1- العولمة والأخلاق: * العولمة ظاهرة كونية أو طفرة حضارية نتجت عن التقدم العلمي والتقني، خاصة في مجالات المعلوماتية والاتصال والإعلام، وكان ذلك يسير بالتوازي مع تطور الإنتاج الاقتصادي ووسائله، وازدهار التجارة وتراكم الأموال، وإنفاق الأموال في مجال البحوث العلمية والتطبيقات التكنولوجية في جميع ميادين الحياة، فأصبت التقنية المتطورة إحدى أبرز الخصائص التي يختص بها عصرنا بالمقارنة مع العصور السابقة، تغيرت شبكة العلاقات بين سكان المعمورة، وبين الإنسان وذاته، وبين الإنسان التاريخ والطبيعة والكون، وبين الفرد والمجتمع، رافقت التطور التقني والمادي مفاهيم عديدة جديدة أصبحت متداولة، مفاهيم حول الإنسان والكون والحياة والزمان والمكان والفرد والمجتمع والهوية والسلطة والاقتصاد والسياسة والثقافة والأخلاق والدين والعلم وغيره، ارتبطت العولمة بهذه المفاهيم وبغيرها، وعولمتها جميعا، "عولمة الزمان، كونية المكان، رمزية العمل، عمال المعرفة، وحدة السوق، التجارة الإلكترونية، القيمة المضافة، الطريق السريع للإعلام، الثورة العددية، الطوائف السبرانية، المدينة العالمية، سوق النظر، الميدياء، عولمة الأنا، اختراق الهويات، تداخل الكوني المحلي".[1] ذلك ما ميّز المجتمع الإنساني العالمي في عصر العولمة، وجاءت قراءة ذلك في الخطاب الثقافي والفكري والسياسي والأيديولوجي متعددة ومتباينة، بين الخصوم والأنصار، بين التأييد والقبول والمعارضة والرفض، وصفها "علي حرب" بقوله: "كيف تُستقبل العولمة في الخطاب الثقافي لدى الدعاة والحماة؟ إنها تُقرأ قراءة خلقية مثالية أو قراءة إيديولوجية نضالية، من خلال ثنائية الأنا والآخر، أو الخير والشر، وذلك عبر هوامات الهوية وتهويمات الحرية أو أطياف العدالة والمساواة. هذا ما نجده بنوع خاص لدى المثقفين العرب والفرنسيين الذين يتحدثون عن العولمة والتلفزة بلغة الصدمة والإحباط أو الغضب واللعنة. والقراءة الإيديولوجية هي قراءة وحيدة الجانب تقوم على التبسيط والاختزال، وذلك حيث تُقرأ العولمة بتعابير التمركز والهيمنة، أو السوق والسلعة، أو الاستعمار والرأسمالية، أو الاختراق والاغتصاب، أو الغزو والاكتساح".[2] * إن قراءات الفكر المعاصر العربي والغربي للعولمة التي تتوزع على نوعين: مؤيدة للعولمة وحامية من جهة، ومعارضة ومناوئة من جهة أخرى، كلها مستمدة مما يتصل بالعولمة وما انبثق عنها في حياة الإنسان من جميع جوانبها، من جانب إيديولوجيا العولمة وأخلاقها وثقافتها وفلسفتها، ومن حيث مجتمع العولمة من كافة نواحيه، العولمة من جانب الفكر والنظر من جهة ومن جانب السلوك والممارسة من جهة ثانية ومن جانب المركب الجامع بين الفكر والممارسة معا من جهة أخرى، كل من القراءتين تستند إلى ما تقوم عليها العولمة في الجوانب الثلاثة المذكورة، وإلى مظاهرها وإفرازاتها وانعكاساتها وتداعياتها على الوجود الإنساني والكوني عامة، إنّ التعارض بين القراءتين، والاختلاف بين الرؤى داخل منظور الدعاة والأنصار أو بين المواقف داخل منظور الخصوم والمعارضين يكس مدى التعقيد في إيديولوجيا العولمة وفلسفتها وواقعها، ويعبر بجلاء عن درجة تناقض وتعارض فلسفة العولمة وخطابها الإيديولوجي وبيانها النظري والسياسي مع ممارساتها في الواقع، والحقيقة تكشف عنها الممارسات التي تصدر عن البلدان العظمى التي تروج للعولمة والنظام العالمي، وهي ممارسات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وغيرها تقوم بها المؤسسات والشركات المدنية والعسكرية التي تنشر العولمة، من خلالها تنتهك حرمة الإنسانية في أخلاقها وعقائدها وثقافاتها وفي حقوقها المدنية والسياسية والاجتماعية عامة. * ولعل أسوء حال عليه العولمة كونها تنطوي على التناقض المذموم بين ما تقول وما تفعل، فالكذب الإيديولوجي والسياسي يضع الإنسان والحضارة في مأزق التوتر الدائم، المؤدي إلى الانفصام الحضاري والتمزق الاجتماعي والانحلال الأخلاقي والثقافي، والتراجع والضعف والفساد الاقتصادي، والتهور العسكري والحربي، هذا بسبب انتفاء الثقة بين بني البشر، ونماء خوف الجميع من الجميع، لأن الجميع يصبح ضد الجميع، هو الذي ينطبق على شعوب ودول العالم المعاصر، ترفع العولمة ونظامها شعارات سامية منها حماية الحرية عامة وصون الحريات الأساسية الفردية والجماعية في جميع أنحاء العالم، من دون النظر إلى عرق أو لون أو دين أو اتجاه سياسي أو أي انتماء طائفي. نشر الديمقراطية الليبرالية وضمنها التعددية السياسية التي تسمح للجميع من دون تمييز المشاركة الفعالة والإيجابية في السلطة، وفي إدارة دواليب الحكم في الدولة الحديثة والمعاصرة. حماية سائر حقوق الإنسان المدنية والسياسية، حق السكن وحق التعليم وحق العمل وحق حرية المعتقد والتدين والاستطباب والعلاج وحق الانتخاب وغيرها من الحقوق التي لا تستقيم الحياة الكريمة إلاّ بها. نقل العلم والتكنولوجيا إلى مختلف أنحاء العالم، فلكل إنسان الحق في الاستفادة من العلوم المتقدمة والتكنولوجيا المتطورة التي عرفها العصر. المحافظة على البيئة من سائر الأنشطة والإفرازات التي من شأنها تلحق الضرر بالبيئة والأرض وفضائها، مثل التلوث من جراء الأنشطة الصناعية واستعمال منتجات الصناعة في كافة مجلات الحياة مثل النقل والأشغال الكبرى ونشاطات التسلح بمختلف أنواعه. الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل ذات الإفرازات الضارة خلال وبعد إنتاجها وقبل استعمالها. صون كرامة الإنسان وحمايتها من كل ما يخدشها أو يطعن فيها، بالمحافظة على الوجود الإنساني الفردي والاجتماعي من السوء في المعاملة ومن التعدي على حقوقه وانتهاكها. هذه الشعارات مفصلة وغيرها كثير تتضمنها سائر دساتير ومواثيق الهيئات والمنظمات العالمية، السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية والعسكرية الحكومية وغير الحكومية، ومنها هيئة الأمم المتحدة الراعي الأول لإعداد وتطبيق ومتابعة ومراقبة النظام العالمي والعولمة في العالم، ومن وراء هيئة الأمم المتحدة تعمل الدول الكبرى التي تتمتع بحق الفيتو أو حق النقد على تنفيذ العولمة والنظام العالمي من منطلق الشرعية الدولية، وباسم هيئة الأمم المتحدة بجميع فروعها واختصاصاتها، فشعارات العولمة ومبادئها المنصوص عليها تجري بمقتضى ما تمليه دول المركز بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت نتيجة ذلك الأكذوبة السياسية والإيديولوجية المفضوحة والأزمة الأخلاقية، وضحية هذه الأكذوبة والأزمة خُمس سكان الكرة الأرضية، لا يعرفون الراحة ولا يهدأ لهم بال في أتون التخلف والانحطاط، هذا التخلف الذي باركته العولمة وكرّسه النظام العالمي، ولم تسمح العولمة راعية قيم الحداثة والحضارة المعاصرة للآخرين غير أصحابها إلا بحسن الإصغاء والتفرج والعيش على الفتات الحضاري والصوري، وبكل ما من شأنه يعزز تبعيتهم في منتهاها للعولمة والغرب والأمركة. * إن المبادئ والشعارات التي رفعتها العولمة ونادى بها النظام العالمي في مجملها أخلاقية سامية ومثلى، بحيث عرفها الإنسان منذ القديم واستحسنها العقل، وأيدتها جميع الديانات والشرائع السماوية وغيرها، وقامت عليها سائر النظم والقوانين التي عرفها الإنسان، كما تأسست عليها كافة الحضارات المتعاقبة عبر تاريخ الإنسانية الطويل. فالحرية قيمة إنسانية مرتبطة بأرقي ما يملكه الوجود الإنساني العقل والإرادة، هي شرط حركة