• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ثمرات الحوار في التربية

عبدالله علي العليان

ثمرات الحوار في التربية

ثمرات الحوار في التربية في اعتقادي هي أكثر الثمرات رسوخاً وتأصلاً ونجاحاً، باعتبار أنّ التربية هي الأقوى في مرحلة التأسيس والنشأة، والتربية الحوارية عظيمة وهي الأجدى في ترسيخ مفاهيم الحوار، وقبوله عندما نربي المجتمعات على الحوار واحترام الرأي والرأي الآخر وقبوله عند ظهور علامات الحق بين المتحاورين... إلخ.

وإذا استقرأنا الكثير من آيات القرآن الكريم والصور المتعددة للحوار: بين الأنبياء وأممهم "أو بين أهل الجنة وأهل النار، بعضهم مع بعض، أو بين أهل الجنة والنار وبين أصحاب الأعراف، وما قام به الرسول (ص) وما أجراه من حوار وما حكاه لنا من صور المناجاة بين العبد وربه عند قراءة القرآن، لخرجنا بمعانٍ متعددة مختلفة للحوار القرآني والنبوي، يصعب احتواؤها بتعريف يجمع كل معانيها، وأشكالها؛ لأنّها ليست على نمط واحد، ولكنها من حيث المغزى والمرمى تؤدي أهدافاً مشتركة"[1]. وهي في أساسها تأسيس للحوار والاختلاف بمضامينه العديدة ووفق القضايا المطروحة، لذلك فإنّ هذه الآيات هي التي تربي أسلوب الحوار والرد على المخالفين والحجة والبرهان، وإعطاء الأمثلة المختلفة لتدعيم الحجة وقبولها من الناحية التربوية لذلك نرى "أنّ القرآن يتولى صياغة أسئلة وأجوبة تغني عن جواب المشركين، ليقيم عليهم الحجة بها، وليتم تقرير ما يراد تقريره، مما يلزمهم الإقرار به، بالبرهان والحجة، لزوماً منطقياً ناشئاً عن بداهة المقدمات التي صيغت في أسئلة المرحلة الأولى التي تحكي واقعهم أو تعبر عما هو مشاهد بالحس والواقع فلا يمكن إنكاره. والمثال التالي خير دليل على ذلك، وهو الحوار القرآني مع المشركين الوارد في قوله تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (يونس/ 31-32). فهذا الحوار يقوم على سؤالهم عما يعترفون به من فضل الله ورزقه.. ذلك أنّ مشركي العرب لم يكونوا ينكرون وجود الله، ولا أنّه الخالق والرازق والمدبر. إنما كانوا يتخذون الشركاء للزلفى، أو يعتقدون أنّ لهم قدرة إلى جانب قدرة الله، فهو يأخذهم بما يعتقدونه، ليصحح لهم عن طريق هذا الحوار الذي يوقظ وعيهم الفطري"[2]. والإسلام احترم العقل، واعتبره طاقة عظيمة أودعها الخالق في الإنسان، ولذلك نجد آيات القرآن الكريم تركز على ترسيخ الحجة البرهانية بالحوار ومخاطبة العقل كما في الآيات السابقة، إذ نجده يأخذ في "تدريب الطاقة العقلية على طريقة الاستدلال المثمر والتعرف على الحقيقة، فيتخذ إلى ذلك وسيلتين:   - الوسيلة الأولى هي وضع المنهج الصحيح للنظر العقلي: والوسيلة الثانية هي تدبر نواميس الكون وتأمل ما فيها من دقة وارتباط. والوسيلة الأولى يصل إليها بطائفة من التوجيهات والتدريبات: فهو أولاً يبدأ بتفريغ العقل من كل المقررات السابقة التي لم تقم على يقين، وإنما قامت على مجرد التقليد أو الظن. فينغي على المقلدين الذين يقولون: "إنا وجدنا آباءنا. أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون؟!" وينعي على الذين يتبعون الظن: "إن يتبعون إلا الظن وما تهوي