فالإنسان يخضع لكل القوى الخارجية والداخلية التي تحكم الحيوان إلا انّه يملك مقابلها قوة ذاتية مميزة تمكنه من السيطرة على أفعاله والتغلب كلياً أو جزئياً على تلك القوى كلما كانت الغلبة ممكنة وفي حدود قدراته المادية أو المعنوية، فهو مثل الحيوان يأكل ويشرب غير أنّه يستطيع الإنسياق مع غرائزه كما يستطيع قمعها أو الحد منها أو تنظيمها وهو قادر فوق ذلك على أن يفعل أو يترك يبني أو يهدم أن يجاهد أو يقعد أي أن يختار ما يشاء من البدائل التي وضعتها الطبيعة في تناوله ولا ينحصر الاختيار بين أمرين أو اتجاهين فحسب بل كثيراً ما نواجه في حياتنا العملية أكثر من خيارين بل خيارات عديدة.
وهكذا فأنّ دائرة الاختيار تتسع وتضيق تبعاً لكثرة الخيارات أو قلتها كما ينعدم هذا الاختيار.
إذا لم يكن أمام المختار سوى خيار واحد، وإذا كان موضوع الاختيار ممتنعاً أي مستحيل التحقيق، يصبح الإختيار أمنية أو حلم، ولكي يكون الاختيار حراً ينبغي أن يكون محصلة تمييز وإرادة أي أن يكون المختار واعياً لما يدور حوله في الخارج حتى يستطيع التفريق بين الشيء وغيره، وإذا انعدم تمييزه أو إرادته انحرمت حرية إختياره.
هذا هو باختصار معنى حرية الإختيار التي هي كما رأينا قدرة المرء على التمييز وتوجيه النفس إلى عمل معيّن ممكن التحقيق أو الإمتناع عنه وهي أساس جميع الحريات غير انّه لابدّ لنا من الإشارة إلى أنّ حرِّية الإختيار ليست بسيطة إلى هذا الحد لأنّها عملية نفسانية تتداخل فيها عوامل جمة كالدوافع والبواعث والغايات والميول والنزعات والرغبات والعواطف والإنفعالات والعلم والذكاء والوعي والإرادة والذاكرة والانتباه والضمير، وما إلى ذلك من مكونات الشخصية إلى جانب المؤثرات الخارجية الطبيعية والاجتماعية.
فالحرِّية إذن... اسمى نعم الله على الإنسان بها كرمه وفضّله على سائر خلقه وجعله خليفته في أرضه بعد أن مضى عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً والحرية إختيار وحياة كل إنسان سلسلة طويلة من الخيارات تبدأ بوعيه وتنتهي بوفاته، وهي تزداد بزيادة معرفته وأنّ معرفته تزداد بإزدياد حريته والعكس صحيح، أي أنّ بين العلم والحرية علاقة جدلية وتناسباً مطرداً.
- الحرِّية بين نظرتين:
ليس بدعاً أنّ الناس في نظر الإسلام منذ ولادتهم أحرار، لا حقّ لأحد في استعبادهم ولا فرض سيطرته عليهم، إذ لا يمكن أن تتحقق إنسانية الإنسان بدون حريته لأنّه لا معنى لإختياره وإدراكه إذا لم يكن حراً وفي الحالة التي يفقد فيها حريته وتتعطل أهم ميزاته وأخص خصائصه وهي الإنتفاع بنعمة العقل والإدراك والفهم والإختيار.
والإسلام يرى أنّه لا يمكن أن تتحقق حرية الإنسان إلا إذا عنت الوجوه لبارئها وانعتقت من أغلال التقليد والإتباع وتحكمات البشر وأهوائهم والإرتقاء بالنفس الإنسانية بالإحتكام إلى الواحد الأحد فتوحيد الله أساس الحرِّية.
