• ٢ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٣ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

فحوى رسالة نوح (ع)

أحمد فائز الحمصي

فحوى رسالة نوح (ع)

الكتب المقدسة السابقة تجعل إدريس (ع) سابقاً لنوح. ولكن ما ورد في هذه الكتب لا يدخل في تكوين عقيدة المسلم، لشبهة التحريف والتزيد والإضافة إلى تلك الكتب.
والذي يتّجه إليه من يقرأ قصص الأنبياء في القرآن، أنّ نوحاً كان في فجر البشرية، وأن طول عمره الذي قضى منه ألف سنة إلا خمسين عاماً في دعوته لقومه، ولابدّ أنّهم كانوا طوال الأعمار بهذه النسبة.. انّ طول عمره وأعمار جيله هكذا يوحي بأنّ البشر كانوا ما يزالون قلة لم تتكاثر بعد كما تكاثرت في الأجيال التالية. وذلك قياساً على ما نراه من سنّة الله في الأحياء من طول العمر إذا قلّ العدد، كأنّ ذلك للتعويض والتعادل.. والله أعلم بذلك.. إنما هي نظرة في سنة الله وقياس!
وبعد تقرير مصدر الرسالة وتوكيده يذكر القرآن فحوى رسالة نوح في اختصار وهي الإنذار:
(أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (نوح/ 1).
والحالة التي كان قوم نوح قد انتهوا إليها، من إعراض واستكبار وعناد وضلال – كما تبرز من خلال الحساب الذي قدمه نوح في النهاية لربه – تجعل الإنذار هو أنسب ما تلخص به رسالته، وأول ما يفتتح به الدعوة لقومه، الإنذار بعذاب أليم في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما جميعاً.
ومن مشهد التكليف ينتقل السياق القرآني إلى مشهد التبليغ، البارز فيه هو الإنذار، مع الإطماع في المغفرة على ما وقع من الخطايا والذنوب؛ وتأجيل الحساب إلى الأجل المضروب في الآخرة للحساب؛ ومع ذلك مع البيان المجمل لأصول الدعوة التي يدعوهم إليها:
(قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (نوح/ 2-4).
(قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ).. مفصح عن نذارته، مبين عن حجته، لا يتمتم ولا يجمجم، ولا يتلعثم في دعوته، ولا يدع لبساً ولا غموضاً في حقيقة ما يدعو إليه، وفي حقيقة ما ينتظر المكذبين بدعوته: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (هود/ 25-26).
إنّها تكاد تكون الألفاظ ذاتها التي أُرسل بها محمد (ص) والتي تضمنها الكتاب الذي أُحكمت آياته ثمّ فصِّلت من لدن حكيم خبير. وهذه المقاربة في ألفاظ التعبير عن المعنى الرئيسي الواحد مقصودة في القرآن لتقرير وحدة الرسالة ووحدة العقيدة، حتى لتتوحد ألفاظ التعبير عن معانيها. وذلك مع تقدير أنّ المحكي هنا هو معنى ما قاله نوح (ع) لا ألفاظه. وهو الأرجح. فنحن لا ندري بأيّة لغة كان نوح يُعبِّر.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ).. والتعبير القرآني يُحيي المشهد فكأنّما هو واقعة حاضرة لا حكاية ماضية. وكأنّما يقول لهم الآن ونحن نشهد ونسمع. هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى أنّه يلخص وظيفة الرسالة كلها ويترجمها إلى حقيقة واحدة: (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ).. وهو أقوى في تحديد هدف الرسالة وإبرازه في وجدان السامعين.
و(لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) على سنة الله في إرسال كل رسول من قومه، وبلسانهم، تأليفاً لقلوب الذين لم تفسد فطرتهم، وتيسيراً على البشر في التفاهم والتعارف. وإن كان الذين فسدت فطرتهم يعجبون من هذه السنة، ولا يستجيبون، ويستكبرون أن يؤمنوا لبشر مثلهم، ويطلبون أن تبلغهم الملائكة! وإن هي إلا تعلة. وما كانوا ليستجيبوا إلى الهدى مهما جاءهم من أي طريق! ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه، فخاطبهم بتلك الكلمة التي جاء بها كل رسول: (فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (المؤمنون/ 23)، كلمة الحق التي لا تتبدل، يقوم عليها الوجود، ويشهد بها كل ما في الوجود (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (المؤمنون/ 23).
(اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)، فهي الكلمة التي لا تتغير، وهي قاعدة هذه العقيدة التي لا توجد إلا بها، وهي عماد الحياة الإنسانية الذي لا تقوم على غيره، وهي ضمان وحدة الوجهة ووحدة الهدف ووحدة الرباط. وهي الكفيل بتحرر البشر من العبودية للهوى، والعبودية لأمثالهم من العبيد. وبالاستعلاء على الشهوات كلها وعلى الوعد والوعيد.
وما يدعو إليه نوح بسيط واضح مستقيم: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) (نوح/ 3)، عبادة لله وحده بلا شريك. وتقوى لله تهيمن على الشعور والسلوك. وطاعة لرسوله تجعل أمره هو المصدر الذي يستمدون منه نظام الحياة وقواعد السلوك.
وفي هذه الخطوط العريضة تتلخص الديانة السماوية على الإطلاق. ثمّ تفترق بعد ذلك في التفصيل والتفريع. وفي مدى التصور وضخامته وعمقه وسعته وشموله وتناوله للجوانب المختلفة للوجود كله، وللوجود الإنساني في التفصيل والتفريع.
وعبادة الله وحده منهج كامل للحياة، يشمل تصور الإنسان لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية؛ ولحقيقة الصلة بين الخلق والخالق، ولحقيقة القوى والقيم في الكون وفي حياة الناس.. ومن ثمّ ينبثق نظام للحياة البشرية قائم على ذلك التصور، فيقوم منهج للحياة خاص. منهج رباني مرجعه إلى حقيقة الصلة بين العبودية والألوهية، وإلى القيم التي يقررها الله للأحياء والأشياء.
وتقوى الله.. هي الضمانة الحقيقية لاستقامة الناس على ذلك المنهج، وعدم التلفت عنه هنا أو هناك، وعدم الاحتيال عليه أو الالتواء في تنفيذه. كما أنّها هي مبعث الخلق الفاضل المنظور فيه إلى الله، بلا رياء ولا تظاهر ولا مماراة.
وطاعة الرسول.. هي الوسيلة للاستقامة على الطريق، وتلقّي الهدى من مصدره المتصل بالمصدر الأوّل للخلق والهداية، وبقاء الاتصال بالسماء عن طريق محطة الاستقبال المباشرة السليمة المضمونة!
فهذه الخطوط العريضة التي دعا نوح إليها قومه في فجر البشرية هي خلاصة دعوة الله في كل جيل بعده.
والقرآن الكريم يبلور مضمون الرسالة في حقيقة واضحة ناصعة (أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ)..
فهذا هو قوام الرسالة وقوام الإنذار. ولماذا؟
(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (هود/ 26)..
فيتم الإبلاغ ويتم الإنذار، في هذه الكلمات القصار.
واليوم ليس أليماً. إنّما هو مؤلم. والأليم – اسم مفعول أصله: مألوم – إنّما هو المألومون في ذلك اليوم. ولكن التعبير يختار هذه الصيغة هنا، لتصوير اليوم ذاته بأنّه محمل بالألم، شاعر به، فما بال مَن فيه؟ لقد قال نوح لقومه هذه القولة الواضحة، وأنذرهم عاقبة التكذيب بها في إشفاق الأخ الناصح لإخوانه، وفي صدق الرائد الناصح لأهله: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الأعراف/ 57).
وهنا نرى أنّ ديانة نوح.. أقدم الديانات.. كانت فيها عقيدة الآخرة. عقيدة الحساب والجزاء في يوم عظيم، يخاف نوح على قومه ما ينتظرهم فيه من عذاب.. وهكذا تتبين مفارقة منهج الله وتقريره في شأن العقيدة. ومناهج الخابطين في الظلام "من علماء الأديان" وأتباعهم الغافلين عن منهج القرآن.