الأنفس" "إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً"[3]. كما أنّ الله سبحانه وتعالى جادل منكري البعث وحاورهم من خلال رسله عليهم السلام ورد عليهم، ولذلك حكمة لا شك في ذلك ليعلمنا أسس الاستدلال والرد على الشبهات ودحضها بالحوار، وكأساس تربوي قويم بتحقيق ثمراته الإيجابية وبالأدلة "العقلية المفحمة، مبيناً أنّ الشبهات التي أثاروها لا تستند إلى دليل عقلي، إذ إنّ العقل لا يحيل إعادة الأجساد مرة أخرى، فمن المعلوم بالبديهة أنّه لا يمكن لأحد أن يثبت أو ينفي وجود شيء في مكان أو زمان إلا بأن يطّلع أو يخبره مطّلع إذا كان وجود هذا الشيء أو عدمه لا يتناقص مع العقل، وليس مستحيلاً في حكمه"[4]. ومن الدلالات الأخرى في الحوار والمحاججة والاستدلال مع الآخر، أورد القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تبرز أسلوب الحوار المنطقي والبرهاني لإقناع الكفار والمشركين بأنّ طريق الحق هو الأقرب إلى الصواب وعبر تحكيم العقل، وهو أيضاً تبيان للمسلمين وتربية لهم بأنّ الإقناع والحوار هو السبيل الأجدى لتصحيح الأخطاء وتقويم المفاهيم المغلوطة، وهذا بلا شك له نتائج إيجابية وثمرات طيبة للمربين، ولعل أجابة نبي الله إبراهيم عليه السلام عندما سأله قومه عن تكسير أصنامهم أجابهم إجابة عقلية منطقية برهانية فقال لهم: اسألوهم إن كانوا ينطقون فسيجيبوكم عن سؤالكم، فلما رجعوا إلى أنفسهم وثابوا إلى رشدهم لحظة من الزمان حكموا على أنفسهم بأنّهم هم الظالمون في اتخاذ الأصنام عبادة، لكن الشيطان استحوذ عليهم وعادوا مرة أخرى إلى تفكيرهم، وعقلية القطيع[5]. وإذا ما فرضنا قيم الحوار والتواصل، فإننا سنجني ثمار هذا الغرس، بأن ننشئ جيلاً متوازناً وإيجابياً ومتفاعلاً مع مجتمعه ومحيطه وعالمه، إلى جانب أنّ هذا الغرس سوف يحررهم من الخوف والتردد والتوجس من الآخرين المختلفين عنهم، وتنمي فيهم الروح الإيجابية والمنافسة والتفاعل والتأمل، والترجيح بين الآراء، وغيرها من الإيجابيات ولذلك فإنّ التربية الإسلامية الصحيحة المنفتحة على الحوار، هي التي ترفض الظن والتخمين وتطالب بالدليل"( وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) (يونس/ 36)، (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (النمل/ 64)، و هي تربية تعرف حدود العقل دون أن تنقص من قدره (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا) (الإسراء/ 36)[6]. والتربية المنفتحة على الحوار وقيمة، تكسب الفرد في خطواته العمرية المتدرجة الكثير من التكوينات الإيجابية ذلك "أنّ القيم تعد بمثابة عوامل مؤثرة على القدرات، فاستعدادات الفرد، ومستوى تحصيله يتأثر بدافعيته للإنجاز ومثابرته ونسقه القيمي. فقد تبين أنّ المرتفعين في الأداء الإبداعي يحصلون على درجات مرتفعة على عدد من القيم مثل: الإنجاز، والاستقلال، والصدق، والاعتراف أو التقدير الاجتماعي.. ومنها ما يأتي: 1- أنّ لهم اتجاهاً واقعياً. 2- أنّهم على قدر كبير من التلقائية. 3- أنّهم يتمركزون حول المشاكل بدلاً من أن يتمركزوا حول أنفسهم. 4- أنّهم في حاجة إلى الخصوصية. 5- أنّهم يتسمون بالاستقلال الذاتي والاستقلال عن الآخرين. 