التاريخ وبناء المجتمع الإنساني وتشييد الحضارة، تعبث بها العولمة، ويفرض النظام العالمي باسم الشرعية الدولية وفي إطار الأزمة الأخلاقية والتناقض بين خطاب العولمة وسلوك أصحابها وممارساتهم كل أنواع القيود السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية وغيرها مما نعلم ومما لا نعلم على الدول وشعوبها خارج المركز، الأمر الذي أغرق تلك الشعوب في التخلف والتدهور وأفقدها وسائل وسبل التنمية. أما الديمقراطية الليبرالية والتعددية السياسية نهج ومسار تسجل فيه الشعوب حضورها السياسي والاجتماعي في الدولة، من خلال مشاركة قوية وإيجابية تضمن الأمن والاستقرار والسلم في المجتمع الذي ليس له أن يستمر ويتطور ويزدهر إلاّ بها، الديمقراطية يفرضها دعاة العولمة بالقوة في العالم ناسبت قيم المجتمع أم لم تناسبه، وتجري خارج بلدان المركز بكيفية صورية بحتة لغياب الجو المناسب لتطبيقها، خاصة في بلدان العالم الثالث التي لديها ترسانة متراكمة من الأنظمة الاستبدادية التي تعيش على الانقلابات العسكرية وتوريث الحكم الملكي والجمهوري الرئاسي على السواء، فلا مكان للديمقراطية والتعددية السياسية في هذه البلدان سوى الحديث عنها والتغني بها، وممارستها عن جهل وبكيفية شكلية صرفة، لإيهام الغير بالتمسك بالتوجه الديمقراطي في الداخل للتقليل من ضغط المعارضة والحد من شدة الاحتجاجات، وفي الخارج لنيل رضا الأقوياء وعطفهم ومساعداتهم، وكل ذلك للبقاء مدة أطول في السلطة، لأن الحاكم في هذه البلدان تكون في معظم الحالات نهايته سيئة ووخيمة، كالانقلاب عليه وعزله، أو اغتياله والتخلص منه، أو فراره أو نفيه وذلك أخف الأضرار. * يكثر الحديث في البلدان المتقدمة والمتخلفة على السواء عن حقوق الإنسان، الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية عامة، وفي سياق أزمة العولمة الأخلاقية داخل المجتمعات الغربية والمجمع الأمريكي نجد في الخطب السياسية في مختلف المناسبات الإشادة والتنويه بالإنجازات المتحققة في ميدان حقوق الإنسان، والتنديد بالممارسات والأوضاع التي تعيشها الشعوب الأخرى وتنتهك فيها هذه الحقوق، والحقيقة أن القوى الكبرى التي تفرض النظام العالمي تكيل بمكيالين، مكيال في حق شعوبها يضمن لها الأمن وظروف العيش الكريم، ومكيال خاص بالشعوب الأخرى يحرمها من حقوقها الأساسية والأولية البيولوجية، يحرمها من الحق في الغذاء والماء والهواء والكساء والإيواء، ليس لها الحق في طلب الحقوق الأخرى المدنية والسياسية التي صارت أولية وأساسية من حيث الأولوية لدى شعوب العالم المتقدم، بينما تعيش الشعوب المتخلفة كل صنوف الحرمان، المجاعة والفقر والجهل والمرض والتشرد وضياع الأطفال والمسنين وغياب أدنى شروط الرعاية الاجتماعية الصحية والتربوية وغيرها. أما بالنسبة لشعار تمكين شعوب العالم من قيم الحداثة العالمية، فلم تر هذه الشعوب في أطراف المركز سوى شكل هذه القيم وظاهرها، ولم تشهد مضامينها ودلالاتها، لأن ظروفها لا تسمح لها بذلك من جهة، ولاحتكارها من منتجيها من جهة أخرى، ويتعلق الأمر بالنسبة لقيم الحداثة والتحديث بالقيم السياسية والعلمية والتقنية والمدنية وغيرها، والأمر نفسه مع نقل العلم والتكنولوجيا، بحيث ترفع العولمة شعار ضرورة استفادة العالم أجمع من منتجات البحوث العلمية والتطبيقات التكنولوجية المتطورة، من منطلق العلم والتقنية ملك الجميع وليسا حكرا على أحد، لكن ما تمارسه شيئا آخر، فالبلدان الكبرى تحتكر لنفسها وبصورة كاملة أي تقدم وازدهار في المجال العلمي أو أي تطور وابتكار في مجال التكنولوجيا، وتقوم بتصدير التكنولوجيا الأضعف والأقدم لمن ترضى عنهم، مع استعمال أساليب ووسائل فيها من الشروط ما يجعلهم دوما في تبعية تكنولوجية لها ولتكنولوجيتها الأقل تطور بالمقارنة مع تكنولوجيتها المتطورة جدا، واستخدام التكنولوجية الغربية من طرف الشعوب التي لا تنتجها ولو بإفراط مثلما هو الحال في دول الخليج العربي، والأمر يعود إلى البترول، فإن الاستخدام المفرط لتقنية الغير لا يجدي نفعا مادامت مستوردة من الخارج، ومادامت تكرس التبعية الاقتصادية والسياسية له، وينتهي استيرادها وتنضب فور نضوب مصدر المال الذي به يُحصل عليها، فالتطور العلمي والتكنولوجي أخلّ بنظام التوازن في العالم من حيث معدل المعيشة والدخل الفردي، فمعدل الدخل الفردي في بلد كالولايات المتحدة الأمريكية يفوق معدل الدخل الفردي في بلد فقير كالصومال أو أثيوبيا بمئات المرات، وصار العالم موزع على قسمين، قسم يملك التكنولوجيا والتنمية والرفاهية وأهله يموتون من السمنة والتخمة، وقسم آخر يحتكر الفقر والحرمان والتخلف وأصحابه يموتون في معارك الجهل والجوع والمرض والحروب المجانية. * أما عن حماية البيئة من الأخطار، فإن كوكب الأرض بأكمله صار في خطر وليس البيئة فقط، بسبب ظاهرة التلوث التي استفحل شرها مع التزايد المستمر في التصنيع واستعمال المنتجات الصناعية، واستهلاك الطاقة بمختلف أنواعها بأقصى ما يمكن، الأمر الذي أدى ويؤدي إلى تسمم عناصر المجال الحيوي، من هواء وماء وفساد التربة، والاستهلاك المفرط للطاقة، وتسمم البحار، وحرق الغابات رئة البيئة وقلبها النابض بالحياة، وثقب طبقة الأوزون وغيرها من الأضرار التي لحقت بالطبيعة والإنسان، ومما زاد ويزيد الأمر خطورة السباق نحو التسلح بصفة عامة والتسلح النووي بصفة خاصة، التسلح بصفة عامة والفائض في الإنتاج الحربي يُسوق من خلال إشعال حروب إتنية وطائفية مجانية، وفي هذا تبلغ الأزمة الإنسانية الأخلاقية ذروتها، بحيث صارت المتاجرة في الأرواح والأنفس من غير شفقة أو رحمة وفي حالة الموت التام للضمير الإنساني حرفة تدرّ الربح الوفير على أصحابها في عصر العولمة، أين يتغنى الجميع بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويضع التسلح النووي وأسلحة الدمار الشامل العالم أجمع والكرة الأرضية في خطر الزوال والدمار في أي وقت من الأوقات يغضب فيه الإنسان ويتهور في حالة حرب أو سلم، فيفجر الأرض تفجيرا نوويا كاملا يؤدي إلى نهاية العالم، ليس كما تصور فوكوياما في أطروحته نهاية التاريخ والإنسان الأخير، بل نهاية العالم والعولمة والنظام العالمي، وزوال عالم القوى المهيمنة بقيادة الولايات المتحدة، لكن الأقوياء ونظرا لما سببوه للعالم وللشعوب في الأطراف من هموم ومشكلات يحتكرون التسلح النووي والأنشطة النووية السلمية، ذلك خوفا من ردة فعل الضعفاء وانتقامهم، وصارت الأمم والدول تراهن على القوة النووية العسكرية والسلمية لفرض وجودها ونيل احترام الآخرين لها لأن عالم العولمة لا يعترف إلا بالأقوياء والأغنياء، في حين أن الطبيعة البشرية الاجتماعية فيها الغنى والفقر والقوة والضعف والربح والخسارة والنجاح والإخفاق والعولمة لا تعترف إلا بالقوة، الأمر الذي جعل الساحة العالمية ساحة للسباق نحو التسلح والتسلح النووي، فأصبح الخوف من الجميع والاستعداد للحرب ضد الجميع، سيطرة قانون الغاب، وتحكم مقولة الفيلسوف الألماني الشهير "سبينوزا" "السمك الصغير له الحق في أن يسبح والسمك الكبير له الحق في أن يأكل"، امتهنت العولمة كرامة الإنسان في عالم الأطراف، وقضت على إنسانيته، فالطبيعة والحيوان ومخلوقات أخرى تنال حقوقها الأساسية والكمالية كاملة غير منقوصة، في الوقت الذي يُحرم آخرون من الحق في الغذاء والحياة، من الحق في التفكير والتعبير، من الحق في الموت بشرف. * إن الأزمة الأخلاقية التي يعاني منها الإنسان في العالم المعاصر ترتبت عن التناقض بين القول والفعل لدى دعاة العولمة ومنفذيها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، فممارساتها "تتسم بالأخلاقية والإنسانية، فلا مراعاة لحقوق الإنسان الأساسية: حق الحياة والملكية والتعبير، ولا مراعاة لمصالح الشعوب الضعيف اقتصاديا، ولا مراعاة لتحقيق العدالة وإعطاء الحقوق المغتصبة لأصحابها، ولما كانت هذه هي طبيعة "الحال الواقعة" للعولمة، فهي إذن ليست "عولمة" بمعنى ذا الطابع الأخلاقي والإنساني الذي يروج له خطابها النظري ومن ثم فهو خطاب وهمي تنفيه وتنقضه الممارسات القائمة على أرض الواقع".