لم توضع الضوابط، وتهيأ السبل لمنعه من الوقوع، وإزالته إذا وقع، حاق الضرر بالأمة، وأصاب شرره الدين أيضاً.
ولهذا كان إيجاد قوى منظمة تعمل في وضح النهار، وتقدر على أن تعين المحسن وتقوم المسيء، أمراً يرحب به الشرع ويؤيده، لما وراءه من جلب المصالح ودرء المفاسد.
وأكبر الخطأ أن تظن الدولة، أو يظن بعض الموالين لها: أنّ الحق معها وحدها، والصواب دائماً في جانبها، وأنّ من خالفها فهو على خطأ، بل على باطل.
ولقد رأينا المعتزلة حين استقلوا بالحكم، وانفردوا بالسلطان في عهد الخليفة المأمون ابن الرشيد، وفي عهدي الواثق والمعتصم من بعده، أرادوا أن يفرضوا رأيهم على الكافة، وأن يمحوا الرأي الآخر، من خريطة الفكر، وقاوموا بالسوط والسيف رأي الفئات الأخرى، التي لا ترى رأيهم في القضية الكبرى التي أثاروها والمعروفة في تاريخ العقيدة، والفكر باسم قضية (خلق القرآن). وسجل التاريخ على القوم الذين زعموا أنهم أهل العقل وأحرار الفكر، هذه الجريمة المخزية التي يندي لها الجبين، وهي: جريمة اضطهاد المعارضين في الرأي، إلى حد السجن والضرب والتعذيب، ولو كانوا من كبار العلماء.


تعدد الأحزاب كتعدد المذاهب:
وعندما نجيز مبدأ التعدد الحزبي داخل الدولة الإسلامية، فليس معناه أن تتعدد الأحزاب، والتجمعات بتعدد أشخاص معينين، يختلفون على أغراض ذاتية، أو مصالح شخصية، فهذا حزب فلان، وذاك حزب علان، وآخر حزب هيان بن بيان. جمعوا الناس على ذواتهم، وأداروهم في أفلاكهم.
ومثل ذلك التعدد المبني على أساس عنصري، أو إقليمي، أو طبقي، أو غير ذلك من إفرازات العصبية، التي يبرأ منها الإسلام.
إنما التعدد المشروع هو تعدد الأفكار والمناهج والسياسات يطرحها كل فرق مؤيدة بالحجج والأسانيد، فيناصرها مَن يؤمن بها، ولا يرى الإصلاح إلا من خلالها.
وتعدد الأحزاب في مجال السياسة أشبه شيء بتعدد المذاهب في مجال الفقه.
إنّ المذهب الفقهي هو مدرسة فكرية لها أصولها الخاصة في فهم الشريعة، والاستنباط من أدلتها التفصيلية في ضوئها، وأتباع المذهب هم في الأصل تلاميذ في هذه المدرسة يؤمنون بأنّها أدنى إلى الصواب من غيرها، وأهدى سبيلاً، فهم أشبه بحزب فكري التقى أصحابه على هذه الأصول، ونصروها بحكم اعتقادهم أنّها أرجح وأولى، وإن كان ذلك لا يعني بطلان ما عداها.
ومثل ذلك الحزب: أنّه مذهب في السياسة، له فلسفته وأصوله ومناهجه المستمدة أساساً من الإسلام الرحب. وأعضاء الحزب أشبه بأتباع المذهب الفقهي، كل يؤيد ما يراه أولى بالصواب، وأحق بالترجيح.
قد تلتقى مجموعة من الناس على أنّ الشورى ملزمة، وأنّ الخليفة أو رئيس الدولة ينتخب انتخاباً عاماً، وأنّ مدة رئاسته محددة ثم يعاد انتخابه مرة أخرى، وأنّ أهل الشورى هم الذين يرضاهم الناس عن طريق الانتخاب، وأنّ للمرأة حق الانتخاب وحق الترشيح للمجلس، أنّ للدولة حق التدخل لتسعير السلع، وإيجار الأرض والعقار وأجور العاملين، وأرباح التجار، وأنّ الأرض تستغل بطريق المزارعة لا بطريق المؤاجرة، وأنّ في المال حقوقاً سوى الزكاة، وأنّ الأصل في العلاقات الخارجية السلم، وأنّ أهل الذمة يعفون من الجزية إذا أدوا الخدمة العسكرية وهي ما يقابل الزكاة التي تؤخذ من المسلم.. إلخ.
وقد تلتقي مجموعة أخرى من (المحافظين) يعارضون أولئك (المجددين) أو أدعياء التجديد في نظرهم، فيرون الشورى معلمة لا ملزمة، وأنّ رئيس الدولة يختاره أهل الحل والعقد، ويختار مدى الحياة، وأنّ الانتخاب ليس وسيلة شرعية، والمرأة ليس لها حق الترشيح ولا حق التصويت، وأنّ الاقتصاد حر، والملكية مطلقة، وأنّ الأصل في العلاقات الخارجية هو الحرب، وأنّ الخليفة أو الرئيس هو صاحب الحق في إعلان الحرب أو قبول السلم، وغير ذلك من الأفكار والمفاهيم التي تشمل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية وغيرها.
وقد توجد مجموعة أخرى لا هي مع هؤلاء ولا مع أولئك، بل توافق هؤلاء في أشياء وأولئك في أشياء.
فإذا انتصرت فئة من هذه الفئات، وأصبحت مقاليد السلطة بيدها، فهل تلغي الفئات الأخرى من الوجود وتهيل على أفكارها التراب، لمجرد أنّها صاحبة السلطان؟
هل الاستيلاء على السلطة هو الذي يعطي الأفكار حق البقاء؟ والحرمان من السلطة يقضي عليها بالفناء؟
إنّ النظر الصحيح يقول: لا، فمن حق كل فكرة أن تعبر عن نفسها ما دام معها اعتبار وجيه يسندها، ولها نصار يؤيدونها.
أما ما ننكره في ميدان السياسة فهو ما ننكره في ميدان الفقه: التقليد الغبي والعصبية العمياء، وإضفاء القداسة على بعض الزعامات كأنّهم أنبياء، وهذا هو منبع الوبال والخبال.

التعدد والاختلاف:
ومن الشبهات التي أثيرت هنا: أنّ مبدأ (التعدد) أو (التعددية) ـ كما هو المصطلح السائد ـ يتنافى مع الوحدة التي يفرضها الإسلام، ويعتبرها صنو الإيمان كما يعتبر الاختلاف أو التفرق أخاً للكفر والجاهلية.
وقد قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران/103) وقال: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران/105).
وفي الحديث: (لا تختلفوا فإن مَن كان قبلكم اختلفوا فهلكوا).
وأود أن أنبه هنا على حقيقة مهمة، وهي أنّ التعدد لا يعني بالضرورة التفرق، كما أنّ بعض الاختلاف ليس ممقوتاً، مثل الاختلاف في الرأي نتيجة الاختلاف في الاجتهاد، ولهذا اختلف الصحابة في مسائل فروعية كثيرة، ولم يضرهم ذلك شيئاً.
وقد اعتبر بعضهم هذا النوع من الاختلاف من باب الرحمة التي وسع بها على الأمة وفيها ورد الأثر (اختلاف أمتي رحمة) وفيه ألف كتاب (رحمة الأمة باختلاف الأئمة).
ونقلوا عن عمر بن عبدالعزيز أنّه لم يكن يود أنّ الصحابة لم يختلفوا، لأنّ اختلافهم فتح باب السعة والمرونة واليسر للأئمة، بتعدد المشارب وتنوع المنازع.
وبعضهم جعل اختلاف الرحمة يتمثل في اختلاف الناس في علومهم وصناعاتهم، وبذلك تسد الثغرات وتلبي الحاجات المتعددة والمتنوعة للجماعات.
والقرآن يعتبر اختلاف الألسنة والألوان آية من آيات الله تعالى في خلقه، يعقلها العالمون منهم: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) (الروم/22).
فليس كل الاختلاف شراً، بل الاختلاف قسمان: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد، والأول محمود، والآخر مذموم.
وعلى هذا فإنّه لا مانع أن تتعدد الجماعات العاملة للإسلام ما دامت الوحدة متعذرة عليهم بحكم اختلاف أهدافهم واختلاف مناهجهم، واختلاف مفاهيمهم، واختلاف ثقتهم بعضهم ببعض.
على أن يكون هذا التعدد تعدد تنوع وتخصص لا تعدد تعارض وتناقض، يقف الجميع صفاً واحداً في كل القضايا المصيرية التي تتعلق بالوجود الإسلامي وبالعقيدة الإسلامية وبالشريعة الإسلامية، وبالأمة الإسلامية.
وعلى أية حال يكون حسن الظن والتماس العذر فضيلة يتصف بها جميع الأطراف فلا تأثيم ولا تضليل ولا تكفير. بل تواص بالحق، وتواص بالصبر، وتناصح في الدين، مع التزام الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
ومثل هذا التعدد أو الاختلاف ـ اختلاف التنوع ـ لا يؤدي إلى تفرق ولا عداوة، ولا يلبس الأمة شيعاً، ويذيق بعضها بأس بعض، بل هو تعدد واختلاف في ظل الأمة الواحدة، ذات العقيدة الواشجة. فلا خوف منه، ولا خطر فيه، بل هو ظاهرة صحية.
نقول هذا قبل قيام الدولة الإسلامية، ونقوله بعد قيام الدولة الإسلامية، فهي دولة لا تضيق بالخلاف ذرعاً، ولا تحكم بالإعدام على كل الأفكار التي تبنتها قبلها جماعات قبلها، لأنّ الأفكار لا تموت ولا تقبل حكم الإعدام، ما لم تمت هي من نفسها بظهور أفكار أقوى منها.

التعدد مبدأ مستورد:
ومن الشبهات التي تثار هنا أيضاً: ما يقال: إنّ التعدد الحزبي مبدأ مستورد من الديمقراطية الغربية، وليس مبدأ إسلامياً أصيلاً نابعاً منا، وصادراً عنا، وقد نهينا أن نتشبه بغيرنا، ونفقد ذاتيتنا (ومَن تشبه بقوم فهو منهم).
والواجب أن يكون لنا استقلالنا الفكري والسياسي، فلا نتبع سنن غيرنا بشراً بشير، وذراعاً بذراع.
ونحن نقول: إنّ الذي نهينا عنه، وحذرنا منه، هو: التقليد الأعمى لغيرنا بحيث نغدو مجرد ذيول تَتبع ولا تُتبع، وتمضي خلف غيرها في كل شيء (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه).
والتشبه الممنوع هو ما كان تشبهاً فيما هو من علامات تميزهم الديني مما يدخل صاحبه في زمرة المتشبه بهم، ويحيله كأنه واحد منهم.
أما الاقتباس منهم فيما عدا ذلك مما هو من شؤون الحياة المتطورة فلا حرج فيه، ولا جناح على مَن فعله، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
وقد حفر الرسول (ص) خندقاً حول المدينة، ولم تكن مكيدة تعرفها العرب، إنما هي من أساليب الفرس، أشار بها سلمان (رض).
واتخذ الرسول (ص) خاتماً يختم به كتبه، حين قيل له: إنّ الملوك لا يقبلون الكتاب إلا إذا كان مختوماً.