6- أنّ تقديرهم للأشياء متجدد ودون نمطية جامدة. 7- أنّ اتجاهاتهم وقيمهم تتسم بالديمقراطية. 8- أنّهم لا يخلطون بين الغاية والوسيلة. 9- أنّهم يولعون أشد الولع بالخلق والابتكار وغيرها من الصفات[7]. هذه إذن كلها نتائج وإفرازات للتربية السليمة والصحيحة والتي تتيح للطالب الفرصة الكافية للتعبير عن نفسه بالحوار وبالانفتاح على الآراء المختلفة وتعويده على طرح رأيه والرد على الآراء التي يراها سلبية من وجهة نظره، ومعايير السلبية في هذه الآراء إلخ: هذه الطريقة أو هذا الأسلوب التربوي ينتج التعلم الذاتي، والتفكير المستقل ومناقشة الآراء بحرية، وهنا مكمن الإبداع والصدقية في ذات الفرد، لأنّ التربية هي ناتج التعليم" وهي مظهر سلوكي له، فإنّ التربية هي أيضاً ليس لها حدود معينة من عمر الإنسان، فهو يكتسب سلوكاً أو يغير سلوكاً، أو يطور سلوكاً في كل لحظة من لحظات عمره. والأمثلة كثيرة على ذلك، فلقد آمن بالإسلام ودعوة معلمنا ومربينا ونبينا محمد (ص)، أناس من مختلف الأعمار بل حتى أصحاب الكهولة والشيخوخة. وقد استطاع هذا الدين بعقائده وتعاليمه أن يغير سلوكهم حتى تحول ذلك السلوك العشائري الضيق الأفق إلى سلوك دعوة وتحول من سلوك أناني إلى سلوك جماعي، كما تحولت المعتقدات الدينية إلى ذلك المعتقد الجديد. أي أنّ عملية التربية الإسلامية تمكنت من أن تنشئ من الشيخ أو الكهل، ومن الشاب، إنساناً جديداً هو غيره قبل أن يؤمن بالإسلام. وهذا ما ينطبق في مستويات التغيير على المعتقدات السياسية والفكرية في عصرنا الحاضر[8]. وفي عصرنا الراهن ومع مجيء تطبيقات العولمة وآثارها العديدة فإنّنا أحوج ما نكون إلى الحوار بالتربية للاستعداد لهذه المرحلة الجديدة التي أصبح الاختراق مسألة قسرية وفرضية لا خيار لنا فيها، وهذا بلا شك يجعل من هذه القضية في مقام الضرورة لتنشئة جيل جديد يؤمن بالحوار مع الآخر ويبصر إيجابيات الانفتاح من سلبياته حتى يستطيع على الأقل أن يتفاعل مع القيم الصالحة، ويحتاط للقيم المنحرفة أو السلبية، التي ستدخل علينا اقتحاماً وليس اختياراً "ونحن لا نتحدث عن توقع أو خيال وإنما نتحدث عن واقع وحقائق قائمة حيث تستباح مجالات الفضاء بصورة نهائية، ويسيطر الأقوى تكنولوجياً على فكر العالم وعقله، فتسهل عليه في كافة الشؤون الأخرى في الوقت الذي يصبح فيه العالم النامي عديم الحيلة أمام تلك القوى التي تمتلك الوسائل وأساليب الدعايات العديدة. وسوف تضطر هذه الدول إلى فتح أبوابها على مصراعيها أمام هذا التطور المفروض بمنظمة التجارة العالمية "الجات" تحت مسميات دعم التفاهم بين الشعوب وتقديم الثقافة والفكر لبلورة حوار الحضارات والتواصل الإعلامي الجديد وتعميم التكنولوجيا والمعلوماتية "الإنترنت" عبر الفضاء. فلا مفر من التعامل مع هذا الواقع الفضائي وهذا الاختراق الثقافي الجديد بكل إمكانياته الرهيبة. فالهروب والعزلة أو الاعتزال عن المواجهة معناه إنّنا نخسر مواقع جديدة وأرضية يمكن كسبها فيما لو قبلنا التحدي بشجاعة المواجهة وبجدية المصارحة في تناول قضايانا ومشكلاتنا عبر وسائل التقنية الفضائية[9]. والشيء الغريب أن مبادئ التربية الدولية التي صدرت في توصيات اليونسكو في نوفمبر 