[3] انتبه الكثير من المفكرين من العرب والغربيين الذين روجوا للعولمة إلى مخاطرها على العالم خاصة العالم المتخلف، وعلى حقوق الإنسان فيه، وأنها شكل من أشكال الاستعمار تفرض هيمنة القوى العظمى على العالم ولا تراعي سوى مصالحها، فهذا أحد المفكرين العرب يصرح بأن العولمة ضرب من الاستعمار بعدما كان يرى بأنها سبيل لتوحيد الجنس البشري تحت راية واحدة هي الكوكبية، لكن منظوره للعولمة تبدل "سرعان ما تبين له من خلال التعمق في قراءة الملامح الراهنة للنظام العالمي المتغير أننا بصدد معارك كبرى إيديولوجية وسياسية واقتصادية وثقافية من الصعب التنبؤ بنتائجها النهائية لأن المسألة ستتوقف على قدرة نضال الشعوب على مواجهة العملية الكبرى التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية تحت شعار العولمة لإعادة إنتاج نظام الهيمنة القديم".[4] الأمر الذي جعل بعض المفكرين يربطون العولمة بالزمن ويعتبرونها مجرد مرحلة تاريخية أو حقبة يعرفها العالم وتمضي كغيرها من الحقب التاريخية، على عكس ما ذهب فيه دعاتها من كونها تنتصر على الجميع وتمثل نهاية التاريخ، كما تمثل المدخل إلى ما بعد التاريخ وإلى ما بعد العولمة، فهي "حقبة تاريخية محددة أكثر منها ظاهرة اجتماعية أو إطارا نظريا وهي في نظرهم تبدأ بشكل عام منذ بداية ما عرف بسياسة الوفاق التي سادت في الستينيات بين القطبين المتصارعين في النظام الدولي آنذاك إلى أن انتهى هذا الصراع والذي يرمز له انهيار حائط برلين الشهير ونهاية الحرب الباردة وهذا التعريف يقوم على الزمن باعتباره العنصر الحاسم...فالعولمة في نظر أصحاب هذا الرأي هي المرحلة التي تعقب الحرب الباردة من الناحية التاريخية ومصطلح العولمة مثله مثل مصطلح الحرب الباردة الذي سبقه يؤدي دوره كحد زمني لوصف سياق تحدث فيه الأحداث كأن يقال مثلا أننا نعيش في عصر العولمة لتبرير أو فهم سياسات معينة اقتصادية أو سياسية أو ثقافية...وهي وفق هذا التعريف يمكن اعتبارها حقبة تاريخية بالمعنى الذي سبق أن وصفت به الفاشية باعتبارها حقبة تاريخية أكثر منها نظاما سياسيا".[5] هذا الوصف يُفقد العولمة الشرعية الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، ويعتبرها مجرد حقبة زمنية تُنعت بما يُنعت به الاستعمار الحديث وجرائمه، وتوصف بما توصف به النازية أو الفاشية أو أي حقبة تاريخية عرفها الإنسان وشهدت أشكال الظلم والعدوان التي مارسها الإنسان ضد أخيه الإنسان، لا لسبب سوى لكونه قويا وفي مركز الغلبة والمنعة والآخر في مركز الضعف والهوان، ورغبة في التسلط وابتغاء الهيمنة. * إن الأزمات التي أفرزتها العولمة وممارسات الدول ذات الأنظمة الطاغية والمتجبرة التي لا تعير أدنى اهتمام لمكارم الأخلاق ولا للقيم الدينية التي ترعى المصلحة العامة، زادت القوى المهيمنة المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الذين "سيتشبثون بكل قوة بما حققوه من منجزات علمية وثقافية ومن هيمنة على رأس المال وهيمنة على وسائل الاتصال العظيمة والإشراف المباشر على جميع المؤسسات الدولية ما وصلوا إليه من هيمنة على إدارة الاقتصاد الكوني والتي سيستخدمونها في تحقيق أهدافهم الإستراتيجية في الهيمنة على العالم، وهم مستعدون للدفاع على هذه المكاسب التي حققوها خلال العقود الماضية، بكل الوسائل وهم مستعدون لاستخدام القوة العسكرية وحتى أسلحة الدمار الشامل من أجل الحفاظ على المكانة القيادية التي يتمتعون بها منذ الحرب العالمية الثانية وبنفس الوقت فهم لا يكترثون بقتل ملايين من البشر من أجل الحفاظ على مكاسبهم المادية، هذه هي طبيعة المنظومة الرأسمالية وهذا هو جوهرها".[6]المنظومة الرأسمالية العلمانية المبعدة لكل ما هو مقدس أخلاقي أو ديني، وحتي القيم العلمية والتكنولوجية والاجتماعية في روحها وجوهرها أخلاقية، لأن قيم الحداثة خارج الإيديولوجية الغربية تنفع الجميع وصالحة في الزمان والمكان، أما في سياق الإيديولوجية الغربية والأمريكية فهي صالحة في الغرب الأوربي والأمريكي فقط، وقوى المركز تحتكر قيم الحداثة و"أن أي نظرة موضوعية لطبيعة التناقضات القائمة الاقتصادية والسياسية والحضارية على الساحة الكونية تنبأنا بتفاقم هذه التناقضات بالشكل والكيفية والمستوى الذي يجعل من وقوع حرب كونية وارد في الحسابات، بعد تفهم عميق لطبيعة تكوين النظام الرأسمالي الذي تقوده أمريكا والصهيونية العالمية، خاصة إذا شعرت أمريكا بأن خطر انهيارها أصبح وشيكا وأنّ حل أزماتها لا يمكن أن يتم إلا من خلال تصدير هذه الأزمة إلى خارج حدودها...وبالإضافة إلى ذلك ولكون العولمة لها مخاطر وتحديات ليس على المستوى الاقتصادي فحسب وإنما على المستوى العلمي والثقافي والتقاني والحضاري فهي تحتوي على تحديات شمولية ومعقدة التركيب وانطلاقا من المبادئ القومية والإنسانية تم طرح مشروع إنشاء تجمع مؤسسي يشمل جميع الدول النامية الراغبة في المشاركة بهذا التجمع الاقتصادي الهدف منه هو مواجهة العولمة الأمريكية هذه العولمة التي تحاول غزو العالم بجميع الوسائل حتى العسكرية من أجل تعميم نمط الحياة الأمريكية على الكوكب".[7]فالحاجة إلى التكتل الإقليمي والدولي في العالم المتخلف صارت أكثر من ضرورة، نظرا لما تقوم به الأمركة والصهيونية من ممارسات يندى لها الجبين في فلسطين والعراق وأفغانستان وفي غيرها من مناطق العالم، سواء في انتهاك حقوق الإنسان المدنية والسياسية وعلى حق الحياة بالذات، أو نهب ثرواته واستغلال طاقاته إلى أبعد الحدود. * إنّ الأخلاق التي يركز عليها النظام العالمي وتستند إليها العولمة كما أرادتها الأمركة الصهيونية تنبذ الآخر الذي لا يملك التقدم العلمي والتكنولوجي الذي جعل العالم المتقدم بقيادة أمريكا على ما هو عليه، مثل الشعوب الغابرة التي عرفت حضارات راقية نمت وازدهرت ثم توقفت وانتهى أمرها، مثل الحضارات الشرقية القديمة والحضارة اليونانية والحضارة الإسلامية وغيرها، وهي حضارات- كما هو ثابت في التاريخ- قامت على العالمية ومن منطلق الأخذ والعطاء والتبادل الثقافي والعلمي، لا من منطلق الهيمنة وسحق الآخر ثقافيا اقتصاديا وعسكريا، لا لسبب سوى لكونه ضعيفا ولرغبة القوي في التسلط وممارسة القهر، إنّ النظام العالمي "نظام معاد للإنسان. إن دعوة النظام العالمي الجديد لنشر الديمقراطية في أرجاء العالم لا تهدف إلى تمكين الجماهير من التحكم في مصيرها وإنما هي أداته في فتح الحدود وإضعاف الدول القومية، حتى يتسنى له ترشيد البشر. ولكن هذه الدعوة كانت لا تزال ليخفي بها مخططات بسط السيطرة على الشعوب والاستيلاء على ثرواتها. ومن جهة أخرى، تصور الديمقراطية التي تسوق لها أمريكا من سوق حرة، تصور "دينا" جديدا لا يمكن للإنسان أن يجد حقوقه خارجها...