• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التفريق بين الرأي وصاحب الرأي

د. عبدالله بن سليمان المشوخي

التفريق بين الرأي وصاحب الرأي

◄الحوار العلمي الصحيح هو الذي يعالج الأفكار المطروحة ويزنها بميزان الحقّ بغض النظر عن قائلها، أما ربط الفكرة بصاحبها ورفضها وعدم قبولها، حتى ولو كانت صحيحة بسبب الاختلاف مع صاحبها، أو التعصب للفكرة والدفاع عنها حتى ولو كانت غير صحيحة بباعث الهوى والتعصب فإنّ هذا من الظلم وعدم الإنصاف. بل إنّ هذا الأمر يذكرنا بموقف اليهود – وهم قوم بهت – من عبدالله بن سلام (رض)، عندما أسلم، حيث تذكر كتب السيرة، أنّ عبدالله بن سلام عندما أراد أن يسلم ذهب إلى رسول الله (ص) فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

ثمّ قال: (يا رسول الله، إنّ يهود قوم بهت وإنّهم إن يعلموا بإسلامي يبهتوني عندك، فأرسل إليهم فاسألهم عن أي رجل ابن سلام فيكم. فأرسل إليهم فقال: أي رجل ابن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا وعالمنا وابن عالمنا وأفقهنا وابن أفقهنا.

قال: أرأيتم إن أسلم عبدالله؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك.

قال: فخرج ابن سلام فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمّداً رسول الله.

فقالوا: شرنا وابن شرنا وجاهلنا وابن جاهلنا.

فقال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله).

والمتأمل في هذا الحوار يلاحظ أنّ اليهود ربطوا بين الفكرة وصاحبها، فعندما كان عبدالله بن سلام على ملتهم امتدحوا نسبه وعلمه وفقهه، وعندما ظهر لهم إسلامه وإيمانه بما جاء به رسول الله (ص) طعنوا في نسبه وعلمه ونسبوه إلى الجهل وهذا هو البهتان المبين.

يضاف إلى ما سبق أنّ الهدف من الحوار هو إحقاق الحقّ وكشف الباطل، فإنّ ظهر الحقّ من الطرف الآخر، فلابدّ من التسليم والأخذ به بغض النظر عن قائله، فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق الناس بها وهذا ما أرشدنا إليه رسول الله (ص).

لهذا نجد أنّ القرآن الكريم أنصف الكفار وهم أعداء الله، فقال تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) (آل عمران/ 113).

وقال تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا...) (آل عمران/ 75). ولم يكتف القرآن بذلك بل أمر المؤمنين بالعدل مع الكفار، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة/ 8).

قال ابن كثير – رحمه الله –: (أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم بل استعملوا العدل في كلِّ حد صديقاً كان أو عدواً".

ومن صور الإنصاف في السنة النبوية والتفريق بين الفكرة وصاحبها ما جاء في صحيح البخاري، عن أبي هريرة (رض) قال: "وكلني رسول الله (ص) بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله (ص) قال: إني محتاج وعليّ عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه فأصبحت فقال النبيّ (ص): "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة" قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنّه قد كذبك وسيعود...". وتكرر الأمر ثلاث ليال، ثمّ قال لأبي هريرة: "دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ...) حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله.

فلما أصبح أبو هريرة أخبر الرسول (ص) بما حدث معه فقال النبي (ص): "أما إنّه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال: ذاك الشيطان"، فالرسول عليه الصلاة والسلام بيّن لأبي هريرة أنّ ما قاله الشيطان في فضل آية الكرسي حقّ وصواب على الرغم من أنّ مصدر هذا القول هو الشيطان.

وهكذا نلمس من خلال ما ذكر أنّ الحقّ أولى بالاتباع بغض النظر عن قائله، فالقرآن الكريم أنصف أهل الكتاب، مبيناً أنّ منهم طائفة أمناء بحيث لو أمنته على أموال كثيرة يؤدها إليك، ومنهم من يخون الأمانة في أقل القليل. والرسول (ص) يؤكد لأبي هريرة صدق مقولة الشيطان في فضل آية الكرسي على الرغم من عداوته الشديدة للمؤمنين.

وهكذا شأن المحاور، عليه أن يقبل الفكرة الصحيحة بغض النظر عن قائلها سواء كان قائلها صغيراً أو كبيراً، قريباً أو بعيداً، صديقاً أو عدواً فالعبرة باتباع الحقّ بغض النظر عن قائله.

 

المصدر: كتاب الحوار وآدابه في الإسلام

ارسال التعليق

Top