1974م تدعو إلى عكس ما تطرحه العولمة، والتي هي في الأساس نتاج للفكر الغربي وتطلعاته للسيطرة وربما القضاء على التعددية، وعدم التسامح مع الهويات والثقافات الأخرى.. ومن التوصيات في هذا الصدد: أ‌)      إضفاء بعد دولي وإطار عالمي على التربية في جميع مراحلها وبكافة أشكالها. ب‌)السعي إلى فهم واحترام جميع الشعوب وثقافاتهم وحضاراتهم وقيمهم وأساليب حياتهم، بما في ذلك ثقافات الإثنيات المحلية وثقافات الأمم المتحدة. ت‌)الوعي بتزايد التكافل بين الشعوب والألم على الصعيد العالمي. ث‌)تنمية القدرة على الاتصال بالآخرين والحوار معهم. ج‌) عدم اقتصار الوعي على الحقوق وحدها بل شموله واجبات الأفراد والفئات الاجتماعية والأمم كل منها إزاء الأخرى. ح‌) فهم ضرورة التضامن والتعاون الدوليين. خ‌) تنمية استعداد الفرد للإسهام في حل مشكلات مجتمعه المحلي ووطنه والعالم أجمع[10]. ومن هنا يرى د. محمد يحيى ومجموعة من العلماء في كتابهم المنشور تحت عنوان [الثقاقة الإسلامية: ثقافة المسلم وتحديات العصر] في أفضل ما يواجه به الإنسان المسلم العولمة وتحدياتها المقبلة هي: - إبراز حقيقة الإسلام وتميزه، وبيان قيمه الكريمة التي تتمثل في السماحة والرحمة، واليسر. - تحصين النشء بالثقافة الإسلامية، حتى تشكل سداً منيعاً أمام جميع الثقافات الغازية، وحتى تكون الشخصية الإسلامية معتزة بأصالتها، ترى في الثقافات الوافدة شكلاً من أشكال الاحتلال الثقافي. - ضرورة نهوض المثقفين والأكاديميين لكشف الزيف الذي يكتنف فكرة العولمة، وإظهار النوايا الاستعمارية التي تكمن خلفها، وتنبيه جميع الأوساط إلى خطرها على الثقافة، حاضراً ومستقبلاً. - التأكيد على رحابة الإسلام، وقبوله مبدأ حوار الحضارات، وكذلك قدرته على الانفتاح والتفاعل مع الثقافات الأخرى، وصلاحيته لإقامة جسور المودة والتعرف على الأمم والشعوب الأخرى، مصداقاً لقوله تعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). - التركيز على القيم الأصيلة في ثقافتنا الإسلامية، مثل التميز، والثبات، وإظهار أثر هذه الخصائص في رفض أي ثقافة غازية تستهدف تحطيم ثوابتنا الحضارية، لتكون منسجمة مع الأهداف الاستعمارية[11]. وهذه كلها تكمن في اعتقادنا في إحياء قيم الحوار بين أفراد الأمة أولاً ثم مع الآخرين. وستكون بلا شك من ثمراتها الإيجابية التعاطي المتوازن مع العولمة ومخاطرها القادمة بنضج ووعي وإدراك لكل التصورات والمتغيرات التي ربما تجري كمحصلة لتطبيقاتها المختلفة. ومن ثمرات الحوار أيضاً تربوياً أن يكون الشاب جاداً في انتقاده – وبالمقابل – ومتقبلاً للنقد بكل رحابة وبدون انفعال، ومن نتاج ذلك: 1- يكون موضوعياً وواقعياً، يأخذ في الحسبان الضعف والقصور البشري، ولا يحلق فيه صاحبه في المثاليات ويطلب من الناس العصمة، وسائراً في المسالك السليمة والطرق الصحيحة، موجهاً لمن يعنيه عن علم وعدل، بعيداً عن التسرع والظنون وظلم الناس وبخسهم. 2- وهو لا يحتفل كثيراً بالنقد الصادر من الشخص المحترف له، والذي حين تنظر لسلوكه وعمله لا تجد فيه ما يسرك، فهو لا يقدم خطوة، ولا تلمس عليه مسحة من عمل أو مساهمة، وثمة عدد من هؤلاء في الصفوف لا حديث لهم إلا ذلك. 3- وهو لا يحتفل كثيراً بالنقد المثالي الذي يطلب من الناس أن يكونوا في درجة العصمة، ويحاسب على كل صغيرة وكبيرة. 4- وهو أيضاً لا يحتفل كثيراً بالنقد الذي يسلك فيه صاحبه تتبع العورات، وترصد الأنفاس واللفظات ليعثر من خلال ذلك كله على خطأ أو هفوة. إنّ جدية المرء كفيلة بضبط ميزان النقد حتى لا يطغى ويتجاوز، فيساهم في بعثرة الصفوف وخلط الأوراق، أو يضمر ويتخلف دوره فيساهم في وأد كل فكرة سليمة، واستعباد عقول الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً[12]. ومن ثمرات الحوارفي التربية أنّها تصنع الإيجابية وحسن التعامل مع الآخرين، وتبعد التفكير السلبي.. وقد طلب منا سبحانه – عز وجل – عند الحديث مع الآخر المختلف أن نحاوره (بالتي هي أحسن) وهي تربية آلهية عظيمة، وفي آية أخرى "( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت/34). هذه الآية الكريمة دعوة للإيجابية، فالله – سبحانه وتعالى – يقول لك: كن إيجابياً في الطريقة التي تتصرف بها وتتعامل فيها مع الآخرين. كن إيجابياً في مشاعرك تجاه الآخرين، وفي الحديث معهم وفي مواقفك تجاههم، إيجابياً لدرجة أنّ الذي بينك وبينه عداوة ليس فقط مثل الصديق، بل مثل الصديق الحميم جداً، والقريب من النفس. لكن من يمكنه الوصول إلى هذه الدرجة العالية والمستوى الرفيع من التعامل والأخلاق؟ إنّه الذي يصبر ويحتسب ويفتح عقله وقلبه للآخرين. ومثل هذا الإنسان رزقه الله – سبحانه وتعالى – حظاً عظيماً على أخلاقه العالية وصبره واحتسابه. ويقدم لنا رسولنا (ص) قدوة رائعة في التفكير الإيجابي والنظرة الإيجابية إلى الأمور[13]. كذلك تأتي ثمرات للحوار في التربية من خلال غرس الثقة في الشخص لمناقشة الآخرين ومحاورتهم، وعدم الهروب من المواجهة والجدل، لأنّها لا تصنع أجيال قادرة على التفكير السليم والمنطقي، ذلك أنّ "الإنسان الفاقد للثقة بنفسه لا يتمكن من التفكير، أو ربما لا يفكر، وإن كان قادراً عليه، ثم لا يجزم بنتيجة تفكيره، إذ سيقول أبداً، أنا أقل قدراً من معرفة الحقيقة وهكذا يخطئ فكره وإن كان صواباً، لأنّه لا يعترف بإمكانية توصل هذا الفكر إلى حقيقة، والحقيقة أنّ فقدان الثقة يعني فقدان الذات، في مقابل وجدان الذات والتي هي تعبير عن الوعي والذي هو بدوره شرط للمعرفة، والشجاعة أمام أفكار الآخرين، فيتعامل معها وفق المقاييس السليمة، لا تهور في الرفض، ولا رهبة وخضوع، وإنما حالة اعتدال يتم على أثرها الموقف السليم[14]." ومن هذه الإيجابية أيضاً في الحوار تربوياً الموقف السليم من أفكار الآخرين ومعتقداتهم من حيث الاستعداد النفسي لقبولها ومناقشتها والقبول بمبدأ الحوار، وحرية طرح الأفكار، والتدليل على صوابها، وإقامة البراهين على صحتها، ونقض ما ينافيها، بروح رياضية، وأخلاق عالية.. ضمن قاعدة (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) (الأعراف/85) ولا ننسى في هذا السياق أنّ القرآن الكريم عرض الحوار حتى مع المشركين والكافرين كما في آيات كثيرة ليحقق بذلك الإسلام المعجزة الكبرى في إعطاء الحرية للآخرين في اختبار أفكارهم وعقائدهم..