• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

صراع الإرادات.. يُحرّك الأُمّة باتجاه التغيير

حسن السعيد

صراع الإرادات.. يُحرّك الأُمّة باتجاه التغيير

تقف البشرية اليوم، على أعتاب مرحلة جديدة وصعبة، تمثل مفترق طرق خطير وحاد. وقد جاءت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 م ، بكل ما حفلت به مخاضاتها انعكاساتها من تداعيات، لتطرح من جديد ثنائية؛ الإسلام والغرب، بقوة وعلى نطاق واسع، وليغدو الحديث اليومي عن المواجهة، بشكل سافر، تجاوز – إلى حد مثير – نطاق ردود الفعل للحدث!
ومن حينها، لم نعُدْ نسمع شيئاً عن المحددات الجيوستراتيجية الغربية، التي ألفنا ترديدها، خلال العقدين الأخيرين، فيما يتعلق بالعالم الإسلامي، والصحوة المباركة التي اجتاحته، من قبيل؛ الاحتواء، تجفيف الينابيع، قوس الأزمة حرب النيابة، الشرق أوسطية.. إلخ، بل طفقنا نتلقّى – صباح مساء – نغمة جديدة، تتساعد وتائرها من تسارع إيقاعات قرع طبول "الحرب طويلة الأمد"، وتفوح من ثناياها رائحة "الحرب الصليبية". وقد ردّد بوش الابن وكبار مساعديه هذه العبارات، وإن اعتذر بوش عن الأخيرة، التي ادعى أنها كانت زلّة لسان.
كل هذا التصعيد المناوئ للإسلام يأتي في سياق خطاب أيديولوجي لا يكاد ينقطع أو يتوقف عن أطروحة "صدام الحضارات" التي عادت إلى الأضواء بعنف!، وتحت هذه "اللافتة" شرعت الولايات المتحدة الأمريكية، بالاصطفاف مع حلفائها، بشن هجوم ضارٍ مسعور على العالم الإسلامي، بذريعة "مكافحة الارهاب"، ولتلج البشرية إلى فصلٍ درامي مذهل في خلط الأوراق والمفاهيم، وازدواجية المعايير، خاصة وان الإدارة الأمريكية قد شهرت سيف الإرهاب الدولي المنظّم، بكل عنجهية وغطرسة ووحشية!
بل انّ الولايات المتحدة، وهي التي تحرص في مناسبة وغير مناسبة على التظاهر بأنها راعية حقوق الإنسان، والديمقراطية، والقيم.. أفصحت علناً وعملاً – في آن معاً – عن تخلّيها الصريح عن منظومة القيم التي كانت تحتكم إليها، أو هكذا تدّعي، لصالح متطلبات أمنها الاستراتيجي وما يتعرّض إليه من تهديدات، وفي عقر ديارها، ولم تسلم من ذلك أبراجها الاقتصادية، وحصونها العسكرية، وأروقتها السياسية!!
في غمرة ردود الفعل، تراجعت لغة العقل والمنطق السليم، ليسود منطق ملؤه الغطرسة والاستعلاء، وتحدوه شهوة الانتقام والتدمير، وفق نظرية القوة الأمريكية المتطاولة عتوا وجبروتاً واستكباراً. ومنذ اللحظات الأولى، وحتى قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، حُشِر العرب والمسلمون في قفص الاتهام.
وفي داخل أمريكا بالذات، أمست هوية المرء، وسحنته، وعِرقه، وديانته، واسمه.. دليلاً ثبوتياً للإدانة، ولم يسلم حتى غير المسلمين – كالسيخ مثلاً – من الممارسات العدوانية، للغوغاء والأجهزة الرسمية، على حد سواء. فيما راحت الأجهزة الأمنية تنفّس عن كل عقدها ضد الآخر (المسلم)، وبغطاء قانوني، وعلى أعلى المستويات. فكانت حملات المداهمات والاعتقادات والمضايقات التي طالت بيوت الله، ومنازل العباد، والمؤسسات الثقافية والاعلامية، والمتاجر.. ومواقع الانترنت!!
إنّ ما حصل، وما يزال، ومن اعتداءات وتجاوزات، في كل أرجاء الغرب، وأمريكا تحديداً، لهو مؤشر خطير على استفحال العنصرية بل البربرية بأجلى مظاهرها، كما ينبئ – في الوقت نفسه – عن شروخ عميقة وأزمة حادة تنخر في حنايا حضارة الغرب، التي أخذت تنحدر بشكل مخيف، في جوانبها الإنسانية والأخلاقية، فضلاً عن افلاس مقولاتها حول القيم، والتمدن، وحقوق الإنسان، والشفافية، والسلوك الحضاري.