ولقد جاء الإسلام بهذا التوحيد الذي كان الإعلام الأوّل لحقوق الإنسان وتخليص البشر مما ران على فطرتهم وطمس نور عقولهم وقيّد حرياتهم فأنقذهم من عبادة الأوثان وخلّصهم من سلطة الكهنوت والوساطة بين الله وخلقه وأزال صفة القداسة التي إدعاها أباطرتهم وحكامهم، وجفف منابع الرق والإسترقاق.
وفتح الإسلام أبواب الحرِّية على مصاريعها ولم يعرف في شريعته ما فعلته أوروبا من شحن الأحرار من الأدغال وإجبارهم على العمل دون رحمة أو شفقة أو احترام.
والإنسان يعيش في هذه الحياة له عقل يفكّر به وغرائز فطرية تدفعه لتحقيق وجوده وبقاء نوعه وبين إتاحة الفرص للعقل بأن يفكر ويبدع وللغرائز أن تأخذ طريقها المشروع دون كبت أو تعطيل ودون جور وإعتداء، تتحدد حرِّية الإنسان في هذه الحياة وتوضع في إطارها الصحيح فما من حقّ إلا ويقابله واجب، وتنتهي حرِّية الإنسان حيث تبدأ حرِّيات الآخرين وإلا انقلبت الحياة فوضى لا ضوابط ولا روابط وهذا هو مفهوم الحرِّية كما رسمها الإسلام.
- القرآن الكريم والحرِّية الإنسانية:
يقضي الإسلام بأن يخلى بين الناس وبين ما يعتقدون فلا يكره أحد على الإيمان فإنّ الاعتقاد الصحيح ثمرة الإقتناع الكامل والتصديق الثابت ولا قيمة لعقيدة تأتي نتيجة القهر والتسلط، لا يمكنها أن تحدث التغيير النفسي المنشود، أو تقاوم الضغط عليها.
ومن هنا لم يجز الرسول (ص) لأحد أن يكره ابنه على الإيمان ونزل قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة/ 256).
وقال سبحانه: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس/ 99). وقال الله في آية أخرى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف/ 29).
والإسلام يريد إتاحة الفرصة المتكافئة للناس كي ينظروا ويختاروا فلا يقسر الناس على إتجاه معيّن قسراً ولا تقام الحواجز والعقبات أمام دعوته ورسالته وكانت حروب الإسلام حروب تحرير للبشر من طواغيتهم ومستبديهم، ولم يحدث في تاريخه أن اكراه أحداً أو اجبر قوماً كما حدث في تاريخ الصليبيين.
أما الكثير فقد استباحت دماء الناس وحرياتهم في شمال أوروبا لتحملهم على الدخول في المسيحية، وشنت الحرب الصليبية وسفكت دماء الأبرياء في الأندلس ارتكبت ما تقشعر لهوله الأبدان من تقتيل وتحريف للمسلمين وتهجيرهم إلى شمال أفريقيا حتى مكتبات العلم لم تنج من هذا الشر المستطير.
بينما يأمر القرآن الكريم المسلمين أن يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125).
ويوصي أن يكون الجدال نزيهاً بالإسلوب المقنع الذي يبتعد عن التحكم فيقول سبحانه: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (العنكبوت/ 46).
هذه هي حرية العقيدة كما رسمها الإسلام.- حريِّة التفكير:
ألف عباس محمود العقاد كتاباً أسماه (التفكير فريضة إسلامية) حيث اعتبر الضرر الجسدي الذي يصيب الإنسان أهون من الضرر الأدبي الذي يسببه الخوف ويؤدي إلى شلل التفكير.
ويقول الشيخ محمد الغزالي: "أنا لا اخشى على الإنسان الذي يفكر وإن ضل لأنّه سيعود إلى الحق ولكن اخشى على الإنسان الذي لا يفكر وإن اهتدى لأنّه سيكون كالقشة في مهب الريح".
