• ١ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٢ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

صنوان وغير صنوان يُسقى بماء واحد

د. محمد نبيل النّشواتي

صنوان وغير صنوان يُسقى بماء واحد

لقد خلق الله الأرض وقدَّر فيها أقواتها قبل أن يخلق الإنسان بآلاف الملايين من السنين، فجعل فيها من كلِّ أصناف الحيوانات والنباتات والثمار وكنوز الأرض ومعادنها قوتاً ورزقاً لبني آدم.
ولكن الملحدين والمادِّيين يقولون بأنّ الإنسان القديم هو الذي حرث الأرض ونثر فيها الحبوب المختلفة، ثمّ رعاها وسقاها، فأعطت قمحاً وعدساً ورزاً وغير ذلك، وهو الذي زرع شتلات الأشجار المختلفة وتولاها بالعناية حتى نمت وأثمرت وأينعت عنباً ورماناً وزيتوناً ونخلاً وغير ذلك.
فإذا سألنا هؤلاء: من أين جاءت الشتلة الأولى؟ فسيجيبون بأنهم ورثوها عن أجدادهم!!.. ولو سألناهم من أين لأجدادهم بهذه الشتلات فسيقولون بأن أجداد أجدادهم هم الذين أوجدوا الشتلات؟ فهل كان بمقدور آدم عليه السلام أو من تبعه من أولاده وأحفاده وأحفاد أن يصنعوا شتلات الأشجار المثمرة الموجودة على سطح الأرض، والتي تقدَّر بنصف مليون صنف؟!
وإن فعل الإنسان البدائيُّ القديم ذلك، فلماذا لا يصنِّعه الآن المتخصِّصون في علوم النبات؟! وإذا صنع الإنسان القديم نصف مليون شتلة مختلفة الأصناف والألوان، فلماذا لا يصنِّع الإنسان المتحضِّر شتلةً واحدةً تنبت لنا صنفاً جديداً من الثمار والفاكهة أو من الحبِّ أو القضب أو الزيتون أو النخل غير التي نعرفها؟!. لماذا لا يصنِّع أساتذة وعلماء النبات ما صنعه الإنسان البدائي الأوّل؟
هذا التحدِّي قائم وموجّه بشكل خاص للمحلدين والماديين من الآن وحتى قيام الساعة. فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا فليعدلوا عن نظرياتهم المهلهلة البالية، وليتَّقوا الله قبل أن ينزل فيهم عقابه ويحلَّ عليهم غضبه.
هذا ومن ناحية أخرى فإنّ التحدِّي الإلهي لهؤلاء المادِّيين قائم ومنذ الأزل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (الحج/ 73)، ومن آيات التحدِّي العظيمة الأخرى قوله جلّ جلاله: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (لقمان/ 11).
يتحدّى الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين الكريمتين كافة علماء الدنيا كي يجتمعوا ويتعاونوا فيخلقوا أي كائن حيٍّ ولو كان حقيراً كالذباب، ويؤكِّد لهم في الوقت ذاته عجزهم وضعفهم الذي يعادل عنده ضعف الذبابة وعجزها وحقارة مكانتها وقلّة حيلتها، كما يلفت سبحانه وتعالى نظر الإنسان وانتباهه إلى عجزه عن استرجاع شيء إن سلبه الذباب إيّاه، وهذا يدلُّ على أنّ الإنسان ضعيف، وهو عند الله أضعف من هذا الذباب المتناهي في الصغر والحقارة.
فالإنسان وإن غزا الفضاء وبلغ ذروة التقدُّم العلميِّ فإنّه عاجز كل العجز عن خلق حيوان أو نبات أو أيّ شيءٍ حيٍّ. فالخلق كان بمشيئة الله وبقدرته، أمّا التناسل بجميع أشكاله: الحيواني والنباتي والبشريِّ، فإنّه مستمر أو مقدَّر له الاستمرار بالأسباب التي يسعى إليها ويقوم بها بني البشر من أجل الحفاظ على الأجناس.
فالإنسان لا يمكنه أن يخلق نفسه ولا أن يخلق غيره، ولكن حكمة الله شاءت أن يجعل منه الزوجين الذكر والأنثى، وأمرهما بالتزاوج والتكاثر، وفضَّلهما على كثير ممن خلق تفضيلاً.
وحتى الإنجاب فإنّه بقدرة الله تعالى ومشيئته؛ لأنّه بإمكانه أن يرزق من يشاء بنيناًَ، وأن يجعل من يشاء عقيماً حتى لو خضع لعلاج أعظم أطباء العصر المتخصِّصين بالعقم والإنجاب (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) (الشورى/ 49-50). فالله وحده الذي خلق الحيوانات، المنوية، وهو الذي خلق البييضة في الأنثى، ولكن الزوجين عملا بالأسباب فتزوجا، فتخصّبت البييضة ينطفة مذكَّرة، فكان منها العلقة فالمضغة فالعظام، ثمّ كسا العظام لحماً ثمّ أنشأه خلقاً آخر، وهذا كلُّه من الله وليس ليد الإنسان فضل فيه.
أمّا الاستنساخ الذي به العالم الإرلندي إيان ولموت في آذار (مارس) 1997م على إحدى النعاج فأنتج نعجة مماثلة سماها (دوللي) فإنّه ليس إلا تلاعباً بالجينات الموجودة أصلاً في خلايا حية أخذها من بييضة النعجة الأصلية ومن خلية ثدي من نعجة أخرى. أي أنّه لم يصنِّع خلية بنفسه، بل أخذ خليتين حيتين من خلق الله وإبداعه. أمّا التعامل مع الجينات فإنّه علمٌ ظهر إلى الوجود قبل عشرات السنين وأُطلق عليه اسم الهندسة الوراثية، وهو يهتم بتخليص الأجنة من الأمراض والتشوهات الخلقية.