فالغرب يصفنا بالتخلف فيما هو يريد لنا أن نبقى كذلك، أو يتهمنا بالإرهاب ولكنه لا يحملنا إلا على ممارسته. إنه يخلق مجتمعات غير متكافئة، يقصد من خلالها الطرف الأقوى إخضاع الآخر إلى تبعية اقتصادية وسياسية وعلمية وفكرية وثقافية، ويحوله إلى موضوع حمّال لكل مظاهر النقص والقصور والتخلف، وبذلك يمهد لتبعية لا محدودة".[8] إنّه النظام الذييشل الشعوب عن التنمية لفرض التبعية، ويزرع فيها الخذلان والعجز عن استعمال إمكانياتها الذاتية والموضوعية، من منطلق إيديولوجي سفيه يجردها تماما من النضج الحضاري ويتهمها بالشر والإرهاب، ويربطها بالطبيعة البدائية المتوحشة، ويطبق عليها قانون الغاب ويضربها بقوةفي حالة العصيان والتمرد، إن الإرهاب الذي ينسبه النظام العالمي للشعوب المستضعفة في العالم الثالث والعالم العربي والإسلامي بصفة خاصة "قد مارسه الغرب على نحو أكثر فظاعة كما تشهد موجات الإبادة الجماعية ضد السكان الأصليين "الهنود"، والحروب العالمية. صحيح أن الغرب ينظر إلى نفسه بوصفه أقوى لأقوياء الغاب أو بوصفه مصدر المعرفة ونموذج الحضارة، فيما هو يعاملنا بوصفنا مجرد مستهلكين لسلعه وأدواته. وبذلك يخفي الوجه الآخر لحقيقته: كونه يمارس الإرهاب بتهديداته وحروبه وتدخلاته ومفاضلاته العنصرية، وكونه قد حقق تقدمه وإنجازاته، بقدر ما استخدمنا أو احتاج إلينا كأسواق".[9]لا يتمتع النظام العالمي بالمصداقية، لا في عقلانيته ولا في واقعه وممارسات القائمين عليه، فطلب الديمقراطية وباقي حقوق الإنسان والتطلع إلى السلام العالمي لا يكون بالقوة العسكرية، بقدر ما يكون بقوة الانفتاح والحوار والتعاون بين الشعوب،أما واقع الحال يكشف عن الإفراط في استعمال القوة العسكرية ضد الشعوب والحركات المناهضة لتوجه العولمة والأمركة والصهيونية، ولصالح الأمن والسلام في دولة الولايات المتحدة الأمريكية في الدول المتحالفة معها، وفي غياب تام للاعتبارات الأخلاقية والدينية والعلمية، الأهم في الأمر بقاء الولايات المتحدة على قمّة هرم العالم تفعل فيه ما تشاء وكيفما تشاء وساعة تشاء من دون حسيب أو رقيب. * إذا كان في الغرب من المفكرين أمثال "فوكوياما" و"هانتنغتون" و"مينك" وغيرهم ممن صفقوا للعولمة، ورقصوا للنظام العالمي، وصاغوا البيان النظري والسياسي للكوكبية والأمركة المتصهينة، فإنّ الغرب لم ينجب مثل هؤلاء فقط، بل أنجب من المعتدلين والموضوعيين وخصوم قهر العولمة وظلم وعدوان النظام العالمي الكثير، مثلما هو الحال في العالم الإسلامي وفي غيره نجد فقهاء الرحمان وأتباعهم في مواجهة فقهاء السلطان وأزلامه، والمفكر الغربي المسلم "روجيه غارودي" أو"رجاء" واحد ممن وقفوا في وجه تيار العولمة الجارف بالتحليل النقدي الفاحص والنظرة الموضوعية العميقة في كتابه "كيف نصنع المستقبل"، فيكشف عن خيوط أزمة العولمة وعن جذورها وهي جذور أخلاقية وعقائدية وليست اقتصادية أو سياسية كما يعتقد البعض، إن الهيمنة الغربية والأمريكية اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وإعلاميا وعسكريا لها صور سلبية بشعة، تدل على ضعف وانحطاط الحضارة المعاصرة روحيا وأخلاقيا- على الرغم من تطورها علميا وماديا وتكنولوجيا- وعلى مصيرها الأسود المظلم، وعلامات انحطاطها عند "روجيه غارودي" وعلى حد قوله: "أن رأس المال الذي تمّ تجميعه خلال خمسة قرون بالنهب الاستعماري والمحدود بعد ذلك بالاستثمارات في البلاد الصناعية الكبرى في أوربا العجوز والذي يخلق حاجات اصطناعية ومؤذية عبر الإعلان والتسويق، رأس المال هذا الذي أصوله بالاستثمار في مؤسسات الإنتاج والخدمات الواقعية. أصبح رأسمال مضاربة أي أصبح طفيليا خالصا. النقود لم تعد تخلق السلع ولكن تخلق النقود. أنّ اعمل الخلاّق لم يعد يفيد في تنمية الإنسان(أي كل البشر) ولكن في تضخيم فقاعة مالية لأقلية ضئيلة ليس لها من الغاية سوى تكبير هذه الفقاعة وبذلك لم تعد مشكلات معنى العمل والإبداع والحياة تطرح للبحث. أن معنى الكلمات نفسه قد تشوّه فنستمر في أن نطلق كلمة "تقدم" على انحراف أعمى يؤدي إلى تدمير الإنسان والطبيعة ونطلق كلمة "ديمقراطية"على أشنع قطيعة عرفها بين من يملكون ومن لا يملكون ونطلق كلمة "حرية" على نظام يسمح بذريعة التبادل وحرية السوق لأولئك الأكثر قوة أن يفرضوا الديكتاتورية عديمة الإنسانية تلك التي تسمح بابتلاع الضعفاء ونطلق كلمة "عولمة" لا على حركة تؤدي إلى وحدة متآلفة الأنغام للعالم عن طريف اشتراك كل الثقافات ولكن بالعكس على انقسام يتنامى بين الشمال والجنوب نابع من وحدة امبريالية وطبقية..ونطلق كلمة "تنمية" على نمو اقتصادي بلا غاية ينتج بإيقاع متسارع أي شيء سواء كان مفيدا أو غير مفيد مؤذيا أو حتى مميتا كالأسلحة وليس تنمية الإمكانيات البشرية الخلاقة".[10] وفي معرض تحليله ونقده للنظام العالمي الذي يفتقد تماما لأي مشروعية أخلاقية ويتجه في اتجاه واحد لا غير حسب "روجيه غارودي" "هو حماية السوق الأمريكية وفتح أسواق العالم كلها أمامها..خالقة بذلك مجالا مشوها مكونا من بعض مئات المختارين ومليارات المستعبدين وبين الاثنين كتلة بلا قوام من أولئك المحكوم عليهم بعمل يفتقر إلى المعنى كي يحصلوا عبر زيادة كمية الاستهلاك على سعادة السوبر ماركت كبديل لحياة حقيقية. حياة منذ الآن فصاعدا بلا هدف".[11]أمام هذه الأزمة الأخلاقية العميقة التي ترتبت عن توجهات العولمة والأمركة والصهيونية العالمية، وعن الممارسات أللأخلاقية من قبل الأقوياء ضد المقهورين في العالم، يكشف "جارودي" عن منفذ النجدة ومخرج الطوارئ وسبيل تخطي الأزمة، وهو "إعادة تأسيس النظم السياسية والتعليمية والاقتصادية والدولية لتكون في مصلحة الإنسان كإنسان بصرف النظر عن لونه أو ثقافته المحلية أو دينه الخاص أو مقدار ثرائه أو انتمائه العرقي. وبالطبع فهي رؤية يوتوبية جديدة لعالم يمكن أن يولد غدا أو بعد قرن أو بعد قرون لكن السؤال الذي ألح علي طوال قراءتي للكتاب الذي هو موجه بالأساس للإنسان الغربي: أيمكن أن يثق "غارودي" في أن هذا الإنسان الغربي الذي قاد ولا يزال يقود العالم إلى المزيد من الدمار والظلم هو الذي يقود هذا التحول اليوتوبي".[12] ب- العولمة والإسلام: * ثبت للجميع من خلال التناقض بين خطاب العولمة وسلوكها على الأرض أنها تفتقر تماما إلى الشرعية الأخلاقية التي امتلكتها الحضارات السابقة بدرجات متفاوتة، في سياق العالمية المؤنسة لا في إطار النظام العالمي الشرس والمتوحش، لذا يتساءل العديد من المفكرين "عن قدرة هذا النظام على الاستمرار، وعلى إعادة توليد نفسه، خاصة وأنّ الفساد أصبح سمة لازمة وقطعية للمجتمعات، وأنّ العولمة لم تؤسس قيما أخلاقية جديدة بل استفادة من القيم القائمة والتي ورثتها تاريخيا عن المراحل السابقة، كالشرف وخدمة الوطن ونقل المعرفة وغيرها، بل إنّ العولمة أدت إلى تآكل هذه القيم وتراجعها بعدما أصبحت القيمة الأساسية هي المال فقط، مما يؤدي إلى مأزق ستواجهه العولمة، إن لم يكن اليوم ففي المستقبل القريب، لأن المال أو المادية وحدها لا يمكن البناء عليها نظرا لتغريها وعدم استقرارها، كما أنها ليست متكافئة كالقيم الأخلاقية".[13] وإذا كانت العولمة تركز على القيم المادية التي لا تعتبر القيم الدينية الإيمانية ولا الفضائل الأخلاقية فإنها بذلك تصنع وجودا ليس متوازنا في الإنسان الفرد والمجتمع، اللاتكافؤ في الوجود الإنساني يحدث الاختلال في الحياة الإنسانية عامة، وتسيطر النزعة المادية التي "تغذي ثقافة الأنا وتقديس الفردية، ولا مانع في ظل ليبراليتهم، أن يسخر المجتمع أو بعضه لمصالح الإنسان الفرد صاحب النفوذ، أو الرجل السوبرمان...تنشر العولمة قيما ومفاهيم عنصرية ولّدت الدعم المفتوح للعنصرية الصهيونية، لا احترام لكرامة الإنسان، ولذلك نجدهم يعتمدون أكثر من مكيال في وقت واحد".[14] * لقد صارت العولمة عقيدة العالم المتقدم المعاصر، وأصبحت "نظم الاقتصاد والمال هي الدين الذي يدين به الغرب، ومن تبعه من الشرق الأدنى والأوسط والأقصى، وبمعنى آخر، الشمال الغني، ومن يلحق به من الجنوب الفقير، ونحن نرى الآن مصداقية تلك النبؤة في حياتنا المعاصرة، وفي مطلع الألفية الميلادية الثالثة. لقد غدت العولمة بطوفانها الجارف دين النخبة ومن اتبع تلك النخبة، حتى ليطلق أحد الباحثين عليها الوصف الآتي: "دين الأغلبية الداخل إلى البعيد بقوة، وسلطان المال والتجارة". ونحن نجد أحد الباحثين يصف العولمة فيقول: "لقد وحّدت العولمة مفهوم الأديان التي لكل منها في حد ذاته خصوصيته وتميزه، وجعلت الناس تعتنق دينا واحدا، وهو دين المال، فنسي الناس يسوع المسيح، ونسوا الله تعالى وتذكروا أوجه الدولار." والعولمة بهذه الصفة، جعلت من العقيدة الدينية "التي هي في حد ذاتها حافظة لمنظومة القيم الأخلاقية والخلقية والاعتقادية"، عقيدة أرضية مادية، فأفقدتها الجانب الروحي من دعوتها الأخروية، ومسخت جوهر الإيمان التي تدعو إلى التآخي والتآلف بين الناس".[15] وتؤسس العولمة الدين الجديد، دين المال والأعمال والبورنوغرافيا على جذور اعتقادية صهيونية وماسونية عالمية، تدعو إلى وحدة المعتقد الديني، وإلى تطهير الأرض من الإسلام والنصرانية ومن كل الديانات الأخرى، لتبقى المعتقدات الصهيونية وحدها أرضية العولمة ومرجعية النظام العالمي وعقيدة الدنيا والأخرى، ويفي الرب بوعده، ويتحقق الحلم الصهيوني الأكبر، قيادة الدنيا وبلوغ الخلاص المطلق. * تقوم عقيدة العولمة ودعوتها السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية إلى إلغاء كل الأديان والثقافات الأخرى، وتمثل هذه العقيدة دين النخبة ومن تبعها في كل مكان في العالم، وبهذا فهي عقيدة ودين العامة من الناس، لا إله في عقيدة العولمة إلا المال والطريق إليه وكل ما من شأنه يسمح ويسهل جمعه، ليس العمل والإنتاج فقط بل المال ذاته، فالمال يجلب المال في ظل الرأسمالية، ولا تهم طبيعة وسائل تحصيل المال، لأن الغاية تسمح بالوسيلة في ظل نظام لا يحترم مكارم الأخلاق، وفي عقيدة لا تعير الاهتمام للتعاون والتضامن والتكافل والعدالة والمساواة والأخوة وغيرها من الفضائل، وهي ترفعها شعارات لا غير. تتصف عقيدة العولمة بأن السلطة والحكم لديها في يد أصحاب المال والأعمال، ووظيفة العمل جلب المال ولا تتجاوزها، فهي خالية من أي بعد ديني أو أخلاقي أو اجتماعي، ويقتصر العمل على التحرك في أي قطاع من قطاعات المجتمع مثل الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها للحصول على رأس المال المنتج للمال من غير تدين أو تعبد، تخلو عقيدة العولمة من الانتماء للفضائل وللهوية وللأرض وللوطن وللأمة وللقومية، لا رموز ولا شعارات محددة فيها، كما تتحدد الحقوق والواجبات والرتب والمناصب في المجتمع لدى الأفراد حسب مقدار المال الذي يمتلكه الفرد، فالمال هو الذي يصنع السلطة السياسية والاجتماعية وحتى السلطة العسكرية، ليس المهم في عقيدة العولمة الإنتاج بل الأهم هو الاستهلاك، لأن المهم إنتاج المال من المال وليس المهم إنتاج المال من الإنتاج الذي يشترط العمل، دين العولمة المبجل السلوكية الخلاعية "البورنوغرافيا"، وكتابها المقدس، "كل أدب وأثر جنسي فاحش إباحي سقيم. دين العولمة هو الوجه الآخر للأمنيات اليهودية، الإسرائيلية، الصهيونية، وإذا ما شئنا زيادة بيان، فإن أتباع هذا الدين يمكن رؤيتهم في وجوه مثل "جورج سوروس"، أو "بيل كيتس"، وسواهم من عمالقة المال والاتصالات، وهو دين لا يعرف الرحمة، ولا يريد لأتباعه ومعتنقيه أن يعرفوها أبدا".[16] تتبنى عقيدة العولمة عددا من المبادئ والقيم التي قامت عليها الحداثة الغربية والحضارة الحديثة، تتضمنها مواثيق ودساتير المنظمات العالمية وأنظمة الدول المعاصرة المتقدمة والمتخلفة على السواء وينادي بها النظام العالمي، لكنها تبقى مجرد شعارات وأسود على أبيض، لم تتحقق في الواقع بل الممارسات في الواقع مناهضة لها تماما وتنتهكها يوميا، هو ما يعكس الأزمة الأخلاقية التي تتخبط فيها العولمة ودينها، بحيث يتناقض لديها الخطاب مع السلوك والممارسة، ويلخص صاحب كتاب "العولمة والقيم" طبيعة دين العولمة ومعتقدها في قوله: "...إنّه اقتصاد بعيد كل البعد عن الله جلاّ جلاله من وجهة نظرنا عربا ومسلمين، ومن وجهة نظر إنسانية، ولا ننس هاهنا أن دين الله عالمي النزعة، فقواعد دين العولمة هي: القوي يسحق الضعيف، الفجور يلغي الأخلاق، الإلحاد يزيل الإيمان، الربا يحرر التجارة، الاستهلاك يحذف الادخار، الإنتاج مقدم على الإبداع، المادة أغلى من الروح، الأديان كلها انتهى زمانها، القوميات كلها ولّت إلى غير رجعة، الحدود الوطنية يجب أن تُزال. وهذه القواعد لا تستقيم بكل المعايير مع أي دين من الأديان السماوية أو الأرضية، لأنها لا تضمن للإنسان الراحة في الدنيا ولا في الآخرة، ولا تجعله مطمئنا بأدنى قدر من الاطمئنان، لا بل إن هذا الدين المعولم الذي أخذ بين كل الناس ينقسم إلى دينين في حد ذاته: دين النخبة التي تملك وتحكم بقوتها وسلطتها. دين العامة التي تعمل تحت يد تلك النخبة المالكة الحاكمة".[17] * إن القيم التي تؤمن بها العولمة في السياسة والاقتصاد والدين والحياة عامة والسائدة لدى الشعوب في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوربا الغربية وفي كندا، المؤمن بها يتمتع بالقابلية للتحضر والقدرة على مسايرة التقدم الذي يعرفه العالم المعاصر، أما الكافر بها فعقليته بعيدة عن التحضر وهو عاجز تماما عن مسايرة الركب الحضاري المعاصر، من دون النظر إلى التنوع الثقافي والديني، ومثال ذلك شعوب العالم العربي والإسلامي التي تعاني الغزو الفكري والثقافي والمسخ والانحلال الخلقي والاضطهاد الديني في بلدانها وفي خارج بلدانها، حيث اقترن اسم الإسلام واسم المسلم بالطرف الديني والتعصب المذهبي وبالجريمة وبالإرهاب وبالجهل وبالتخلف وبالرجعية في التفكير وبسائر ما ينكره الغرب ولا يتماشى مع قيمه ومعتقداته التي تنطوي عليها عقيدة العولمة ودينها، وتمّ ذكرها وتحديدها من قبل، الأمر الذي جعل ردّة الفعل المعارضة لنظرة الآخر إلى الإسلام والمسلمين قويّة وعنيفة من بعض الجهات في العالم الإسلامي الرسمية وغير الرسمية، وزادت في تفاقم الأوضاع وسوء العلاقة بين الغرب والولايات المتحدة الأمريكية وبين العالم العربي والإسلامي، وغذّت هذا الوضع السيئ ممارسات الدول الغربية ودولة إسرائيل السياسية والعسكرية في حق الشعوب الإسلامية، في فلسطين وفي العراق وفي أفغانستان وفي غيرها، تنامى الحقد وتعاظمت مشاعر كراهية المسلمين لدول الغرب وأمريكا وإسرائيل أُضيفت إلى الحقد التاريخي الدفين بسبب الاستعمار الحديث وما فعله من إجرام وحشي في الشعوب الإسلامية، هذه الحالة قابلتها وتقابلها القوى الغربية بالمثل مسخرة كل ما تملك من قوة مالية واقتصادية وتقنية عسكرية وحربية لقهر المسلمين والتشكيك في ثقافتهم وعقائدهم وربطها بالإرهاب الذي ينبغي استئصاله من الجذور بقطع دابر الإسلام والثقافة الإسلامية وفتح الباب لعقيدة العولمة ودينها، من الأساليب المتبعة من طرف دعاة العولمة إثارة البلبلات والقلائل بين المسلمين والمسيحيين الذين يعيشون معا العالم العربي والإسلامي في بلدان أخرى، على أنّ المسحيين يعيشون الاضطهاد الديني، وجاءت هذه الصيحات في تقارير من جهات رسمية عليا سياسية ودينية ولتكن مؤسسة الفاتيكان أعلى هيئة دينية نصرانية في العالم، "إنه من المستغرب أن يدافع الغرب عن الدين خارج أرضه، بينما يمارس هذا الدين داخل تلك أرض ولا يحافظ عليه، بل عزله في الكنائس والصوامع لمن غب أو أحب، أما الحياة العامة فلا شأن للدين بها، ولذا فالدين بالنسبة لكثير من الغربيين ليس إلا مسألة ثانوية لا يلجأ إليها إلا العجزة وكبار السن والمتقاعدون، أما غيرهم فلا شأن لهم بالدين".[18]إنّ المنظمات الدينية النصرانية والحركة الصهيونية وحتى الأنظمة والهيئات السياسية في الغرب تدعو وتُحرض على اضطهاد المسلمين لا لسبب سوى لكونهم يدينون بالإسلام ولم يرضوا بغيره بديلا، وهذا "لا يعني بالضرورة أن كل المنظمات المسحية هي مطية للاستعمار أو لقوى الهيمنة، لكنه يعني أن مبدأ الاستغلال لها هو السائد خاصة إذا تلازم ذلك مع ظواهر الهيمنة التي نجد ملامحها واضحة في الوقت المعاصر، كما لا يعني ذلك رفضنا لحرية الإنسان في اختيار معتقده، بل نحترم تلك الإرادة والرغبة سواء أكنا نعتقد بما يؤمن به أو لا نعتقد، فاحترام حقوق الإنسان يتجاوز الفوارق كافة، لكن ما يمكن التحذير منه هو استغلال الدين لتحقيق أغراض سياسية، خاصة إذا لم تكن هذه الأغراض ذات أهداف نبيلة أو تختبئ تحت ردائها أهداف تتنافى مع الأهداف السامية للدين".[19] * ترفع العولمة في وجه الديانات والثقافات السائدة في العالم خاصة الديانات السماوية والثقافات التراثية التي مازالت حيّة في وعي وشعور أصحابها وفي ممارساتهم شعارات عدّة ظاهرها حق وصدق ونبل وباطنها مكر وشرّ وخداع، وهذا هو عمق أزمة العولمة الأخلاقية، بحيث لا يتناسب خطابها مع السلوك والممارسة، شعارات عن الحرية وعن الديمقراطية والتعددية السياسية، وعن حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاجتماعية عامة، وعن نقل وتعميم التكنولوجيا وقيم الحداثة والتحديث من غير تفرقة أو تمييز، وعن حماية البيئة والحد من التسلح ووقف انتشار أسلحة الدمار الشامل، وحفظ كرامة الإنسان وعرضه باحترام جميع حقوقه وعدم تعرضها للانتهاك. لكن الواقع وما يجري فيه من ممارسات يتناقض تماما ما تدعو وتحض عليه هذه الشعارات برمتها، ومن ذلك ما يتعرّض له المسلمون في دينهم وفي حياتهم من سوء وظلم وقهر في البلاد المحتلة وفي غيرها، وما نتج عن ذلك سخط متبادل بين العرب والغرب جذوره تاريخية قديمة ومعاصرة أنبتت العداء المتبادل والمتنامي باستمرار، وهذا أحد المفكرين والمؤرخين الغربيين يصور لنا مشهد العداء الغربي للعرب والمسلمين حتى ولو سجل هذا المشهد على الإسلام إيجابيته وقوته وعظمته، إنه "برنارد لويس" الذي يقول: "الإسلام واحد من أعظم ديانات العالم، ودعوني أكون واضحا حول ما أقصده باعتباري مؤرخا غير مسلم للدين الإسلام، لقد منح الإسلام الراحة والطمأنينة لملايين لا تحصى من الرجال والنساء، فقد أعطى كرامة ومعنى للحياة التي كانت رتيبة، تعيسة وبائسة، كما أنه علم شعوبا من عروق مختلفة أن يعيشوا حياة أخوية، وجعل شعوبا مختلفة المشارب تتعايش جنبا إلى جنب في تسامح معقول، كما أنه ألهم حضارة عظيمة عاش فيها المسلمون وغيرهم معا حياة خلاقة ومفيدة، وهذه الحضارة أغنت العالم بأسره بما حققته من إنجازات".[20] لكن المؤرخ والمفكر الغربي "برنارد لويس" مافتئ حتى انقلب على رأيه في تحديد نظرته إلى الإسلام، وكأنه لا يريد ترسيخ موقف إيجابي من المسلمين، سيرا على نهج أعداء الإسلام والمسلمين في الغرب الأوربي، فهو "يقرر أنّ الإسلام، وعلى شاكلة غيره من الأديان، عرف فترات نفخ فيها روح الكراهية والعنف في أتباعه، ومن سوء حظنا فإنّ جزء من العالم الإسلامي لا يزال يرزح تحت وطأة هذا الميراث، ومن سوء حظنا أن غالبية -وليس كل- هذه الكراهية والعنف موجّه ضدنا في الغرب. هذه الكراهية تتجاوز أحيانا العداء الموجه ضد مصالح وأفعال وسياسات وحتى بلدان معينة وتصبح رفضا للحضارة الغربية برمتها، ليس فقط بما تجترحه هذه الحضارة بل بما هي، بقيمها ومبادئها التي تمارسها وتحترفها، فهذه المبادئ والقيم تبدو لهم حقا شرا متأصلا".[21] هذا هو الإسلام وهم أصحابه من منظور الفكر الغربي، المنظور الذي أشغل فتيل العداء بين الإسلام والغرب، وأعطى الحق للغرب للاعتداء على المسلمين في مختلف لأنحاء العالم، لكونهم في مركز ضعف شديد ولكون الغرب في مركز قوة يقود العالم ويسيطر عليه. * إنّ من المبادئ التي تنادي بها العولمة وتأسست عليه الحداثة والرأسمالية والحضارة الحديثة والمعاصرة مبدأ الحرية، وحق طبيعي أساسي للإنسان تنهكه العولمة يوميا سياسيا واقتصاديا وعقائديا وفي كل مجالات الحياة، وتضع القيود المختلفة على شعوب العالم، ولا تسمح لها بممارسة حقوقها المختلفة وفق مبدأ الحرية، "فالحديث عن مبدأ الحرية لا يعني أن هذه الحرية حق شخصي إنساني، بل يعني أنها حق ديني كذلك شرعته كافة الأديان السماوية والوضعية، وجاء الإسلام ليجعل من حرية الإنسان حقيقة مرتبطة بكرامة الإنسان وإنسانيته، حتى ولو تعلق الأمر بالدين ذاته، فقد قال تعالى: ﴿لا إكراه في الدين﴾. وروي أن مجموعة من نصارى نجران وفدو على النبي صلى الله عليه وسلم ودخلوا المسجد وحانت صلاتهم وقاموا يصلون في المسجد فأراد الناس منعهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "دعوهم"، كما أنّ حرية الإنسان حق اجتماعي، إذ لا يمكن أن يستقر أي مجتمع أو يتقدم إلا بحرية أفراده لأن الحرية تطلق الطاقات الإبداعية لدى الإنسان...إن العالم اليوم يتحدث عن الحرية كحق إنساني يجب أن تسعى له البشرية، لكن العالم لم يعمل لإقرار هذا الحق، فمازال يتغاضى عن كثير من وسائل تقييد الحريات خاصة في المجتمعات المتخلفة أو التي تهيمن عليها نظم الديكتاتورية".[22] ولا يتسع أفق الحرية في العالم المتقدم ويضيق أكثر في البلدان الإسلامية، وإذا كان أُفقها قد أفلت من القيود في بعض المجتمعات فقد أدى ذلك إلى شيء من التحلل والفوضى والإجرام، نجد من قضى على الحرية بسبب ما فرضه من قيود على الإنسان، والحرية هبة طبيعية وحق متجذر في الإنسان تحترمه كافة الشرائع والنظم الوضعية، وإنما تقوم هذه الشرائع والنظم بتنظيم هذه الحرية حتى لا تتحول إلى فوضى هدامة، بل تستثمرها لخدمة مصالح الإنسان. * من القضايا التي تحاول العولمة أن توظفها لأجل اكتساب تأييد الإنسان في العالم المتقدم والعالم المتخلف على السواء قضية حقوق الإنسان، لكنها تبقى مجرد شعارات يتغنى بها الكثير، فهي منتهكة في البلدان المتقدمة أما في العالم الثالث فهي منتهكة إلى أبعد الحدود، لأن إيديولوجية العولمة وسياستها تفرض تسلط الأقلية الغنية الحاكمة الظالمة على الأغلبية الفقيرة المظلومة المحكومة، ويختلف استمداد حقوق الإنسان في الإسلام عنه في الثقافة الغربية، ويعرض صاحب كتاب "الثقافة والعولمة" هذا الاختلاف في قوله: "إلا أن نقطة الخلاف برزت من مرجعية هذه الحقوق. ففي الوقت الذي عرض الباحثون وجهة نظرهم من أن هذه الحقوق تستمد مشروعيتها من مشروعية الحق ذاته باعتباره سمة لازمة للإنسان، كما تستمد المشروعية من الإرادة الإنسانية إذا اجتمعت إرادة البشر ورغباتهم في احترام هذه الحقوق وصيانتها والمحافظة عليها، فقد ذهب الجانب الإسلامي إلى أن مشروعية هذه الحقوق ليست منحة من أحد، لا من حق الفرد ولا من الإرادة البشرية، وإنما تستمد مشروعيتها من الله سبحانه وتعالى، فهو الذي خلق الإنسان وأعطاه كافة الحقوق باعتباره المخلوق المكرم لقوله تعالى: ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾. فالإنسان المكرم بذاته من سلطة عليا قررت له الحقوق، ولا يمكن لأي سلطة أخرى أن تبدل أو تغير فيها. ولذا فالرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان أكثر ثباتا واستقرارا لأن أي إنسان أو مجموعة من البشر لا يمكن أن يغير هذه الحقوق، أما إذا كانت هذه الحقوق مبنية على إرادة المجموعة البشرية فما الذي يمنع هذه المجموعة أو غيرها أن تلتقي مرة أخرى، وتسلب الحقوق أو بعضها، ألم يكن الرق مشروعا قبل مائة وخمسين عاما بإرادة بشرية؟، ألم تمارس الشعوب القوية سلطتها على الشعوب الضعيفة وتستعبدها، كما حدث في إفريقيا وفي الولايات الجنوبية بأمريكا قبل أن يأتي "أبراهام لنكولن" ويطلق بيانه بتحرير العبيد؟".[23] إن تكريم الإسلام للإنسان وتفضيله عن بقية المخلوقات وتحريره من الرق ومن كل ما يسيء إليه ويُنغص عليه حياته محدد في نصوص القرآن الكريم باعتباره المصدر الأول والرئيسي للتشريع الإسلامي، يتضمن القرآن الكريم ما على الإنسان من واجبات وما له من حقوق، ومنها حقوق المرأة التي يتغنى بها الكثير ويتشدقون إليها في الغرب وخارج الغرب، المرأة التي يعاملها الغرب كسلعة حتى ولو بلغت أرقى الرتب والمناصب في المجتمع، فهي بضاعة تباع وتشترى في سوق العمل وفي سوق الليل والبورنوغرافيا، تتعرض للاغتصاب والقهر في البلدان الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية، أما في البلدان المتخلفة فهي تعاني جنينا وطفلة وفتاة وامرأة وطوال حياتها، بعدما كرمها الإسلام ومنحها المساواة اللازمة لها مع أخيها وزوجها وأبيها وشريك حياتها الرجل، هذه المساواة حوّلها الغرب وحوّلتها العولمة إلى صراع وتنافس غير شريف مبتغاه الغلبة والسيطرة لا على السبيل الندية المبنية على التعاون ولكن ليعزل الواحد منهما الآخر، والنتيجة انتشار العنوسة والترمل في صفوف الرجال والنساء على السواء، وتلاشي الرباط المقدس، رباط الزواج، وهو رباط روحي ومعنوي يجمع بين المرأة والرجل لتشكيل أسرة هي النواة الأساسية لبناء مجتمع وحياة اجتماعية ينعم فيها الجميع بالراحة والرفاهية والطمأنينة. * يحلو للكثير ممن يعادون الإسلام ويحكمون عليه من خلال ممارسات فردية معزولة لا تمت صلة به أن ينعتونه بنعوت سيئة، تكشف عن نواياهم المبيتة على الكراهية والحقد، لا لسبب سوى لوقوفه في وجه الظلم والاستعباد وقهر الإنسان للإنسان، ودفاعه عن الحق ومعاداته للشر ونبذه للخلاعة والإفراط في تحصيل للشهوات والملذات على حساب الخلافة الرسالية الإنسانية على الأرض، من هذه النعوت الظلامية والتخلف والرجعية والتطرف، عقائده محدودة تجاوزها الزمن وهي لا تتناسب مع التطور العلمي والتقني والحضاري الذي يعرفه العالم المعاصر، أما شرائعه فهي ثابتة جامدة أما الحياة فسمتها التغير والتجدد المستمر، وما هو متغير لا ينبني على ما هو محدود وثابت، هذا المنظور استند إلى الفكر الغربي الذي عزل الدين بعد الانقلاب عليه قبيل النهضة الأوربية لأنه شكّل عائقا أم نهضة أوربا، ويريد هذا الاعتقاد أن يضع الإسلام في الموضع نفسه، لكن شتّان بين الإسلام والنصرانية، وهو الاعتقاد ذاته الذي يتهم الإسلام بمسؤوليته عن التخلف والانحطاط في العالم العربي والإسلامي المعاصر، ويرى المسلمين في مرحلة ما قبل الإصلاح الديني، وهو يعلم يقينا بأن الإسلام ليس هو العقائد النصرانية التي شوهت قيم رسالة المسيح عليه السلام، ويعلم يقينا أن الإسلام دين حق وعلم وحضارة ورقي وازدهار، ليس دين جمود وتحجر وانحطاط. إذا كان الإسلام ينبني على التمسك بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فهو لم يمنع العلماء من الاجتهاد فيما لا نص فيه من كلام الله أو من كلام نبيه، وحتى ولو أُغلق باب الاجتهاد في مراحل من التاريخ الإسلامي فذلك لا يعني أبدا أن باب الاجتهاد موصد في الشريعة الإسلامية، فالشريعة فيها من الثوابت ما لا يقبل الاجتهاد وفيها ما هو متغير لا يقبل الثبات فيه الاجتهاد ضروري، وقد اجتهد النبي والصحابة والتابعون والعلماء الأئمة، مما يؤكد أن الاجتهاد مطلوب، ويدل على مرونة الإسلام وشمولية رسالته للزمان والمكان بأبدية، وما "وصلت إليه الأمة من التخلف وعجز في فهم السريعة الإسلامية وتطبيقها إنما مرجعه إلى عجز المسلمين أنفسهم وتخلفهم وليس عيبا في الشريعة ذاتها، بل هي باقية "مادامت الأرض أرضا والسماء سماء" كما عبر بذلك الفقهاء. فلا مجال لتحقيق مواكبة العصر وتلبية احتياجاته إلا من خلال فتح باب الاجتهاد، فمنذ أُغلق باب الاجتهاد وفُتح باب التقليد والأمة المسلمة في تردّ وتخلف واتكالية على ما قدمه السابقون، ولذا فإن فتح باب الاجتهاد ضرورة لازمة لأهل الاختصاص من العلماء، وفي غير تردد وعجز، أو تساهل وتخبط، فالاجتهاد حركة علمية يجب أن تنشط وأن يتصدر لها أهل العلم والاختصاص والاجتهاد".[24] * يوجد عدد كبير من المفكرين والساسة والقادة العسكريين في الغرب الأوربي وفي الولايات المتحدة الأمريكية الذين يظهرون العداء للإسلام ولأهله، وهذا مستشار الأمريكي "جونسون" لشؤون الشرق الأوسط يقول: "يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية "الغربية". لقد كان الصراع محترما بين الإسلام والمسيحية منذ القرون الوسطى..إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي، فلسفته، وعقيدته، ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للشرق الإسلامي، بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي...ويقول "أشعيا بومان" في مقال نشرته مجلة العالم الإسلامي التبشيرية: "إن شيئا من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي من الإسلام، لهذا الخوف أسباب، منها أن الإسلام منذ ظهر في مكة لم يضعف عدديا بل إن أتباعه يزدادون باستمرار...وإذا كانت هذه الرؤية تمثل موقفا لبعض الساسة الغربيين فإن انتشار ما يسمى بظاهرة الأصولية الإسلامية في السنوات الأخيرة دفع بهؤلاء الساسة إلى الكشف عن موقف عدائي، يلبس ثوب التخلف من هذه الظاهرة باعتبارها تشكل مصدر قلق للعالم الغربي وحضارته المادية، فقد أصدر الكاتب الفرنسي "جان كلود بارو"، الذي يعمل رئيسا لديوان الهجرة الفرنسي، كتابا مليئا بالمغالطات والافتراءات عن الإسلام، عدا عن ابتعاد هذا الكاتب عن أي موضوعية ومنهجية في كتابه،إذ استخدم لغة هي أقرب إلى الشتم والتجريح الذي ينم عن روح عدائية..ما أعلنه "ويلي كلاس"، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي..والذي وصف الإسلام بأنه العدو الأول بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وقد أثارت مقولته هذه ضجة واسعة حيث رد وزير الخارجية الألماني "كلاوس كينكل" بقوله: "لا يجوز أن نرتكب خطأ بتصوير الإسلام كعدو"، في محاولة للتخفيف من تلك التصريحات".