ويعجب الإنسان حين يقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى مخاطباً الكفار: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) (الأنبياء/ 24)، ألم يعط الخالق العظيم الفرصة لمن يجحدون به وهو القادر على قهرهم على الإيمان ليفكّروا ويأتوا ببرهانهم؟
وحين يخاطب الله النبي (ص) فيقول له: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران/ 20)، فإنما هو للبلاغ المبين فقط ليس أكثر.
- حرية الرأي في الميزان الإسلامي:
من أجلّ نعم الله على الإنسان أن جعله مبيناً عن نفسه وعما يدور في فكره وأعطاه القدرة على تصور ما يدور حوله، ثمّ الحكم عليه بما يحصل له من خبراته وتجاربه قال تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن/ 1-4).
وقد قرر الإسلام حرِّية الرأي احتراماً منه لهذا الحق الفطري الأصيل وسبيلاً إلى إستخدام ما أنعم الله به على الإنسان من نعمة الإدراك والبيان وطريقاً فاضلاً لبلوغ المجتمع الإسلامي ما يريد من إخاء ومساواة وأمن وحرِّية وعدالة واستقرار.
والكلمة الحرة وهي عنوان حرِّية الرأي لها في ميزان الإسلام خطرها وقداستها، لذا فعلى المسلم أن يراعي تلك الأوصاف الكريمة التي وردت في هذه الآية المباركة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب/ 70-71).
والقول السديد الذي يصلح به الأعمال ويغفر به الذنوب هو الآتي:- أن يكون كلاماً طيباً بعيداً عن الألفاظ المستهجنة والعبارات القبيحة معبراً عن نقاء المسلم وطهارته.
- أن يكون الكلام مطابقاً للحقيقة، متثبتاً فيه بعيداً عن الظن والوهم وأن يتحرى المسلم بكلامه الحق لا يماري فيه يؤديه للقريب والبعيد والعدو والصديق.
- حرِّية الرأي حق لا يقيده إلا مبادئ الأخلاق وآداب الإسلام وهذا الحق لا حقّ لأحد مهما علت درجته في المجتمع أن يصادره أو يقيده أو يدّعي لنفسه منحه أو منعه فكل المسلمين في هذا الحق سواء فهو حق مقدس لا يضاربه صاحبه ولا يلحقه أي أذى فيه تكفل الحقوق ويستبان به وجه العدل وهو حق أصيل لا يتخلى عنه المسلم ابداً.
- لكن هذا الحق لا يمنح الأفراد إستباحة المنكرات ونشر الفواحش بين الناس وعصيان أوامر الله تعالى.
- نتائج حرِّية الرأي:
الثقة بين أفراد الأُمّة بعضهم لبعض وبين الحاكم والمحكوم، والقوي والضعيف والعالم والجاهل، والصغير والكبير، فإنّ الوضوح والمصارحة تقضي على الدسّ والوقيعة والصدق يعمر القلوب بالألفة والمحبة: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) (الحج/ 24).
قوة بناء الأمّة وتماسكها فإنّ إحتكاك الآراء وتعاون الناس يجعل بعضهم قريباً إلى بعض، ويتشاورون ويتناصحون وهذا يزيد من تماسكهم أما الخوف والكبت فيؤدي إلى الشك والريبة.
رقي الأُمّة وتقدمها من حرِّية الرأي، فلا تقدم الأُمّة على أمر إلا وتكون قد عرفت فوائده ومضاره واستأنست فيه بكل رأي سديد.
وصفوة القول، إنّ مفهوم الإسلام لحرِّية الإنسان في الطبيعة والمفهوم الحديث لها يتفقان على تحرير الإنسان في الطبيعة وليس على تحريره منها، ويختلفان على الغاية من هذا التحرير إنّ غاية الإسلام هي ربط الإنسان بشريعة السماء للحد من طغيانه على أخيه الإنسان فالإنسان لن يكون حراً مالم يحرر ذاته من شهوة التسلط والطغيان على الغير، ويؤوب إلى حظيرة الإيمان بالله.
المصدر: مجلة الطاهرة/ العدد 147 لسنة 2004م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق