• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

سلوك المسلم بين العرف والدين

أ. د. محمود عباس

سلوك المسلم بين العرف والدين
 ◄ليس من المعقول في حركة (سلوك) المجتمع المسلم أن تصير العادات والأعراف الموروثة من قبيل الدين الذي ينبغي أن يطاع، والعرف مهما شاع بين الناس يحكم عليه ولا يحتكم إليه، فليس بعد الإسلام بقرآنه وسنة نبيه (ص) عرف يتبع ولا تقليد يطاع، فعاداتنا وأعرافنا الموروثة فيها الحسن وفيها القبيح، وقد تكون خليطاً من حق وباطل، والفيصل بين الحق والباطل في أي تقليد شائع أو عرف موروث إنما هو كتاب الله وسنة رسوله (ص) فما وافق ديننا من عاداتنا المألوفة قبلناه وإلا رفضناه، والمشكلة أننا نمارس في حياتنا عادات وتقاليد نحسبها من الدين وليست من الدين في قليل أو كثير. والمؤسف أن تنتقل هذه الموروثات من الآباء والأُمّهات إلى أبناء الجيل الحاضر فيحسبوها ديناً يتبع وعقيدة تطاع، فتباعد بينهم وبين دين الله الحق. (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ) (يونس/ 32)، وهل ضلت الأجيال إلا لتشبثها بتقاليد وأعراف سيئة، وفينا من يشعر بالحرج إذا خالف العرف ولو كان من أعراف أهل الضلال وفيهم وفي أمثالهم يقول الحق سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة/ 170)، وفي حياتنا أمور هي من قبيل العادات والتقاليد التي أفرزتها البيئات ولكن يقحم فيها الدين إقحاماً وهو غريب عنها. ففي أحزاننا وجنائزنا عادات وأعراف موروثة يحسبها العامة من الدين أو بعض ما أوصى به الدين فيحرصون على ذكرى الخميس الأوّل بعد رحيل الميت ثمّ ذكرى الأربعين فإذا انقضى الحول فحدث عن الذكرى السنوية ولا حرج وربما أقيمت السرادقات ودعى الناس إلى العزاء من جديد وقد يعود أهل الميت إلى السواء وثياب الحداد، وفيهم من يفعل هذا تظاهراً أو إبراءً للذمة من الملامة حتى لا يقال: دفنوا ميتهم وتجاهلوه فلم يذكروه، وفيهم من يعتقد أنّ هذا السلوك ترحم على الميت يوصي به الدين، وأياما كانت النوايا فتلك ابتداعات موروثة غريبة عن دين الله، فالميت بعد رحيله عن الدنيا ينقطع عمله إلا من ثلاث: "صَدَقةٍ جاريةٍ، أوعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"[1] هكذا علمنا رسول الله (ص) فليتنا نتعلم وكم صرخت المنابر وهتفت الحناجر ليكف الناس عن تلك العادات السيِّئة الموروثة. ولكن لا تزال فينا بقية ممن يخلطون بين العادة والعبادة، ويجعلون من موروثات الآباء والأجداد ديناً يتبع وعقيدة تطاع. وقد نجد فيهم من تسأله عن هذا السلوك فلا تسمع منه إلا شبيهاً بجواب أهل الضلال (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف/ 22). مشكلة الأُمّة الإسلامية اليوم أنها لا تعرف متى تتبع فتسلم من جريرة الابتداع ومتى تبتدع فتسلم من عواقب وسلبيات الاتباع. والإسلام يأمرنا بالاتباع والانقياد في شؤون الدين "لِتأخُذُوا عَنِّي مَناسِكَكُمْ"[2] (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (آل عمران/ 31)، أمّا في شؤون الدنيا فقد ترك لنا الإسلام مساحة لنبدع ونبتدع في نشاطنا البشري، والمشكلة اليوم أننا عكسنا الأمر فصرنا نبتدع في شئون الدين ونتبع غيرنا في شئون الدنيا حتى شاعت فينا أعراف بالية موروثة وعادات وافدة مارسناها في أفراحنا ومراسم زواجنا وفي معاملة أصدقائنا وأضيافنا. ففينا من يستهويه الغلو والإسراف في نفقات الزواج وأفراحه كما كان يحدث في