ومن خلال عرض هذه الحلقة من حلقات الدعوة الإلهية على البشرية تتجلى حقيقة وحدة العقيدة، وثبات أصولها، وتأصيل جذورها. كما يتجلى ارتباطها بالكون وبإرادة الله وقدره، وأحداث الحياة الواقعة وفق قدر الله. وذلك من خلال دعوة نوح لقومه: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (نوح/ 2-4).
وفي حكاية قوله لهم: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا) (نوح/ 13-20).
ولإقرار هذه الحقيقة في نفوس المسلمين قيمته في شعورهم بحقيقة دعوتهم، وحقيقة نسبهم العريق! وحقيقة موكبهم المتصل من مطلع البشرية وحقيقة دورهم في إقرار هذه الدعوة والقيام عليها. وهي نهج الله القويم القديم. وقد وعد نوح قومه إذا استجابوا إلى دعوة الله رب العالمين، وما وعد به التائبين الثائبين: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (نوح/ 4).
وجزاء الاستجابة للدعوة إلى عبادته – سبحانه – وتقواه وطاعة رسوله هي المغفرة والتخليص من الذنوب التي سلفت.. تأخير الحساب إلى الأجل المضروب له في علم الله.. وهو اليوم الآخر.. وعدم الأخذ في عذاب الدنيا بعذاب الاستئصال. ثمّ بيَّن لهم أنّ ذلك الأجل المضروب حتمي يجيء في موعده، ولا يؤخّر عذاب الدنيا.. وذلك لتقرير هذه الحقيقة الاعتقادية الكبرى: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (نوح/ 4).
كما أنّ النص يحتمل أن يكون هذا تقريراً لكل أجل يضربه الله، ليقر في قلوبهم هذه الحقيقة بوجه عام بمناسبة الحديث عن الوعد بتأخير حسابهم – لو أطاعوا وأنابوا – إلى يوم الحساب.
وراح نوح (ع) يواصل جهوده النبيلة الخالصة الكريمة لهداية قومه، بلا مصلحة له، ولا منفعة ويحتمل في سبيل هذه الغاية ما يحتمل من إعراض واستكبار واستهزاء.. ألف سنة إلا خمسين عاماً..
ونمضي مع نوح في جهاده النبيل الطويل. فنجده يأخذ بقومه إلى آيات الله في أنفسهم وفي الكون من حولهم، وهو يعجب من استهتارهم وسوء أدبهم مع الله، وينكر عليهم ذلك الاستهتار:
(مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا) (نوح/ 13-14).
والأطوار التي يخاطب بها قوم نوح في ذلك الزمان لابدّ أن تكون أمراً يدركونه، أو أن يكون أحد مدلولاتها مما يملك أولئك القوم في ذلك الزمان أن يدركوه، ليرجوا من وراء تذكيرهم به أن يكون له في نفوسهم وقع مؤثر، يقودهم إلى الاستجابة. والذي عليه أكثر المفسرين أنّها الأطوار الجنينية من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى الهيكل إلى الخلق الكامل.. وهذا يمكن أن يدركه القوم إذا ذكر لهم. لأنّ الأجنّة التي تسقط قبل اكتمالها في الأرحام يمكن أن تعطيهم فكرة عن هذه الأطوار. وهذا أحد مدلولات هذه الآية. ويمكن أن يكون مدلولها ما يقوله علم الأجنّة. ومن أنّ الجنين في أوّل أمره يشبه حيوان الخلية الواحدة؛ ثمّ بعد فترة من الحمل يمثل الجنين شبه الحيوان المتعدد الخلايا. ثمّ يأخذ شكل حيوان مائي. ثمّ شكل حيوان ثديي. ثمّ شكل المخلوق الإنساني.. وهذا أبعد عن إدراك قوم نوح. فقد كشف هذا حديثاً جدّاً. وقد يكون هذا هو مدلول قوله تعالى في موضع آخر بعد ذكر أطوار الجنين: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون/ 14).
