كوثر مهدي
◄منذ أن خلق الله سبحانه أول إنسان على وجه هذه المعمورة، واصطفاه نبياً وخليفة له في الأرض، لم يتركه فرداً، بل جعل إلى جانبه زوجة ومنذ ذلك الحين وجدت الأسرة، بتواجد قطبيها الأساسيين لتكون هي الإنطلاقة الأولى للإنسان والمجتمع. ولتكون هي المهد لعروج الأبناء إلى العلياء ومصاف الفضائل والأخلاق.
ففي أحضان هذه الواحة الغنّاء، وفي صدف هذا الحصن الحصين "الأسرة" تنشأ جوهرة "الولد الطيب" وتترعرع أصولها وتقوى فروعها، وتستلهم أفق الخير ومعالم الإنسان وبذور التقى. ويبقى الوالدان في ظل هذا الأمر أمام أعظم مسؤولية إن أحسنا أداءها اثيبا وإن قصرا عوقبا ألا وهي التربية وحسن الأدب وإرواء ظمأ الروح لدى ولدهما.
فليس من نحلة أفضل ولا من هدية أعظم من أدب حسن ينحله الوالدان لولدهما "وما نحل والد ولداً نحلاً أفضل من أدب حسن" الإمام علي (ع).
- الولد جزء من الوالد:
يعتبر الولد جزء لا ينفصل من الوالدين، ومضاف إليهما ومنسوب بخيره وشره إليهما، لذا فعلى الوالدين أن يعيا هذه الأمانة الكبرى، وأن يؤديا حقها، وأن لا يغفلا عن هذه المهمة التي أولاهما الله سبحانه بها.
وإلى ذلك أشار الإمام السجاد (ع) في رسالة الحقوق – في حق الولد – قوله: "وأما حق ولدك فتعلم انّه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره وانّك مسؤول عما وليته من حسن الأدب والدلالة على ربه والمعونة على طاعته فيك وفي نفسه فمثاب على ذلك ومعاقب".
وقد بين الإمام علي (ع) هذا المفهوم في وصيته لابنه الحسن (ع)، حيث يشير في أحد مقاطعها الأولى إلى انّ الولد ليس هو فقط بعض الوالد، بل هو كله لذا فإنّه يهمه أمره كما يهمه أمر نفسه فينصحه بما ينصح به نفسه ويدفع عنه ما يدفع عن نفسه، ويغذيه بكل ما يحتاجه من ينابيع الفضل والهدى إذ يقول (ع): "ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي" وصية 31 – نهج البلاغة.
- القرآن.. أعظم منبع تربوي:
أفضل غذاء معنوي، وأعظم منبع تربوي يمكن أن يستند إليه الآباء في تنمية وبناء شخصية أبنائهم هو القرآن الكريم، إذ انّه الناصح الشفيق الذي لا يغش ناصحيه – بل يكشف لهم الأمور على حقائقها – والهادي الذي لا يضل من استهدى به حتى يوصله إلى نور الحق ويضعه في الصراط المستقيم – والمحدث الذي لا يكذب: "واعلموا انّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل والمحدث الذي لا يكذب" خ 176 – نهج البلاغة.
وهذه الصفات الثلاث لا يستغني عنها كل مرب وكل متعهد وهي "النصح، الهداية، والصدق" كما انّه يحتاجها الجميع في طريق حياتهم، واشتداد أزماتهم.
لذا فإن هداية القرآن ونصحه ضرورية للوالد والولد معاً على حد سواء ولكن لما كان الأبناء انما يتلقون علومهم وأفكارهم الأولى من آبائهم باعتبارهم القناة الأولى التي بواسطتها يستلهمون الحقائق ويتعرفون منها على الأمور وجميع ما يحيط بهم، لذا فإن كان الوالدان متسلحان بثقافة القرآن، وملتزمان بأوامره ونواهيه ومتبعان لكل ما جاء فيه، فإنّ ذلك سينعكس وبشكل واضح على الأولاد، لأنّ الأبناء يقلدون في بدء حياتهم كل ما يرونه من آبائهم، ويلتقطون جميع الحركات والصور التي تظهر من آبائهم ويختزنونها في أذهانهم، ويحملون لا إرادياً جميع انطباعات الآباء وعقائدهم ليظهروا في وقت ما، على هذا فإن كانت شخصية الآباء قد بنيت وفق مفاهيم القرآن واشربت قلوبهم حبه ومعارفه فإنّ الأولاد بلا شك سيكونون كذلك وسيعظمون ما عظم آبائهم ويكرمون ما أكرموه.
- الأرضية الأولى:
ولهذا فإنّ الأرضية الأولى لثقافة الطفل القرآنية تبدأ من الوالدين، وخاصة الأم فبمقدار التصاق الأم بالقرآن ونفوذ تعاليمه وقيمه في مباني شخصيتها وعواطفها فإنّها سترضع أولادها ذلك، وتغذيهم بهذا اللبان النافع وتداويهم بذلك الدواء الناجح، وتكاد اشعاعات القرآن وأنواره تشرق في كل أركان الأسرة لتهبها دفئاً لا مثيل له واطمئناناً لا نهاية له وأنساً يفتقده كل من لم يكن القرآن دليله "ما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان زيادة في هدى أو نقصان في عمى واعلموا انّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة" خ 176 – نهج البلاغة.