أفراح القبائل العربية قبل الإسلام من المفاخرة والمكاثرة والتظاهر وربما تغير الشكل أحياناً إلى أسوأ مما كان ولكن لا يزال العرف الموروث والتقليد المعقد مسيطراً على بعض الشعوب الإسلامية. كأن دين يجب أن يتبع فلا يُقبل فيه الجدل. وقد تجد فينا اليوم من يطلب لابنته مهراً دونه اقتحام المخاطر والصعاب وكأن ابنته (عبلة) والواجب على عنترة أن يغامر بحياته من أجل مهرها. يحدث هذا من بيوت تراجع فيها سلطان الدين تحت سطوة الأعراف البالية والتقاليد الموروثة فصوت الإسلام في آذانهم خفيض لا يكاد يسمع من صيحة العادات الموروثة التي ألفوها، يقولون في أنفسهم إذا أتاكم من ترضون ماله وثروته فزوجوه، ولا يحدثون أنفسهم بقول رسول الله (ص): "إذا خَطَبَ إليكُمْ مَن تَرْضَوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إلا تَفْعَلوا تَكُنْ فِتنَةٌ في الأرضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"[3] وماذا ننتظر من فتنة وفساد فوق ما نشاهده من حرمان يعتصر البنات والأولاد؟ (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) (النساء/ 66). البساطة سُنّة الإسلام في كل شيء، فلا إسراف ولا تطرف ولا مغالاة ولا تكلف، ولكن يبدو أن جرينا وراء الأعراف البالية والعادات المألوفة انعكست آثاره على فهمنا لمعنى الدين والحياة حتى صار التكلف سمة من سمات العصر تراه في سلوك الفقراء كما تلحظه في سلوك الأغنياء إلا من رحم ربي، فالغني يتكلف ما لا يواتيه ويأتي أحياناً بما يخالف طبعه لتكتمل في عيون الناس صورة الثرى المهاب. والفقير الذي يهجر البساطة إلى التكلف هو إنسان لا يرضى بحظه من الحياة ولا بما قسم الله له وقدر. يشعر دائماً بأنّه في واقع مرفوض يجب أن يخفيه عن الناس بالتكلف، ومن حوله عادات وأعراف وصخب مادي صبغ حياة الناس بصبغة التكلف والتصنع، وجرفنا تيار العادات المألوفة والسلوكيات الوافدة فأصبحنا مغيبين عن قيم المجتمع المسلم وسلوكياته وآدابه، متكلفين حتى في طعامنا وشرابنا وثيابنا، متكلفين في علاقاتنا وزياراتنا وطريقة كلامنا، وكأننا مستعبدون بعادات وسلوكيات صنعناها بأيدينا، وسجنا أنفسنا في كبرياء الذات حتى لا يقال: إننا نعيش خارج عصرنا، وصممنا آذاننا عن المعاني الإسلامية التي تمثل في حياتنا قيمة وهي عنوان شخصيتنا المتميزة والتي عرفنا بها العالم يوم كانت هذه الأُمّة تتلقى عن الله وتحكم حياتها أخلاق الإسلام والغريب أننا الأُمّة الوحيدة التي حذرها إسلامها من التكلف وهي الوحيدة اليوم التي يشيع فيها هذا السلوك البغيض لأنّها الوحيدة التي تحاكي شعوب الأرض في عادات وسلوكيات ليست من طبعها ولا من طبيعة أخلاقها نحاكيهم في تكلف ونجاريهم في تصنع وتعسف، والحق سبحانه يخاطب نبيه (ص) (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (ص/ 86)، وكان (ص) يكره التكلف والمتكلفين وسماهم المتنطعين، ودعا عليهم بالهلاك ثلاث مرات وهو يقول (ص): "هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ"[4] والضيف الذي يزورك قد يشعر بالحرج من تكرار الزيارة إذا رآك من المتكلفين في ضيافته وربما انتهى الأمر إلى القطيعة كما يقول الفضيل بن عياض: "إنّما تقاطع الناس بالتكلف يدعو أحدهم أخاه فيتكلف له فيقطعه من الرجوع إليه"، وإذا كان من الإيمان في منطق الإسلام أن نكرم ضيفنا فإنما يكون على قدر طاقتنا (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) (البقرة/ 