وعلى هذا لا غضاضة ولا حرج من اقتباس مبدأ التعدد الحزبي من الديمقراطية الغربية بشرطين:
أولهما: أن نجد في ذلك مصلحة حقيقية لنا، ولا يضرنا أن نخشى من بعض المفاسد من جرائه، المهم أن يكون نفعه أكبر من ضرره، فإن مبنى الشريعة على اعتبار المصالح الخالصة أو الغالبة، وعلى إلغاء المفاسد الخالصة أو الراجحة. وقوله تعالى في الخمر والميسر: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) (البقرة/219) أصل في هذا الباب.
وثانيهما: أن نعدل ونطور فيما نقتبسه، حتى يتفق مع قيمنا الدينية ومثلنا الأخلاقية، وأحكامنا الشرعية، وتقاليدنا المرعية.
ولا يجبرنا أحد أن نأخذ النظام بحذافيره وتفاصيله، ومنها: التعصب للحزب بالحق وبالباطل، ونصرته ظالماً ومظلوماً، على ظاهر ما كان يقوله العرب في الجاهلية: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) قبل أن يعدل الرسول عليه الصلاة والسلام مفهومها لهم، ويفسرها تفسيراً يجعل لها معنى آخر، فنصره ظالماً بأن تأخذ فوق يديه، وتمنعه من الظلم، فبذلك تنصره على هوى نفسه، ووسوسة شيطانه.

لمن الولاء؟
ومن الشبهات التي أثيرت كذلك: ما قيل من أنّ وجود أحزاب داخل الدولة الاسلامية يقسم ولاء الفرد بين حزبه الذي ينتمي إليه، ودولته التي بايعها على السمع والطاعة والنصرة والمعونة.
هذا صحيح إذا كان الفرد سيتخذ موقف المعارضة للدولة في كل شيء والتأييد لحزبه في كل شيء. وهذا ما لا نقول به.
إنّ ولاء المسلم إنما هو لله ولرسوله ولجماعة المؤمنين، كما قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة/55-56).
وانتماء الفرد المسلم إلى قبيلة أو إقليم، أو جمعية، أو نقابة، أو اتحاد أو حزب لا ينافي انتماءه للدولة وولاءه لها.
فإنّ هذه الولاءات والانتماءات كلها مشدودة إلى أصل واحد هو الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والمحظور كل المحظور هو اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين: (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (النساء/139)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ) (الممتحنة/1).
وإذا كان النمط الحزبي المعهود هو تأييد الفرد لحزبه في مواقفه، وإن اعتقد أنّه مبطل بيقين، ومعارضة الدولة وإن اعتقد أنّها على حق، فهذا ما لا نقره ولا ندعو إليه، وما ينبغي تعديله إلى صيغة تتفق وقيم الإسلام وأحكامه وآدابه.

الإمام علي يقر وجود حزب الخوارج:
وإذا رجعنا إلى تراثنا الخصب، وإلى سنة الراشدين خاصة ـ وهم الذين أمرنا أن نتبع سنتهم ونعض عليها بالنواجذ ـ نجد أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) سمح بوجود حزب مخالف له في سياسته ومنهجه إلى حد انتهى به إلى اتهامه بالكفر والمروق، وهو ابن الإسلام البكر، ولم يكتفوا بهذا الموقف النظري الفكري، فسلوا عليه السيوف، وأعلنوا عليه الحرب، واستحلوا دمه ودم مَن ناصره، بدعوى أنّه حكم الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله بنص القرآن الكريم: (إنّ الحكم إلا لله).
وحين سمع الإمام علي (ع) هذه الكلمة، رد عليهم بجملته التي أصبحت مثلاً يرويه التاريخ، وذلك قوله: كلمة حقّ يراد بها باطل!
ومع هذا لم يلغ وجودهم، ولم يأمر بمطاردتهم وملاحقتهم، حتى لا يبقى لهم أثر، بل قال لهم في صراحة وجلاء: لكم علينا ثلاث: ألا نمنعكم مساجد الله، ولا نحرمكم من الفيء ما دامت أيديكم في أيدينا، ولا نبدأكم بقتال.
هذا وهم الخوارج، الذي يمثلون المعارضة المسلحة، والقوة التي بلغت بها الشجاعة حد التهور.
أنا أعلم أنّ حسن البنا، أنكر قيام الحزبية وتعدد الأحزاب في الإسلام.
وهو اجتهاد منه، لما رآه في زمنه من حزبية فرقت الأمة في مواجهة عدوها، وهي أحزاب اجتمعت على أشخاص لا على أهداف واضحة، ومناهج محددة، وقد قال عن رجال الأحزاب، وزعمائها في بعض رسائله: إنّ المستعمر يفرقهم بعضهم عن بعض، ويجمعهم عليه، فلا يقصدون إلا داره، ولا يجتمعون إلا زواره!
ولا بأس أن يخالف اجتهادنا اجتهاد ، فهو لم يحجر على من بعده أن يجتهدوا كما اجتهده، وخصوصاً إذا تغيرت الظروف وتطورت الأوضاع والأفكار. ولعله لو عاش إلى اليوم لرأى ما رأينا، فإن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والحال. ولا سيما في أمور السياسة الكثيرة التغيير.
والعارفون بحسن البنا يعلمون أنّه لم يكن جامداً ولا متحجراً، بل كان يتطور، ويطور أفكاره وسياسته، وفقاً لما يتبين له من الأدلة والاعتبارات.
والعلمانيون يصورون الدولة الإسلامية المبتغاة بأنّها الدولة التي لا تسمح بصوت يرتفع، أو برأي يعارض، أو بجماعة تقول: لم؟ بله: لا!
والواقع ينطق بأنّ في الساحة قوى مختلفة، وجماعات متعددة، تنطلق من الإقرار بالإسلام، والانقياد له، ولكنها مختلفة الرؤى والمفاهيم والبرامج والخطط، فإذا قدر لبعضها أن يمتلك زمام السلطة بوسيلة أو بأخرى، فهل يأذن لسائر الجماعات والقوى بالبقاء والاستمرار أم يقضي عليها بأن تختفي من المسرح، وتتوارى إلى الأبد؟
إنّ الأرشد والأوفق أن تظل هذه القوى في الساحة داعية موجهة، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر ناصحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
وإن كان تعدد الأحزاب والقوى السياسية مشروعاً في ظل الدولة الإسلامية، الملتزمة بأحكام الإسلام، فمن باب أولى أن يكون تعدد الجماعات والأحزاب مشروعاً قبل قيام دولة الإسلام، فلا مانع أن يوجد في ساحة العمل الإسلامي أكثر من جماعة تسعى لإقامة المجتمع المسلم، والدولة المسلمة، وتجاهد في سبيل الله بكل وسيلة مشروعة.
ومما يجب التنبيه عليه، ولا يحسن السكوت عنه هنا: ما يشيعه بعض الأفراد وبعض الفئات التي تحمل النسب الإسلامي، من أفكار تتعلق بهذا الجانب.
من ذلك ما صدر لبعضهم من حكم أو فتوى تجعل أي تكوين لجماعة، أو انتساب إليها عملاً محرماً، وابتداعاً في الدين لم يأذن به الله، سواء سميت هذه المؤسسة جماعة أو جمعية أو حزباً، أو ما شئت من الأسماء والعناوين.
وهذه جرأة غريبة على دين الله، وتهجم على الشرع بغير بينة، وتحريم لما أحل الله بغير سلطان. فالأصل في الأشياء والتصرفات المتعلقة بعادات الناس ومعاملاتهم الإباحة. وتكوين الجماعات العاملة للإسلام منها.
بل الصواب أنّ تكوين هذه الجماعات مما توجبه نصوص الشرع العامة، وقواعده الكلية. فالله تعالى يقول: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة/2)، ويقول: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران/103).
والرسول (ص) يقول: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) ، (يد الله مع الجماعة ومَن شذ شذ في النار).
والقاعدة الفقهية تقول: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب). ومن المؤكد أنّ خدمة الإسلام في هذا العصر، والمحافظة على كيان أمته، والعمل لإقامة دولته، لا يمكن أن يتم بجهود فردية متناثرة هنا وهناك، بل لا بد من عمل جماعي يضم القوى المتشتتة، والجهود المبعثرة والطاقات المعطلة، ويجند الجميع في صف منتظم، يعرف هدفه، ويحدد طريقه.
يؤكد هذا انّ القوى المعادية للإسلام، والتي تعمل لأهداف أخرى، لا تعمل متفرقة، بل في صورة كتل قوية ومؤسسات جماعية كبرى، تملك أضخم القوى المادية والبشرية.
فكيف نواجهها فرادى متفرقين، والمعركة تقتضي رص الجميع في صف واحد، كما قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف/4).
إنّ العمل الجماعي لنصرة الإسلام، وتحرير أرضه، وتوحيد أمته، وإعلاء كلمته فريضة وضرورة. وفريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع، والعمل الجماعي يعني تكوين جماعات أو أحزاب تقوم بهذا الواجب.
وهناك على النقيض من هذه الفكرة فكرة أخرى: ترى العمل الجماعي فريضة، وتحصر هذه الفريضة في جماعة معينة ترى أنّها وحدها تمثل الحق الخالص، وما سواها هو الباطل: (فماذا بعد الحق إلا الضلال).
وبعبارة أخرى تصف هذه الفئة نفسها بأنّها (جماعة المسلمين) ، وليست مجرد (جماعة من المسلمين) وما دامت هي جماعة المسلمتين فكل مَن فارقها فقد فارق الجماعة، وكل مَن لم يدخل فيها، فليس في جماعة المسلمين!
وكل ما جاء من أحاديث عن (الجماعة) ولزوم (الجماعة)، ومفارقة (الجماعة) تنزل على جماعتها.
وهذا النوع من الاستدلال، وتنزيل النصوص على غير ما جاءت له، باب شر على الأمة، لأنّه يضع الأدلة في غير مواضعها.
ومن هؤلاء مَن يجعل الحق مع جماعته أو حزبه دون غيره، لمبررات موضوعية يسبغها على حزبه أو جماعته وحدها، وينفيها عمن سواها.
وكثيراً ما يضع بعضهم أوصافاً فكرية وعملية، عقدية وخلقية، يحدد بها (جماعة الحق) أو (حزب الحق) لتنطبق على جماعته دون غيرها، وهذا نوع من التكلف والتعسف لا يقبله منطق العلم.
وثمت آخرون يجعلون التقدم الزمني هو المعيار الأوحد، فمن سبق غيره فهو الجدير بأن يكون هو صاحب الحق، أو محتكر الحق والحقيقة.
حتى زعم بعض الأحزاب في بعض البلاد الإسلامية أنّه وحده يمثل الحق، لأنّه الحزب الأول الذي أخذ زمام المبادرة، وكل حزب يشكل بعد ذلك يجب أن يلغى نفسه، ولا حق له في البقاء، لأنّ قبول الجماهير له بمثابة المبايعة له.
إنّ هذه الفتاوى الجاهلة الجريئة من أنساً لم ترسخ أقدامهم في علوم الشريعة. هي التي تورد الأمة شر الموارد، وتوقعها في شر المهالك ولقد قال بعض الفقهاء في العصور الماضية حين رأى فتاوى بعض مَن ينتسبون إلى العلم: لبعض مَن يفتي الناس اليوم أحق بالسجن من السرّاق! وذلك لأنّ السراق يفسدون دنيا الناس، وهؤلاء يفسدون عليهم دينهم.
فكيف لو رأى أولئك الفقهاء ما نقرأ أو نسمع من فتاوى زماننا؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ارسال التعليق

Top