- الأُم المؤمنة صاحبة رسالة:
الأُم المؤمنة المثقفة بثقافة القرآن الكريم، تحمل رسالة في الحياة، وتعي دورها في بناء شخصية أبنائها وفق هذه الرسالة العظيمة، لذا فإنها تسعى جاهدة لبث هذه الثقافة في دائرة أسرتها أولاً وقبل كل شيء. وقد تتمثل أدواراً عديدة لأداءه هذه المهمة الكبيرة من أجل ترسيخ علاقة الأولاد بالقرآن، والتي منها:
- حب القرآن:
العلاقة مع القرآن يجب أن تكون علاقة حب وعشق وارتباط عضوي، وذلك لأنّ علاقة الحب لها آثارها وانعكاساتها التي لا يمكن أن تزول أو تضعف إذ انها تترك بصماتها على المحب فتدعوه لئن يتبع من أحبه في كل شيء فالمحب للقرآن يتبع القرآن ويعمل بكل ما يريده القرآن (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ) (يس/ 11).
ويتلوه حق تلاوته (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) (البقرة/ 121). لذا فعلى الأُم الواعية أن توجه أبناءها للإرتباط بالقرآن ارتباطاً معنوياً وقلبياً حتى ينفذ القرآن في كل شؤون حياتهم ويعملون على تجسيده في أركانهم وجوارحهم، حتى يصبح الحق الذي به ينطقون، والنور الذي به يبصرون، والقول الثابت الذي به يسمعون كما نوه عن ذلك سيد المتقين في خطبته رقم (133) في نهج البلاغة "كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض".
وعلى الأم أن تجنب أولادها الارتباط الفارغ وبالولاء الظاهري للقرآن الكريم وأن تحذرهم كذلك النظرات الضيقة للقرآن العظيم، تلك النظرات التي تخرجه من قالبه الحيوي ككتاب هداية ومعرفة ونور وحياة، فتجعل قراءته مثلاً فقط في مجالس الترحيم والفاتحة على أرواح الأموات، أو تلاوته فقط طلباً للثواب دون التدبر فيه، أو قراءة بعض آياته للإستشفاء وموارد أخرى تحدد القرآن وتبعده عن أثره الكبير في حياة الفرد والمجتمع.
- القرآن الملجأ الحصين:
اختص الله كتابه العزيز بعظيم الخصائص وجميل الصفات، واستقطب أنظار عباده نحوه لينتهلوا من ما يلزمهم لكل شأن في شؤون حياتهم وكل معضلة من معضلات فاقتهم ومصاعبهم فهو الكتاب الذي فيه تبيان كل شيء وتفسيره وتأويله، وفيه الرحمة والهدى والبشرى لجميع المسلمين (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل/ 89)، وقد جاء في الحديث الشريف عن الرسول (ص) في تفسير هذه الآية قوله: "إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى والله ما ترك شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن إلا وأنزله الله فيه" الكافي – ج1، ص59 كتاب فضل العلم، ح1.
من هنا ينبغي للأُم المؤمنة بل ولكل مسلم أن يجعل القرآن مرجعه في كل شيء ومفزعه في الملمات، وملجأه في المهمات، لأنّه فيه دواء كل داء وشفاء من كل ألم وبلاء. (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا) (الإسراء/ 82)، وفيه راحة الروح وسعادة القلب واطمئنان النفس (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28).
- لابدّ من برنامج عملي:
على الرغم من كل الجهود التي تبذلها الأم الواعية لتربية أبناءها التربية القرآنية المطلوبة ومع كل التوجهات التي تتخذها لزرع بذور هذه الثقافة في نفوسهم منذ صغرهم، فإنّه لابدّ لها من برنامج عملي تعتمده لتركيز أصول هذه المفاهيم والمبادئ في أذهانهم وتهيئة الأرضية الخصبة لديهم لتعلم القرآن والإقبال عليه، لذا فإنّ من أهم الخطوات اللازمة في هذا المجال هي:
1- تهيئة الأجواء المناسبة لإعانة الأولاد على تعلم القرآن وتحبيبه إلى قلوبهم.
2- استغلال كل الفرص لتشجيعهم وتحريضهم على الإقبال أكثر على هذه المدرسة الكبيرة وتهيئة كل ما يلزمهم في هذا الخصوص.
3- تسهيل ما يصعب عليهم، وتذليل المشاكل التي تعترضهم في طريق التعليم.
4- عدم تكليفهم فوق طاقتهم، والتعامل مع كل طفل أو ناشىء وفق قدراته ومؤهلاته وترك المقايسة بينه وبين أقرانه، لأنّ ذلك سوف لا يعود إلا بالنتائج السيئة على الطفل نفسه، فمثلاً قد تكون قدرة الحفظ والتعلّم عند البعض ضعيفة وعند الغير أقوى وأكبر لذا ينبغي للأُم أن تنتبه إلى استعدادات ولدها وأن تنبذ الفرقة والإشادة بغيره أمامه.
5- وضع برنامج عملي ومتكامل سواء لتعلم لقراءة الصحيحة للقرآن أو لمفاهيمه أو لحفظه مع الالتزام بالإشراف المستمر والتوجيه الدائم.
يحسن بنا القول ونحن في خاتمة هذا المقال أن نقول انّ من أعطي القرآن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة، وجمعت له الخيرات والفضائل، واعتنى به عن كل ما سواه وعاد بحسن الذكر وجميل الإحدوثة في الدنيا والفوز بالقرب والرضوان في الآخرة وصدق سيد البلغاء وأمير الفصحاء أمير المؤمنين حيث قال: "الا وان كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله" خطبة 176 – نهج البلاغة.
المصدر: مجلة الطاهرة/ العدد183 لسنة 2007م
ارسال التعليق