286)، وقد تشعر بالراحة النفسية وأنت في ضيافة إنسان يلقاك بوجه باسم وفرحة غامرة وإن لم يقدم لك إلا كوباً من الماء فالكرم كما يقولون شيء هين وجه باسم وكلام لين. وقد يضيق صدرك ولا ينطلق لسانك وأنت في ضيافة إنسان يتصنع في لقائك ويخرج عن طبعه في الحديث معك ويتكلف فيما يقدمه إليك ولو كان من أشهر المأكولات والمشروبات. وليس معنى هذا أنّ الإسلام يدعوك إلى البخل على ضيفك وزوارك وإنما يدعوك إلى أن تجود بما عندك وعلى قدر طاقتك في سماحة ورضا، فإن كان في رزق الله عندك سعة فمن البخل أن تقدم لضيفك الشيء التافه الرخيص وأنت تستطيع أن تقدم إليه الغالي والنفيس. والمؤسف أن تجد بعض الأثرياء من الرجال والنساء يعيش حياته بعادات وسلوكيات غريبة ليس لها في دين الله برهان، وليس لها في أخلاقنا وعاداتنا مكان، فمنهم من يسأل الضيف أو الزائر: أتشرب شيئاً؟ فإن خجل الضيف وقال: لا. انتهى الأمر. ومن أدب الإسلام أن يتعفف الضيف، وليس من أخلاق الإسلام أن يُواجه هذا التعفف بأخلاق أجنبية غريبة، فمن السنة أن يُقدم إلى الضيف شيء ولو كان شربة ماء "مَن كانَ يُؤْمِنُ باللهَ واليومِ الآخر فليُكرِمْ ضَيْفَهُ"[5]، هكذا علمنا رسول الله (ص) فاخلعوا القبعات لتعود إليكم ذاكرة المسلمين والمسلمات. من المعروف أنّ القبعات صارت في أذهان الناس سمة لشعوب معيّنة كما أنّ العباءات من السمات العربية، ولا أعتقد أنّ الإسلام يتوقف كثيراً عند قبعة أو عباءة فلا القبعة من علامات الكفر ولا العباءة من علامات الإيمان فلكل شعب من الشعوب زيه المألوف بحكم البيئة التي نشأ فيها. والإسلام لا يعنيه أن تضع على رأسك قبعة أو عمامة أو أن تكون من أصحاب العباءات أو أن يسير الرجال حاسري الرؤوس تلك أشكال تركها الإسلام لعادات الشعوب واختلاف البيئات وإنما يهتم الإسلام بأن تكون أخلاق المسلم نابعة من دينه وعقيدته وليست تابعة لفكر البشر وشبيهة بأخلاق شعوب تمردت على الله وقطعت علاقتها برسالات السماء، ومن تشبه بقوم فهو منهم، ومن أحب قوماً حُشر معهم (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (المائدة/ 51)، فإذا سمعت مثلاً من يخلط كلامه برطانة أجنبية في غير مناسبة أو ضرورة فقد لبس القبعة ليبهرك أو يتفاصح عليك، وأسوأ من هذا تلك الأسماء الموضوعة على أبواب الشركات والهيئات الخاصة بلغة أجنبية وحروف عربية. خلط غريب لا يرمي عن حكمة سوى أن يكون تمردا على قسمات البيئة وانبهاراً بشكل القبعات أو البرانيط. والظاهر أنّ هواتف هذه الشركات صارت لا تنطلق إلا برطانة أصحاب القبعات فإذا تحدثت إليهم في مكالمة هاتفية جاءك الرد من مصري أو مصرية برطانة أجنبية.

ليتنا نتعلم كل لغات العالم لنواكب الجديد في طفرات العلم لا لنفقد شخصيتنا. وليت نساءنا وبناتنا يلبسن من الثياب ما يناسب أخلاق الإسلام لا أخلاق شعوب تستهين بالعورات (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (الأنعام/ 56).

 الهوامش:

[1]- أخرجه مسلم (3/ 1255)، برقم (1631) من حديث أبي هريرة (رض). [2]- أخرجه مسلم (4/943)، برقم (1297) من حديث جابر بن عبدالله (رض). [3]- أخرجه الترمذي (3/ 386)، برقم (8410) من حديث أبي هريرة (رض). [4]- أخرجه مسلم (4/2055)، برقم (2670)، من حديث عبدالله بن مسعود (رض).

[5]- أخرجه البخاري (8/ 11)، برقم (6018) من حديث أبي هريرة (رض).

   المصدر: كتاب (القرآن وقضايا العصر)

ارسال التعليق

Top