• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

سبحانه.. ما أوسع غفرانه

د. ناصر بن مسفر الزّهراني

سبحانه.. ما أوسع غفرانه

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) (الإسراء/ 44).

سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحانه الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته.

سبحان الله ما تعاقبت الليالي والأيام، والحمد لله عدد الشهور والأعوام، ولا إله إلا الله الذي لا تتصور عظمته الأوهام.

والله أكبر ذو الجلال والإكرام، والعزة التي لا ترام، مُدَهِّر، مُدبِّر الأمر، ومُقدِّر اليوم، والليلة، والسنة، والنهار.

"من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حُطَّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر".

بدأت سبع سور في القرآن الكريم بتسبيح الله تعالى وتقديسه وتنزيهه، وهي: الإسراء – الحديد – الحشر – الصف – الجمعة – التغابن – الأعلى:

قال تعالى في سورة الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء/ 1)

وقال تعالى في سورة الحديد: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحديد/ 1).

وقال تعالى في سورة الحشر: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحشر/ 1).

وقال تعالى في سورة الصف: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الصف/ 1).

وقال تعالى في سورة الجمعة: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (الجمعة/ 1).

وقال تعالى في سورة التغابن: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التغابن/ 1).

وقال تعالى في سورة الأعلى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) (الأعلى/ 1).

سبحانه سبحانه، ما أعظم شأنه.

سبحانه سبحانه، ما أدوم سلطانه.

سبحانه، ما أوضح برهانه.

سبحانه، ما أقدم سلطانه.

سبحانه، ما أوسع غفرانه.

"لأن أقول سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحبّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس".

سبحت له السماوات وأملاكها، والنجوم وأفلاكها، والأرض وسكانها والبحور وحيتانها، والسادات وعبيدها، والأمطار ورعودها والملوك ومماليكها، والأشجار وثمارها، والديار وأطلالها، والأُسُود وأشبالها.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) (النور/ 41).

التسبيح تنزيه وتمجيد واستحضار لمعاني صفات الله الحسنى، والحياة بين إشعاعاتها وفيوضاتها وإيحاءاتها وإشراقاتها ومذاقاتها الوجدانية يجب أن تعيشها وتتذوقها بالقلب والشعور، فليس التسبيح مجرد كلمة تقال، ولفظة تردد: سبحان الله.. ولذلك غالباً ما يرد بعد هذه الكلمة الأمر بالنظر في ملكوت الله أو التذكير بنعمه، أو بيان عظمته، وتلك إشارة إلى المعنى العميق للتسبيح، وأن يعيشه المرء بقلبه ووجدانه مستلهماً عظمة الواحد الأحد وبديع صفات الفرد الصمد: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) (الأعلى/ 1-5).

ولو وقفنا مع قوله: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) لاحتجنا إلى مجلدات لنبيّن بديع ما اشتملت عليه من المعاني.

سبحانه ما أعظمه، خلق كلَّ شيء فسواه وأكمل صنعته، وبلغ به غاية الكمال الذي يناسبه، وقدّر لكلِّ مخلوق وظيفته وغايته، فهداه إلى ما خلقه من أجله، وألهمه غاية وجوده، وقدّر له ما يصلحه مدة بقائه.

سبحان من لم تزل به حُججٌ *** قامت على خلقه بمعرفتهْ

قد علموا أنّه الإله ولـ *** ـكنْ عَجَز الواصفون عن صفته

سبحانه من بهرت عظمته عقول العارفين.

سبحان من بهرت أنواره بصائر السالكين.

سبحان من ظهرت بدائعه لنواظر المتأملين.

سبحان مقيل عثرات المذنبين.

سبحان غافر خطايا المستغفرين.

وسبحان الله.. ما أشرقت أنوار ذكره على وجوه العابدين، وما امتدت إلى عطائه أكف السائلين.

وسبحان الله كما هو أهله، تبارك الله وتعالى جَدُّه، كيف يحيط المخلوق بوصف خالقه؟ متى يقوم المرزوق بشكر رازقه؟

سبحان من يشكر المحسنين على إحسانهم، وإنما إحسانُهم من إحسانه. سبحان من تُعامله العبادُ بعصيانهم، ويعاملهم بغفرانه. سبحان من لولا حلمه لعاجل العاصي بالعقوبة قبل توبتة من عصيانه.

سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق.

سبحانك كلٌّ معترفٌ بجودك.. فإنك لفطرته خالق، ولفاقته رازق، وبناصيته آخذ، وبعفوك من عقابك عائذ، وبرضاك من سخطك لائذ، إلّا الذين حقت عليهم كلمة العذاب، فالقضاء فيهم نافذ..