فالله وحده إذن الذي أعدَّ الأرض لبني البشر قبل نزولهم فيها من السماء وهو الذي قدّر فيها أقواتهم وأرزاقهم من مواشٍ وحيوانات وأشجار مثمرة ونباتات من مختلف الأشكال والأصناف: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا) (البقرة/ 29). وإذا شاءت حكمته سبحانه وتعالى أن يعاقب من جَحَدَ فضله وربوبيته بأن يتلف زرعه وأرضه فلن يحول دون ذلك حائل، فقد يسلِّط الله عليها مرضاً أو حشرة حقيرة فتذهب بالأخضر واليابس، فتصبح جنَّته هشيماً تذروها الرياح، أو يجعلها عقيمة لا تنبت ولا تثمر: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) (الكهف/ 42)، وقال جلّ جلاله: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) (الواقعة/ 63-65).
فالخلق كلُّ الخلق من الله وبيده وحده سبحانه وتعالى لا شريك له: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا) (النمل/ 60)، وقال عزَّ من قائل: (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ) (الواقعة/ 72).
يخبرنا سبحانه وتعالى من خلال هذه الآيات ويؤكِّد بأنّه هو الذي أوجد المراعي والحدائق والحقول، وهو الذي خلق الكون والأرض، وقدَّر فيها أقواتها أخرج منها ماءها مرعاها قبل أن يخلق الإنسان بملايين السنين: (هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا) (الإنسان/ 1)، (وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) (فصلت/ 10)، (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا) (النازعات/ 30-31).
أمّا المعجزة الثانية في عالم النبات فهي امتصاص الأشجار ما تحتاجه من ماء وغذاء وسماد من التربة. هناك بعض الملحدين يقولون بأنّ الماء والغذاء يصعدان من التربة عبر جذور النباتات إلى جذوعها فأوراقها فثمارها تلقائياً بفعل الخاصية الأسموزية (خاصية الأنابيب الشعرية). هذا حقّ، ولكن من الذي خلق هذه الجذور وجعل فيها أوعيتها الشعرية؟ ومن الذي مدَّ هذه الأوعية إلى الجذع والأغصان والأوراق والثمار لتمدّها بالماء والغذاء؟!.. إنّه الله وحده لا شريك له سبحانه.
وقد واجهنا ذات مرة أحد الملحدين بسؤال أربكه: إنّ في التربة مواد عضويةٌ ومعدنيةٌ كثيرة إلى جانب الماء، وقلنا له بأنّه قد ثَبتَ علمياً بأن كل نوعٍ من الأشجار يمتص بعض هذه المواد المنحلَّة في التربة ولا يمتصُّ كافة هذه المواد، أي أنّ كل نوع من الثمار يختار من عناصر الأرض ما يناسبه وما يلزمه لبناء ثمره ويترك الباقي، لذلك فإننا نرى لكلِّ ثمرة طعماً ولوناً وحجماً ورائحةً وشكلاً مغايراً لباقي الثمار، فمنها الحلو ومنها الحامض ومنها المرُّ، ومنها الصغير ومنها الكبير، ومنها الأحمر ومنها الأصفر ومنها الأخضر، ومنها ذكيُّ الرائحة ومنها ما يفتقر إلى الرائحة... وهكذا. هذا كلّه ينبت وينتج من أشجار مزروعة في أرض واحدة، وتُسقى من نفس الماء، وتغذَّى بنفس السماد، وتتعرَّض لنفس الشمس، فما سرُّ هذا التفاوت العجيب بين هذه الثمار؟.
