• ٣ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٤ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حركة المعرفة من أجل السلام

حسن الصفار

حركة المعرفة  من أجل السلام

يسهم الحوار في تنشيط حركة المعرفة والثقافة في المجتمع، ويدفع الناس للتفكير والبحث والمقارنة، وقد تترشد الاتجاهات المتحاورة من خلال الحوار، ويسعى كلّ اتجاه لمعالجة نقاط ضعفه، وقد تتكامل الآراء، وتتراكم التجارب المعرفية، عبر التفاعل الحواري، وذلك مكسب لساحة المعرفة والثقافة، ولبلورة الآراء والأفكار وإنضاجها.

ويؤدي الحوار وظيفة مهمة على صعيد تحقيق الاستقرار والسلم الاجتماعي، ذلك لأنّ قسماً كبيراً من المشاكل والأزمات في العلاقات الاجتماعية، تنشأ من جهل الناس ببعضهم بعضاً، وتصور كلّ طرف للآخر على غير حقيقته، وذلك بسبب التباعد والقطيعة، أو لحدوث سوء ظن أو سوء فهم في البين، بتفسير كلام ما، أو عمل ما، تفسيراً خاطئاً، أو لوصول معلومات كاذبة لدى جهة عن الأخرى، أو لوجود دور تخريبي بإثارة فتنة في المجتمع، إنّه يمكن تعطيل مفعول كلّ هذه الاحتمالات والمحاولات بتلاقي الأطراف المعنية، وحوارها فيما بينها، لتكتشف حقائق الأمور، وتضعها في نصابها الصحيح، وتحبط خطط السوء والفتنة.

أو على الأقل فإنّ الحوار يخفف حدة التوتر، ويمتص حالة التشنج والانفعال.

وما نراه من استقرار سياسي واجتماعي في المجتمعات الغربية، ليس لعدم وجود اختلافات بينهم في الرأي والمصلحة، ولا لعدم حدوث مشاكل وأزمات في بلدانهم، بل قد يكون التعدد والتنوع عندهم في الأعراق والديانات والمذاهب والأحزاب، أكثر مما عندنا بكثير، وتنافسهم على المصالح والمكاسب كبير، لكنهم ينعمون بوجود مؤسسات ديمقراطية على الصعيد السياسي والاجتماعي، يناقشون في إطارها الأمور، ويعالجون المشاكل، ويحتوون الأزمات، فالحوار بين وجهات النظر المختلفة والأطراف المتنافسة، أصبح جزءاً من نظام حياتهم، في الإدارة السياسية، والعمل الاجتماعي، والمؤسسات العلمية، وفي وسائل الإعلام.

بينما تفتقر أغلب مجتمعات العالم الثالث إلى أدنى فرص الحوار، لذلك تعاني من حالات الاحتقان، وتعيش أخطار التمزق والاحتراب.

 

الإسلام والتربية على الحوار:

حينما يتلو المسلمون القرآن الكريم، ويقرأون فيه أنّ الله تعالى يحاور ملائكته حول خلق البشر: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 30)، ويقرأون أنّ الله تعالى يحاور إبليس: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (ص/ 75-76)، ويقرأون فيه قصص الأنبياء في محاوراتهم لمجتمعاتهم. ويقرأون فيه أمر الله تعالى بالدعوة إلى الدين عن طريق الحوار: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125).

وحينما يتأمل المسلمون تعاليم دينهم ويجدون فيها الأمر بالتشاور وتبادل وجهات النظر: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) (آل عمران/ 159)، و(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى/ 38)، وأنّ قضية بسيطة كفطام الطفل عن حليب أُمّه ينبغي أن يتم بالتفاهم بين الوالدين: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) (البقرة/ 233).

وأنّ الخلافات العائلية بين الزوجين إذا لم تعالج بينهما يأتي دور أسرتيهما في الحوار من أجل حل النزاع: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) (النساء/ 35).

وحينما يتصفح المسلمون سيرة أئمة الدين فيرون منهجهم في ممارسة الحوار مع كلّ المستويات وفي كافة المجالات، مع الحكام، ومع أتباع الأديان الأخرى، ومع أصحاب المذاهب، ومع تلامذتهم، ومع جمهور الناس وعامتهم..

وقد قام الشيخ أحمد بن عليّ الطبرسي، من علماء القرن السادس للهجرة، بمبادرة نافعة، إذ جمع عدداً كبيراً من حوارات رسول الله (ص) والأئمة من آل بيته – عليهم السلام – في كتاب ضخم تحت عنوان (الاحتجاج).

حينما يقرأ المسلمون كلّ ذلك فإنّه يجب أن يدفعهم إلى انتهاج طريق الحوار، وأن يعتمدوه أسلوباً لحياتهم، ونظاماً في علاقاتهم الاجتماعية، لكن السطحية والشكلية في التعاطي مع قيم الإسلام وتعاليمه، جعلت حياة المسلمين في وادٍ آخر، فأصبح الطابع العام لعلاقاتهم الاجتماعية، يتصف بالتنافر والتباعد، واعتماد لغة القوة والقسوة، وسيادة حالة التشنج والخصام.

 

المصدر: كتاب الحوار والإنفتاح على الآخر

ارسال التعليق

Top