[15]" وإذا رجعنا إلى مدرسة النبوة المحمدية التربوية سنجد فيها الكثير من الثمرات العظيمة للحوار وإيجابياته. ومن هذه المآثر العظيمة للتربية الصالحة للحوار عدم الإساءة إلى المحاور أو غيره ولو أخطأ، وقد كان النبي (ص) "إذا أراد أن ينبه إلى خطأ ولم يشأ التصريح قال: "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا"، ونجد ذلك تحت عنوان "باب من لم يواجه الناس بالعتاب" من كتاب الأدب للبخاري – رحمه الله – : "صنع النبي (ص) شيئاً فرخص فيه؛ فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك النبي (ص)؛ فخطب؛ فحمد الله، ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فو الله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية. ولذلك يجب أن تستمع إلى المحاور ولو أنّك تراه مخطئاً وتجيبه في لباقة "إنّني أرى رأياً آخر قد أكون مخطئاً فيه فلنختبره سوية" وأقل شيء تجنيه من هذه اللباقة أن تبث في محدثك روح العدل والإنصاف، فيحاول أن يتخذ الموقف نفسه الذي اتخذته، ويسلم بأنّه هو الآخر قد يكون مخطئاً.[16]" كذلك نجد ثمرات الحوار في التربية تكسب المرء التعبير عن رأيه دون خجل أو خوف، وهذا يتم اكتسابه بالتربية والتعامل المتدرج وبناء الثقة. وفي السنة النبوية مواقف عديدة لهذا النوع من التربية الطيبة وثمراتها القيمة في النشء، منها قصة الطفل الذي لم يتجاوز عمره العاشرة الذي كان على يمين النبي (ص) وكان على شماله كبار الصحابة، "ومن المعروف أنّ السنّة المطهرة تقتضي أن يشرب من هو على اليمين أولاً فنظر إليه الرسول (ص) وقال له: "هل تأذن أن أعطي من هو أسّن منك أولاً" (أي من هو أكبر منك سنّاً)، فقال الصغير بحزم وعزم: لا يا رسول الله والله لا أرضى أن يشرب بعدك أحد قبلي!! فتبسم النبي وأعطاه الإناء ليشرب منه قبل كبار أصحابه، فيا له من تعليم حكيم يعلمنا إياه الرسول (ص)، حين يجعل من حق الطفل أن يعبّر عن رأيه وأن يقول ما يعتقد أنّه الصواب والحق، كذلك فإنّ هذا الموقف يعلمنا أنّ احترام رأي الطفل هو المنهج الصحيح لتخريج الرجال، إذ لا يمكن أن يصبح رجلاً ناضجاً من يحرم من التعبير عن رأيه ومن يفتقد إلى التقدير والاحترام.[17]" كما أنّ من ثمرات الحوار التربوي يكسب صاحبه العقلية الناضجة في الحوار والتفكير العقلي المرتّب، ذلك أنّ العقل نعمة من أجلّ النعم "التي أنعم الله – جل وعلا – بها على الناس. وهو وسيلتنا الأساسية في استثمار المعلوم من أجل الوصول إلى مجهول في عمليات نسميها (التفكير) إنّ كفاءة عقولنا بوصفها مبادئ وإمكانات فطرية، وبوصفها مكتسبات ثقافية وخبرات حياتية تظل مرتبطة بمدى ملاءمة تجهيزاتنا العقلية والثقافية للقضايا والموضوعات التي نريد اجتراحها والإمساك بها. وقدراتنا الذهنية مهما كانت فذة ومتفوقة فإنها في النهاية محدودة. وبسبب هذه المحدودية تظل هناك فجوة ما بين وضعنا الإدراكي وبين طلاقة الإرادة والطموح والتطلع، مما يجعلنا نشعر دائماً بالعجز والارتباك الذهني حيال القبض على الواقع. إنّنا لا ندرك سوى القليل القليل من الأحداث الجارية والفرص السانحة والعقبات المعترضة. ولذا فإنّنا حين نفكر نشعر بأنّ ما لدينا من معطيات ليس كافياً لإصدار أحكام قاطعة، ونظل نشعر أنّنا نقف على أرض غير صلبة. وصاحب العقلية الناضجة يدرك هذه المعاني. وهذا الإدراك يملي عليه ضرورة الاحتياط في إطلاق الأحكام والتعميمات.