دُهش الملحد وفغر فاه وحاول إعمال مخِّه لإيجاد جواب يتناسب وأفكاره البالية، ولكن عقله خَذَلَهُ، وهذا أمر طبيعي لأنّه بعيد كل البعد عن روح الإسلام، ولم يشعر في يوم من الأيام بوجود الله، ولم يتأمَّل في قدرته وعظيم خلقه: (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (النمل/ 88).
إنّ الضلالة والجهل التي يتخبط في ظلامهما جعلاه لا يدرك ما يدور حوله من معجزات وآيات إلهية تنطق بعظمة الله وبوجوده سبحانه وتعالى، فلو كان لديه بعض الإدراك للاحظ بأنّ المشمش الذي يأكله على أنواع عديدة تشترك فيما بينها بالشكل الخارجي وبلونها المميَّز، ولكن لكل صنف طعم يميِّزه عن باقي الأصناف، وكذلك الأمر بالنسبة للتفاح والعنب والرمان ورطب النخل وكافة ثمار الأرض!.
لقد وجَّهنا نفس السؤال لشاب مسلم أنار الله قلبه وبصيرته بنور الإسلام فقال بأن وراء ذلك سرٌّ وإعجاز إلاهيين كان قد ذكّرنا الله بهما في كتابه الحكيم من خلال العديد من الآيات والتي منها الآية: (وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد/ 4)، والآية: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأنعام/ 99).
نعم إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون فيؤمنون، ولكن الإلحاد ذهب بعقول بعض الناس وبأحاسيسهم، وطمس على قلوبهم فغرقوا في ظلمات الكفر والفسوق والضلال: (قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) (عبس/ 17-19)، وقال جلّ جلاله: (أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (يس/ 77). نعم لقد خلقنا الله من ماء مهين لئلا نَفخَرَ ونتكبَّر، ثمّ صوّرنا فأحسن صورنا، وأسبغ علينا نِعَمَهُ ظاهرة وباطنة، وأنعم علينا بالعقل والفؤاد وبالسمع والبصر، ونعماً كثيرة لا تُعدُّ ولا تحصى: (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ) (الملك/ 23).
لقد سخَّر لنا الله سبحانه وتعالى الأرض بمراعيها وحيواناتها وثمارها وشجرها وخشبها وبحرها، وسخَّر لنا الشمس والقمر دائبين، وسخَّر لنا الرياح لواقح ولتدفع سفننا، وخلق لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، وجعل بيننا مودة ورحمة، وخلق نعماً كثيرة لا يمكن حصرها... ثمّ نحن بعد ذلك نتكبَّر على الله ونتغطرس ونتجبَّر، ونكفر نعمه وربوبيته، وهو (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى) (طه/ 53-54).
فلو كانت هذه المزروعات والأشجار والمراعي وما يدبُّ عليها من مواشٍ من صنع الإنسان البدائيِّ القديم، فإنّه لابدّ أنّه قد احتاج لإنجاز هذا الإبداع أمداً طويلاً، أمداً كافياً للقضاء عليه من الجوع والعطش. فلو لم يُهيِّئ الله الأرض لسكن الناس عليها قبل نزول آدم من الجنة، لانقرض الجنس البشري منذ ذلك الحين.. فسبحان الله رب العزَّة عما يصفون.

المصدر: كتاب وجود الله بالدليل العلمي والعقلي

ارسال التعليق

Top