وإذا ما امعنا في خطاب النخبة السياسية والفكرية في الغرب، فسنجد تركيزاً مكثفاً ومقصوداً – مع سبق الإصرار – لتشويه سمعة المسلمين، وعكس صورة نمطية للإسلام تنتمي إلى القرون الوسطى التي تشكّلت خلالها رؤية الغرب إلى الشرق عموماً، والمشرق الإسلامي بالذات.
ومن يتسنّ له الاطلاع على صورة الإسلام والمسلمين، في الذهنية الغربية، فإنّه يُصاب بالدهشة، لما فيها من تزوير وبُعد عن الحقيقة، وتشويه مغرض، كما وان الانطباع الأولي الذي يكوّنه المرء عن تصريحات أقطاب السياسة الغربيين، هو انّ ثقافة أصحاب القرار (الأمريكي خاصة) تعاني من نقص فادح معيب، حول الإسلام وما يمثله من حضارة سامقة.
إنّ الدلالات الفكرية للأزمة الأخيرة عديدة، وقد كشفت عن حقيقة أساسية هي انّ علاقة الغرب بالشرق علاقة إشكالية، مثقلة بتركة تاريخية طويلة، حاولت النخب الفكرية في الغرب، ولا سيما دوائر الاستشراق وخبراء الأنثروبولوجيا والاستراتيجية، تعميق الحفر، ونسف كل محاولات مد الجسور والتعايش أو التكامل. وفي هذا السياق جهدت هذه النخب على عمل تدميري دؤوب، عبر الإيحاء إلى الآخرين انّ هذا الصراع التاريخي القديم.. إنما هو صراع حضارات، ومواجهة أضداد، وتقاطع إرادات!، مع تركيز لا يخلو من الريبة على حصر المواجهة بين قطبين متنافرين أبداً، حيث يكون الاصطفاف موزعاً بين الدائرة الإسلامية – الكونفوشيوسية، من جهة، قبال الدائرة اليهودية – المسيحية، مع ما ينطوي عليه هذا الخندق من غزل وتحريض مفضوحين للحارة الهندوسية (وبالرغم من أنّها شرقية) لكي تلتحم والغرب ضد العالم الإسلامي والصين. ولعله ليس من قبيل المصادفة أن تُمنح جائزة نوبل في الآداب إلى الكاتب البريطاني (من أصل هندوسي) م. س. نيلبونا الذي يُعد من أكثر الكتّاب في الغرب كراهية وحقداً على الإسلام، حتى انّ كاتباً مرموقاً قال عن كتاباته: انّ ما كما كتبه عن المسلمين لا يستطيع أي كاتب آخر أن يتحدث بمثله عن المسيحية أو اليهودية؟
وليس ثمّة شك أنّ بعض النخب الفكرية قد لعبت دوراً مشبوهاً في صياغة وتسويق اطروحة الصدام هذه، ومن ثم دفع الأمور بالاتجاه السلبي، لحاجة في نفس يعقوب. ويقف في طليعة القائمة الثلاثي؛ "برنارد لويس، صموئيل هنتنغتون، مارتن انديك"، الذين ما فتأوا عن التنظير لثقافة المواجهة، دون أن نقلل من الدور المعلن حيناً، والخفي أحياناً، لرابعهم في التخطيط والتنظير هنري كيسنجر!، وبالتالي يمكن القول؛ انّ "صدام الحضارات" أطروحة تكرّس المركزية الغربية، ويقف وراءها بقوة اللوبي الأكاديمي في أمريكا.
ما يعزّز هذا التحليل العديد من الأدلّة والشواهد، فالمستشرق برنارد لويس (البريطاني الأصل الأمريكي الجنسية).. ذو باع طويل وخبرة عميقة في شؤون العالم الإسلامي، وخاصة الأقليات الدينية فيه. وهو أول من أطلق مصطلح "صدام الحضارات" في مقالته الشهيرة "جذور الغضب الإسلامي The Roots Of Muslim Rage" المنشورة في مجلة "اتنلانتك" (عدد أيلول/ سبتمبر 1990)، اعتبر فيه المسلمين كياناً واحداً موحداً، أمكنهم في إطاره تحديد علاقتهم مع الغرب بلغة السخط والعنف والحقد واللاعقلانية!