[18]" كذلك فالمدرسة الإسلامية الأولى أرست مفاهيم عظيمة للحوار الإيجابي والتأويل المنطقي البعيد عن الأهواء والنظرة الضيقة، فالحوار في وقتهم كان العامل الرئيسي في الفهم والإدراك والعمق لقضايا النص ومحتواه ومفاهيمه القطعية والفرعية بخلاف عصرنا الحاضر للأسف، حيث أنّ الاختلاف الفرعي أقُحم أحياناً وكأنه قطعي، أو من ضمن الأصول لا تقبل الاختلاف أو التأويل، ومن هذه المدرسة نخرج عمالقة فقه الحديث والسيّر والتاريخ... إلخ. ولذلك كان الاختلاف بينهم كما يقول أحمد البراء الأميري في فهم النصوص أمراً طبيعياً "اقتضته حكمة الله. وشتان بين من يقول: إنّ هذه الآية تأويلها خطأ، وإن هذا الحديث بعيد عن الصواب، وبين من يقول: إنّ فهم فلان لهذه الآية أو ذاك الحديث خطأ، وأنا أرى رأياً آخر، أو أرجح فهماً آخر. وهؤلاء هم الصحابة الكرام، معدن اللغة العربية، وفهمهم حجة فيها، اختلفوا في فهم كلام النبي (ص)، وهو سيد الفصحاء والبلغاء. روي البخاري ومسلم – رحمهما الله – في صحيحيهما، عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – ، أنّ النبي (ص) لما رجع من الأحزاب قال: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم، لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد ذلك منا، فذكر للنبي (ص) فلم يعنف أحداً منهم. فالنص إذن شيء وتفسير النص أو فهمه شيء آخر. إنّ الاختلاف في وجهات النظر بدل أن يكون ظاهرة صحية تغني العقل المسلم بخصوبة في الرأي، والاطلاع على عدد من وجهات النظر، ورؤية الأمور من أبعادها وزواياها كلها، وإضافة عقول إلى عقل انقلب عند مسلم عصر التخلف إلى وسيلة للتآكل الداخلي، والإنهاك، وفرصة للاقتتال، حتى كاد الأمر يصل ببعض المختلفين إلى حد التصفية الجسدية، وإلى الاستنصار والتقوي بأعداء الدين على صاحب الرأي المخالف.[19]" ومن هنا حاجتنا ماسة على الفهم العميق لتربية حوارية عظيمة في الاختلاف كما فهمها العصر الأول في الإسلام، (الصحابة والتابعين والمدارس الفقهية من بعدهم). حيث الانفتاح للرأي المخالف "وتتم في نطاق الحوار المقابلة بين الآراء فيسقط الضعيف ويصح القوي، وذلك أمر بيّن بالمشاهدة. أما الكبت والمنع من التعبير والمحاورة فلا يثمر إلا الانغلاق على الرأي الواحد، والتشبث به والتعصب له، فلا يكون العقل ناظراً إلى الأمور إلا من زاوية واحدة قد تخطئه الحقيقة أحياناً كثيرة، ولا غرو حينئذ أن ينمو التعصّب للآراء والتشبث الأعمى بها في كل مناخ تصادر فيه حرية التعبير، وأن تنمو المرونة العقلية، وتقبّل التصويب في كل مناخ تشيع فيه هذه الحرية. وما أروع التربية النبوية في هذا الخصوص، فقد انتهجت نهج الانفتاح على مضادات الآراء بما أتاحته من حرية القول والاحتجاج والنقد، وقد اتخذ النبي (ص) شعاراً له "أشيروا" عليّ أيها الناس وهو شعار تربوي يهدف إلى تربية المسلمين على الفكر النقدي المقارن بإتاحة الحرية الواسعة في القول والحجة، وإلا فإنّ الحق بائن لديه إذ هو المؤيد بالوحي المعصوم من الخطأ.[20]".