كما أنّ هذا النص وذاك قد تكون لهما مدلولات أخرى ثمّ تتكشف للعلم بعد.. ولا نقيدهما..
وعلى أيّة حال فقد وجّه نوح قومه إلى النظر في أنفسهم، وأنكر عليهم أن يكون الله خلقهم أطواراً، ثمّ هم بعد ذلك لا يستشعرون في أنفسهم توقيراً للجليل الذي خلقهم.. وهذا أعجب وأنكر ما يقع من مخلوق!
كذلك وجههم إلى كتاب الكون المفتوح:
(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) (نوح/ 15-16).
والسماوات السبع لا يمكن حصرها في مدلول ممّا تقول به الفروض العلمية في التعريف بالكون. فهي كله مجرد فروض. إنّما وجّه نوح قومه إلى السماء وأخبرهم – كما علَّمه الله – أنّها سبع طباق. فيهنَّ القمر نور وفيهنّ الشمس سراج. وهم يرون القمر ويرون الشمس، ويرون ما يطلق عليه اسم السماء. وهو هذا الفضاء ذو اللون الأزرق. أما ما هو؟ فلم يكن ذلك مطلوباً منهم. ولم يجزم أحد إلى اليوم بشيء في هذا الشأن..
وهذا التوجيه يكفي لإثارة التطلع والتدبر فيما وراء هذه الخلائق الهائلة من قدرة مبدعة.. وهذا هو المقصود من ذلك التوجيه.
ثمّ عاد نوح فوجَّه قومه إلى النظر في نشأتهم من الأرض وعودتهم إليها بالموت ليقرر لهم حقيقة إخراجهم منها بالبعث: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) (نوح/ 17-18)، والتعبير عن نشأة الإنسان من الأرض بالإنبات تعبير عجيب موح. وهو يكرر في القرآن في صور شتّى. كقوله تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا) (الأعراف/ 58)..
وهو يشير في هذا إلى نشأة الناس كنشأة النبات. كما يقرن نشأة الإنسان بنشأة النبات في مواضع متفرقة: ففي سورة الحج يجمع بينهما في آية واحدة في صدد البرهة على حقيقة البعث فيقول:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج/ 5).
وفي سورة "المؤمنون" يذكر أطوار النشأة الجنينية قريباً ممّا ذكرت في سورة الحج ويجيء بعدها:
(فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) (المؤمنون/ 19).. وهكذا.
وهي ظاهرة تستدعي النظر ولا ريب. فهي توحي بالوحدة بين أثول الحياة على وجه الأرض، وأنّ نشأة الإنسان من الأرض كنشأة النبات. من عناصرها الأولية يتكون. ومن عناصرها الأولية يتغذّى وينمو، فهو نبات من نباتها. وهبه الله هذا اللون من الحياة كما وهب النبات ذلك اللون من الحياة. وكلاهما من نتاج الأرض، وكلاهما يرضع من هذه الأُم!
وكذلك ينشىء الإيمان في المؤمن تصوراً حقيقياً حيّاً لعلاقته بالأرض وبالأحياء. تصوراً فيه دقة العلم وفيه حيوية الشعور. لأنّه قائم على الحقيقة الحية في الضمير. وهذه ميزة المعرفة القرآنية الفريدة.
والناس الذين نبتوا من الأرض يعودون إلى جوفها مرّة أخرى. يعيدهم الله إليها كما أنبتهم منها. فيختلط رفاتهم بتربتها، وتندمج ذراتهم في ذراتها، كما كانوا فيها من قبل أن ينبتوا منها! ثمّ يخرجهم الذي خلقهم أوّل مرّة؛ وينبتهم كما أنبتهم أوّل مرة.. مسألة سهلة يسيرة لا تستدعي التوقف عندها لحظة، حين ينظر الإنسان إليها من هذه الزاوية التي يعرضها القرآن منها!
ونوح (ع) وجه قومه إلى هذه الحقيقة لتستشعر قلوبهم يد الله وهي تنبتهم من هذه الأرض نباتاً، وهي تعيدهم فيها مرة أخرى. ثمّ تتوقع النشأة الأخرى وتحسب حسابها، وهي كائنة بهذا اليسر وبهذه البساطة. بساطة البداهة التي لا تقبل جدلاً!
وأخيراً وجّه نوح قلوب قومه إلى نعمة الله عليهم في تيسير الحياة لهم على هذه الأرض وتذليلها لسيرهم ومعاشهم وانتقالهم وطرائق حياتهم: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا) (نوح/ 19-20).
وهذه الحقيقة القريبة من مشاهدتهم وإدراكهم تواجههم مواجهة كاملة، ولا يملكون الفرار منها كما كانوا يفرون من صوت نوح وإنذاره. فهذه الأرض بالقياس إليهم مبسوطة ممهدة – حتى جبالها قد جعل لهم عبرها دروباً وفجاجاً، كما جعل في سهولها من باب أولى. وفي سبلها ودروبها يمشون ويركبون وينتقلون؛ ويبتغون من فضل الله، ويتعايشون في يسر وتبادل للمنافع والأرزاق.
وهم كانوا يدركون هذه الحقيقة المشاهدة لهم بدون حاجة إلى دراسات علمية عويصة، يدرسون بها النواميس التي تحكم وجودهم على هذه الأرض، وتيسر لهم الحياة فيها. وكلّما زاد الإنسان علماً أدرك من هذه الحقيقة جوانب جديدة وآفاقاً بعيدة.
وهكذا يمضي نوح (ع) مع قومه في بيان حقيقة الألوهية لتستقر في القلوب في جولة في ملكوت المالك. تظهر فيها لكم أحد مظاهر الهيمنة المتصرفة في الملك، وللقدرة التي لا يقيدها قيد.. يوجههم إلى خلق الله، في السماوات والأرض..
والذي يعرف شيئاً عن طبيعة هذا الكون ونظامه – كما كشف العلم الحديث عن جوانب منها – يدركه الدهش والذهول. ولكن روعة الكون لا تحتاج إلى هذا العلم. فمن نعمة الله على البشر أن أودعهم القدرة على التجاوب مع هذا الكون بمجرد النظر والتأمل؛ فالقلب يتلقّى إيقاعات هذا الكون الهائل الجميل تلقياً مباشراً حين يتفتح ويستشرف. ثمّ يتجاوب مع هذه الإيقاعات تجاوب الحي مع الحي؛ قبل أن يعلم بفكره وبأرصاده شيئاً عن هذا الخلق الهائل العجيب.
ومن ثمّ يكل الله الناس إلى النظر في هذا الكون، وإلى تملي مشاهده وعجائبه. ذلك أنّ رُسلَ الله تخاطب الناس جميعاً، وفي كل عصر. تخاطب ساكن الغابة وساكن الصحراء. كما تخاطب ساكن المدينة ورائد البحار. تخاطب الأمي الذي لم يقرأ ولم يخط حرفاً، كما تخاطب العالم الفلكي والعالم الطبيعي والعالم النظري سواء. وكل واحد من هؤلاء يجد ما يصله بهذا الكون، وما يشير في قلبه التأمل والاستجابة والمتاع.
لقد عرض نوح حقيقة الألوهية ممثلة في خلق السماوات والأرض.. وخَلْق الإنسان أطواراً. وخَلْق سبع سماوات طبقاً، وجعل القمر فيهنّ نوراً، وجعل الشمس سراجاً، ونشأة الإنسان من الأرض وعودته إليها، وإنشاء الجنّات من نخيل وأعناب..
إنّ قوم نوح المخاطبين بهذه البيانات الواضحة، لم يكن لديهم من المعرفة العلمية بما في السماوات والأرض إلا القليل. ولكنّ الحقيقة الواقعة التي أشرنا إليها، هي أنّ بين الفطرة البشرية وبين هذا الكون الذي نعيش فيه لغة خفية غنية! وأنّ هذه الفطرة تسمع لهذا الكون – حين تتفتح وتستيقظ – وتسمع منه الكثير!

المصدر: كتاب قصص الرحمن في ظلال القرآن

ارسال التعليق

Top