يا مالكاً هو بالنواصي آخذُ *** وقضاؤه في كلِّ شيء نافذُ

أنا عائذٌ بك يا كريم ولم يخب *** عبدٌ بعزّك مستجيرٌ عائذُ

سبح المسبحون بحمد الله اللطيف الخبير، ولم يبلغوا من تعظيمه مثقال ذرة.

واجتهد العارفون في العلم بصفات العلي الكبير، ولم يشربوا من بحر معرفته مكيال قطرة.

وشمّر المجتهدون في طلب القرب من جناب العزيز الحكيم، ثمّ ماتوا وفي قلوبهم من القرب حسرة.

سبحان من أقام من كلِّ موجود دليلاً على عزته، ونصب عَلَمَ الهدى على باب مَحَجَّته. الأكوان كلها تنطق بالدليل على وحدانيته، وكلّ موافق ومخالف يمشي تحت مشيئته، (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) (الرّعد/ 13).

"سُبُّوح، قدّوس، ربُّ الملائكة والروح".

سبحان من فاوت بين القلوب، فمنها ما لا يصلح إلا لخدمة الدنيا ومنها ما لا يصلح إلا للتعبد، ومنها روحانيٌّ مشغول بمحبة الخالق.

فإذا أشرقت على القلب أنوار صفاته؛ اضمحل عندها كلّ نور، ووراء هذا ما لا يخطر بالبال، ولا تناله عبارة.

سبحانه جلّ وعلا، لا يلهيه شيء عن شيء، ولا يشغله شأن عن شأن، ولا تختلف عليه اللغات، ولا تشتبه عليه الأصوات، تأتي الوفود المختلفة، وتقف الجموع المتباينة، والشعوب المتغايرة، فيلجؤون إلى الله في يوم عرفة، وينادونه ويدعونه ويسألونه ويرجونه بلغات متباينة، ولهجات متعددة، ونغمات متنوعة، ونبرات مختلفة، فيسمع دعاءهم، ويعرف نداءهم، ويميز أصواتهم، ويدرك لغاتهم، ويقضي حاجاتهم، بل هو الذي أخبر جلّ وعلا في الحديث القدسي على لسان نبيه (ص) قائلاً: "يا عبادي لو أنّ أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيدٍ واحد فسألوني فأعطيت كلّ إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر".

يا أخا العقل توقّرْ *** وتجمّلْ وتصّرْ

ساءك الدهرُ بشيءٍ *** وبما سرّك أكثرْ

يا كبيرَ الذنب عفوُ *** الله من ذنبك أكبرْ

أكبرُ الأشياء عن أصـ *** ـغر عفوِ الله أصغرْ

ليس للإنسان إلا *** ما قضى اللهُ وقدّرْ

ليس للمخلوقِ تدبـ *** ـيرٌ بل اللهُ المدبّرْ

قال (ص): "أيعجز أحدكم أن يكسب في كلِّ يوم ألف حسنة؟" فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب ألف حسنة؟، قال: "يسبح مائة تسبيحة، فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة".

لقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم أكثر من سبعين مرّة، ومن ذلك.

قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الإسراء/ 44).

وقال تعالى: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) (الأنبياء/ 88).

وقال تعالى: (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (الزُّمر/ 75).

وقال تعالى: (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (المؤمنون/ 91).

وقال تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (الروم/ 17).

وقال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (يس/ 36).

وقال تعالى: (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يس/ 83).

وقال تعالى: (سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا) (البقرة/ 32).

وقال تعالى: (لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة/ 31).

وقال تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (الحجر/ 98).

وقال تعالى: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (الواقعة/ 74).

وقال تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى) (الأعلى/ 1).

وقال تعالى: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) (النصر/ 3).

أُمر (ص) بقوله تعالى: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ)، فامتثل الأمر قولاً وفعلاً، ولم يجد أجمل ولا أكمل من هذه العبارة المشرقة للترنم بها في الركوع والانحناء لجلال الجبار، فجعلها في الركوع "سبحان ربي العظيم".

وأُمر (ص) بقوله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى)، فامتثل الأمر قولاً وفعلاً، ولم يجد أجمل ولا أكمل من هذه الجملة الآسرة للمناجاة بها في حال السجود للباري، وتمريغ الوجه للجبار، فجعلها في السجود "سبحان ربي الأعلى"، وما أجمل كلمة "الأعلى" التي تنتهي بهذا المد وتختم بألف الإطلاق لينطلق معها الخيال والفكر والتأمل إلى رحاب ممدودة امتداد هذا الأفق البعيد، والكون الفسيح، ولينطلق ويمتد التسبيح يملأ أرجاء هذا الكون ويعمره بجلال التنزيه والتقديس.

 

المصدر: كتاب الله.. أهل الثناء والمجد

ارسال التعليق

Top