وهذا ما تؤيده كل القرائن الدالة على نتائج ثمرات الحوار في التربية في أنّها توجد المناخ الحر، والرأي النقدي، والموضوعية في التعامل والحوار، والإيجابية في التناول وغيرها من المعطيات والرؤى المختلفة.

 

الهوامش:
[1]- عبدالرحمن النحلاوي، التربية بالحوار، دار الفكر، دمشق 2002، ص14. [2]- المرجع السابق، ص 18،17. [3]- محمد قطب، مناهج التربية الإسلامية، ج1، دار الشروق، القاهرة، ط12، 1989، ص77، 87. [4]- د. عبد الكريم عبيدات، الدلالة العقلية في القرآن الكريم، مرجع سابق، ص423. [5]- خالد عبدالرحمن العك، الفرقان والقرآن.. قراءة إسلامية معاصرة، الحكمة للطباعة والنشر، دمشق، ط1، 1994 ص190. [6]- د. يوسف عبد المعطي، تربية المسلم في مواجهة تحديات عالم معاصر، منشورات المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة، ايسيكو، ط1، 1995، ص17. [7]- د. عبداللطيف محمد خليفة، ارتقاء القيم، عالم المعرفة، سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – العدد [160] 1992 – ص17. [8]- سالم عبد الجبار آل عبد الرحمن، التعليم أولا ثم.. التربية!، مجلة المعرفة، الرياض، العدد [70]، أبريل 2001، ص38، 39. [9]- عبدالله علي العليان، في النهوض العماني الحديث وقضايا الواقع العربي والعولمة في النظام الدولي، مرجع سابق، ص167. [10]- د. أحمد عبدالله العلي – دار الكتاب الحديث – القاهرة – ط2002 ص68، 69. [11]- المرجع السابق ص93،94. [12]- احمد بن عبدالله الحارثي، من ثمرات التربية الجادة، جريدة الوطن، مسقط، العدد [6979]، ص8. [13]- د. إبراهيم القعيد، فكر بإيجابية.. نصف الكأس، مجلة المعرفة، الرياض، العدد [64]، أكتوبر 2000، ص82. [14]- محمد العليوات، المجتمع والتحدي الثقافي، دار الصفوة، بيروت، ط1، 1993، ص172. [15]- المرجع السابق، ص169. [16]- فنون الحوار والإقناع، مرجع سابق، ص128. [17]- مريم عبد الله النعيمي، الالتفات إلى الذات، سلسلة التميز التربوي (5)، إصدار مركز التفكير الإبداعي (83) دار ابن حزم، بيروت، ط1، 2002، ص 105، 106. [18]- عبدالكريم بكار، لماذا لا تحب التفكير، مجلة المعرفة، الرياض، العدد [83]، مايو 2002، ص34. [19]- أحمد البراء الأميري، أخطاء التفكير، مجلة المعرفة، المرجع السابق، ص46.

[20]- د. عبد المجيد النجار، دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين، المعهد العالي للفكر الإسلامي، فرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكية، ط1، 1992، ص61.

المصدر: حوارا الحضارات في القرن الحادي والعشرين (رؤية إسلامية للحوار)

ارسال التعليق

Top