، وقد حظيت المقالة بتغطية واسعة على المستويين الأمريكي والأوربي، وساهمت بدرجة كبيرة في تشكيل صورة الإسلام في الوعي الغربي، لما يحظى به "برنارد لوليس" من مكانة في الوسط الثقافي الأمريكي والغربي عموماً، وخصوصاً في حقل الاستشراق. وقد بلغت لغة لويس العدائية والاستفزازية إلى حد أخرجه عن خطابه التقليدي الذي طالما تظاهر به وحرص عليه، إذ أفصح هذه المرة عن نزعته الصهيونية داعياً إلى استنهاض الغرب وشحنه لمخاصمة الإسلام، قائلاً: "يجب أن يكون واضحاً الآن، بأننا نواجه حالة نفسية وحركة، تتجاوزان مستوى قضايا السياسات والحكومات التي تلاحقها وتتبناها. إنّ ما يحدث لا يمكن أن يكون غير وأقل من صدام حضارات، إنّ رد فعل هذا الخصام القديم ضد ارثنا اليهودي – المسيحي، وضد حاضرنا العلماني، وضد انتشارهما على صعيد العالم، وهو ربما رد فعل لا عقلاني، ولكنه رد فعل تاريخي بدون أدنى شك".
وقبل مضي وقت طويل، ويتلقف هنتنغتون المصطلح، ليعيد صياغة الفكرة في عمل تأسيسي، وإن بدا للبعض هامشاً مطوّلاً لأفكار برنارد لويس، ولتخرج عنواناً لإطروحة كانت وما تزال الأكثر إثارة للجدل، ما بين مؤيد متحمّس ومعارض متوجّس، ولعل ادوارد سعيد هو الأشد نقداً لها. وكتب مؤخراً مقالة بعنوان "صدام الجهالات" في إشارة واضحة للنيل من أفكار هنتنغتون وتعميماته التي وصفها بالسطحية والتعميم والانتقائية، مؤكداً أنّه اتبع منهجاً خاطئاً وتحليلاً دافعه سياسي بالأساس، وانّ أحكامه مستقاة من آراء مصادر ثانوية وصحافية وسطحية، وليست مبنية على واقع الحضارات، وشبّه موقفه الانتقائي هذا بموقف برنارد لويس، وبالتالي خلص ادوارد سعيد إلى النتيجة التي تقول: إنّ هذه الأفكار التي يُروّج لها هذا الثنائي انما تحيي روح الحرب الباردة، عبر تسويق مقولة انّ العدو بات هو الإسلام، خاصة وانّ هذا الاستنتاج يصبّ في عمق التوجه الغربي الذي يرزح تحت وطأة – بل أزمة – البحث عن عدو.
وبهذا الصدد؛ أعلن أكثر من مسؤول في الغرب، ومنهم الرئيس الأمريكي الأسبق "نيكسون" الذي قال بالحرف الواحد: "انّ العدو الباقي والذي يتعيّن مواجهته الآن إنما هو الإسلام – وذلك بعد انهيار الاتحاد السوفيتي – بتضافر جهود المخابرات المركزية الأمريكية والجهاز السياسي/ الديني للفاتيكان".
وليت الأمر يقتصر على النخبة السياسية ومن يرسم لها خططها استراتيجياتها، بل يمتد أيضاً إلى الأوساط الفكرية والثقافية، وهذا ما تجلّى بالرسالة التي وجهها مؤخراً ستّون مثقفاً أكاديمياً أمريكياً إلى مسلمي العالم، لتبرير الحرب التي تشنها بلادهم ضد ما يسمى بالإرهاب، ملتمسين لها أسباباً أخلاقية، زاعمين بأنّ هذه الحرب ضرورة أخلاقية وعادلة!!
وحدد الموقعون على الرسالة العدو الذي تخوض الولايات المتحدة الحرب ضده بـ"الإسلام الراديكالي" الذي يصفه المفكرون بـ"الحركة السياسية – الدينية"... وهي التي تهدد العالم اليوم بما فيه العالم الإسلامي، حسبما جاء في رسالتهم المفتوحة. ورغم لغة التحريض هذه، التي تحفل بالكراهية والاستعلاء وإلغاء الآخر، تحت ذرائع وتبريرات واهية، فإن موقّعي الرسالة اعترفوا – مرغمين – بخطل السياسة الأمريكية واخفاقها الأخلاقي، إذ قالوا ما نصّه: "تصرفت أمتنا بغطرسة وجهل تجاه المجتمعات الأخرى. وفي بعض الأوقات اعتمد قادتنا سياسات غير رشيدة وغر عادلة. ونحن لا نستطيع أن نحث المجتمعات الأخرى على الالتزام بالمبادئ الأخلاقية من دون أن نعترف في الوقت ذاته باخفاق مجتمعنا في بعض الأوقات بالتزام المبادئ ذاتها".
ومع انّ الغرب ظلّ يطلق مقولات ثقافية وحضارية داعية "الآخر" إلى الانضواء تحت مظلة منظومته القيمية، فإنّ هناك هدفاً بعيداً يكمن في رغبة هذا الغرب، وأمريكا تحديداً، في الاستيلاء على النفط والأسواق والمواد الأولية، بلا منافس ولا منغصات أو عقبات.
وتأسيساً على ذلك؛ يمكن القول انّ كل ما يُقال حول صدام حضاري أو تباين ثقافي ليس إلا للتبرير الأيديولوجي، من جهة، ولتسويق مخططات سياسية، وسياسات عسكرية ومنافسات اقتصادية، تستخدم الحضارات مطيّة، كما يقول كاتب عربي، كل ذلك خدمة لنظرية القوة الأمريكية.
ولمّا كانت الرغبة وحدها لا تجدي نفعاً في تحقيق الأهداف والحفاظ على المصالح الحيوية. فلابدّ من ادخال هذا "الآخر" في بيت الطاعة، وارغماه على التخلّي عن هويته ومنظومة قيمه المعرفية والحضارية. وليس هناك من أمة مستهدفة كالأمة الإسلامية. وذلك لأسباب عديدة دونها؛ أنها وحدها تمتلك مقومات البديل الحضاري، في ظل تزايد الحديث عن استفحال مظاهر الانحطاط الذي تعيشه حضارة الغرب واقترابها من نهايتها، بل هناك من تنبأ بانهيارها!، وليس أدل على انّ الإسلام هو الكهف الوحيد الذي يمكن للبشرية أن تلوذ به اليوم، في أزمتها الحضارية الحادة، من تضاعف معتنقي الإسلام أربع مرات في أمريكا نفسها، منذ أحداث أيلول/ سبتمبر، رغم كل محاولات التشويه الواسعة للإسلام والمسلمين!
كما انّ الانبعاث الإسلامي وحده يقف اليوم حائلاً كؤوداً دون مضي المخطط الاستكباري، وهو وحده الذي يناجز المشروع الصهيوني ويشكل تهديداً حقيقياً له، ولهذا يتبارى أعداء الإسلام في اطلاق صرخات التحذير ممّا يسمونه "الإسلام الراديكالي" ويذهب البعض – كما هو الحال مع فوكوياما – إلى مديات بعيدة، مطالباً حكّام العرب والمسلمين صراح إلى تبنّي "الإسلام الليبرالي"، على حد تعبيره، وبنموذجه التركي العلماني!
ومنذ أحداث أيلول، وحتى هذه اللحظة، ثبت للجميع من خلال الممارسات العدائية انّ الأُمّة كلها مستهدفة. وما حصل في أفغانستان، وما يحصل اليوم في فلسطين، وما سيحصل لاحقاً.. كلها شواهد ومعالم في هذا المسار. ومن اللافت انّ الأُمّة لم تقف – كحكامها – متفرجة أو غير مكترثة، بل تحركت وتفاعلت وعبّرت عن غضبها المقدس، وخطت شوطاً مهماً في طريق التغيير، لتثبت مرة أخرى عقم الرهانات الخاسرة على تدجينها.
إنّ قدراً مهماً من تشكّل إرادة التغيير قد تحقق، في الآونة الأخيرة، وعلى امتداد الوطن الإسلامي، وهذا – بحد ذاته – علامة صحة، ومؤشر وعي، ينبثق من بين ركام الآلام والتحديات.
لقد سجّلت الأمة حضورها الإيجابي، هذا يعني أنها باتت واعية لما يدور حولها، وها هي تسعى حثيثاً لتتبوأ مكانها تحت الشمس، من جديد، والمطلوب من النخب السياسية مراعاة ما يجري لكي لا يتخلفوا عن اللحاق بالأمّة، وقد يجرفهم التيار الهادر، إذا ما وقفوا عكسه، ومطلوب من النخب الفكرية مسايرة هذه التحولات والالتحام بها وترشيدها وتعميق حالة الوعي، في صفوف الأُمّة، وهي تواجه كل هذه التحديات في هذا المنعطف الخطير.
إنّها آلام المخاض، كما يقول مفكر إسلامي شهيد، والبشرية المعذّبة بانتظار فجر الإسلام.. للخلاص والعيش بأمان وكرامة.

المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 108 لسنة 2002م

ارسال التعليق

Top