[25] * والموقف الغربي لا يبتعد عن الوقف الأمريكي بل يقف معه ويسانده، مستندا إلى الصراع الغربي العربي الإسلامي التاريخي الموروث من الحروب الصليبية وإلى الصراع التحرري أيام الاستعمار الغربي الحديث، ولما لا إلى الصراع العربي الإسلامي اليهودي الصهيوني مادام الغرب الأوروبي هو الذي صنع دولة إسرائيل في قلب الأمة العربية والإسلامي وبمباركة الولايات المتحدة الأمريكية، ويستند إلى ممارسات يقوم بها أفراد وتقوم بها جماعات وهيئات ومنظمات رسمية وغير رسمية وحكومية وغير حكومية، على سبيل الدفاع عن النفس أو على سبيل ردود الفعل المعاكسة تجاه الظلم والعدوان، لأن المسلمين في العالم اليوم لا يهاجمون الغرب أو غيره لأنهم في مركز ضعف شديد لا يسمح لهم بفرض الهيمنة التي تتمتع بها الولايات المتحدة ويتمتع بها الغرب الأوربي، ويصور لنا "نعوم تشومسكي" طبيعة الهيمنة الأمريكية على العالم وغزوها له بقوله: "يشرح الدارسون المعتدلون أن كثيرا من أشكال الإصلاح تزيد من عدم الاستقرار، وإن كانت أساسية ومرغوبا فيها على المدى البعيد، إذ لا بديل عن الأمن لمن هم تحت الحصار. إن تعبير الناس، استقرار...الخ، تحمل هنا معناها المعتاد في الثقافة السياسية السائدة. ولذا يجب أن تتضمن بلاغة الثقافة السياسية الرسمية مزيدا من المصطلحات، فعلى المثقفين اللامعين أن يتقنوا استخدام تعبير تهديد أمني الذي يشير إلى كل ما يمكن أن يعارض حقوق المستثمرين الأمريكيين. أما النفعية تعني لنا "أن نفعل ما نريد"، أما معناها للآخرين فهو "أن يفعلوا ما نريد".[26] ومثال ذلك وقوف الولايات المتحدة الأمريكية في وجه أية تسوية للصراع العربي الإسرائيلي، وحمايتها لدولة تنتهك حقوق الإنسان والشرعية الدولية وهي مارقة وفوق القانون، تضيف هذا إلى رصيدها في الاعتداء والغزو، ويرى "نعوم تشومسكي" أن السياسة الأمريكية تبحث دائما عن عدو، حتى ولو كان وهميا، أو عدوا لا تأثير له، أو ذا تأثير محدود على الولايات المتحدة مباشرة، مثل الأصولية الإسلامية وغيرها من الظواهر التي نفخ فيها الإعلام الغربي لتبرير تصرفات سياسته بعد انتهاء الحرب الباردة، فيقول: " لا مبرر وجيها لافتراض أن اعمل العظيم في الإخضاع والفتح سيتبدل على أي نحو أساسي بانقضاء مرحلة الحرب الباردة من صراع الشمال والجنوب، لكن، وكما هي الحال دائما يجب تكييف السياسات الثابتة مع الظروف المتغيرة، كما حدث عند إرساء نظام عالمي جديد في 1945، وأيضا عندما أعلن ريتشارد نيكسون السياسة الاقتصادية الجديدة عام 1971، عكست كلتا الحالتين تغييرا حقيقيا في توزع القوى، أثمر التدهور السوفييتي الذي تسارع منذ السبعينات وضعا جديدا أيضا من نواح عدة مع استمرار الميول الرئيسية على حالها، بما في ذلك الاضطرابات ضمن تحالف الأغنياء وعولمة الإنتاج والمال وتهميش معظم السكان في المجتمعات، المهيمنة على العالم".[27] * إذا كان الغرب الأوربي يرمي الإسلام والمسلمين بالتطرف الديني والمذهبي، فإن التطرف ظاهرة اجتماعية تخف وتشتد تبعا لضعف وشدة درجة تأثير عوامل الاستقرار من تسامح وتعاون وتطور وازدهار، فنموذج الدولة الإسلامية التي عرفها تاريخ الإنسانية في الأندلس احتضنت تنوعا ثقافيا ودينيا هائلا عاش أصحابه من مسلمين ويهود ومسيحيين وغيرهم في وفاق ووئام من غير تطرف، حتى أن بعض اليهود وصلوا إلى وزراء ومستشارين، ومنهم الفيلسوف اليهودي "موسى بن ميمون" الذي كان طبيب القصر وأخذ عن "ابن رشد" الفلسفة وصار من كبار فلاسفة عصره، التقت فيه عدة ثقافات من غير تعارض، الثقافي اليهودية والثقافية اليونانية والثقافة الإسلامية. أما التطرف المعاصر فهو تطرف من الجانبين جانب المضطهد "بفتح الهاء" وجانب المضطهد "بكسر الهاء"، فالأول ديني إتني في مركز ضعف ودفاعي، أما الثاني فهو إيديولوجي رسمي هجومي وفي مركز قوة ومنظم، أفتك بالإنسان من الأول نظرا للوسائل والأساليب التي يستخدمها، ولأنه "يقتل بدون سلاح وينشر العداء بدون قنابل، ويرسخ مفهوم التفرقة والطبقية الإنسانية بدون تفجير، وهذا النوع يمكننا أ،ن نسميه تطرف القمة، وهو يغذي تكرف القاع ويوفر له الأسباب والبراهين على "صدق" تطرفه. فحين يقرأ الإنسان مقالة أو يستمع لرجل مثل د. صمويل هنتنجتون، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، لا يتردد كثيرا ليستنتج أن لأمثال هذه المقالات والدعوات إنما هي تطرف يدعو للتطرف، فعلى الرغم من المكانة العلمية للدكتور هنتنجتون إلا أنه يأبى إلا طريق الاستفزاز والتحدي للآخر، فكلنا يعلم كم أثارت مقالته الشهيرة "صدام الحضارات" التي نشرها عام 1993 ميلادي في مجلة "الشؤون الخارجية"، وما لقيت تلك المقالة في معالجات ومناقشات وردود حيث أجمل خلاصة فكره، العالم مقبل على صراع حضاري جديد بعد سقوط الشيوعية، ويتلخص هذا الصراع بين الشرق ممثلا في الحضارة الإسلامية والكونفوشيوسية الصينية مقابل الحضارة الغربية. وهو يرى أنّ الحضارة الغربية حضارة عالمية أرقى من غيرها، ولذا فهي في حالة خلاف مع الحضارات الأخرى خاصة الحضارتين الإسلامية والصينية".[28]إنه تطرف النخبة من العلماء والجامعيين في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الغرب الأوربي الذي لا يفقه في ظاهرة التطرف التاريخي إلا الحروب الصليبية وفي الحاضر إلا التفجيرات في نيويورك وفي غيرها حيث تُضرب المصالح أمريكا وحلفائها، المصالح التي تغذي تطرف النخبة فتقوم النخبة من جهتها بتغذية التطرف المضاد، ويتحول المقال إلى كتاب "صدام الحضارات وصياغة النظام العالمي" لهنتنجتون يعمق فيه التطرف بقوله: "هذا ليس صحيحا القول بأن الإسلام ليس خطرا على الغرب وأن المتطرفين الإسلاميين هم فقط الخطر، فتاريخ الإسلام خلال أربعة عشر قرنا، يؤكد بأنه خطر على أية حضارة واجهها، خاصة المسيحية، فما دام الإسلام سيبقى إسلاميا، وليس هناك شك في ذلك، وما دام الغرب سيبقى غربا، سيظل الصراع قائما بينهما كما ظل قائما لأربعة عشر قرنا. إن الصراع اليوم ضارب في القدم، وإن الخطر ليس في المتطرفين الإسلاميين وإنما في الإسلام نفسه..إن المسلمين مشغولون بالعنف وميالون لاعتباره حلا للخلافات أكثر من غيرهم، ولذلك فإنهم يجدون صعوبة، ليس فقط في التعايش مع غيرهم وإنما مع أنفسهم". ما تفعله دعوة كهذه هو تغطية ممارسة الغرب للعنف المتزايد ضد الإسلام وقهر أصحابه، وتهييج مشاعر الكراهية والحقد والبغضاء لدى عموم المسلمين تجاه الغرب وحلفائه، خاصة عند ذوي المعرفة المحدودة بالإسلام، ولا يهمهم جانب في موقف الآخر المتميز بالتوازن والحياد والموضوعية، وتمثله أراء "نعوم تشومسكي" خير تمثيل، الجانب الذي يقف في وجه التطرف الغربي الأمريكي الصهيوني الذي يبني حضارته على شكلين متناقضين في الإنسان، شكل حضاري متعالي يسود العالم ويقوده وشكل متخلف ومتوحش ووضيع أسلوبه في الحياة العنف ولا يمكن البتة التكيف مع غيره، إنها دعوة تتغذى من عقائد الحركة الصهيونية العالمية ومن إيديولوجية النزعة المركزية المعبرة عن رغبة الآخر في الهيمنة وحب التسلط وقهر الآخرين، وهي دعوة العولمة والنظام العالمي، دعوة تفرضها قوى الهيمنة بالشرعية الدولية وحق الفيتو وبالقوة العسكرية قوة جيوش الحلف الأطلسي، فأي تطرف حقيق بالتصدي تطرف العولمة حيث الاستكبار والاستعلاء والغطرسة واستغلال الآخر وقهره، أم تطرف الإسلام الذي يجمع ولا يفرق، يوحد ولا يشتت، يزرع روح الإخاء والتسامح والتعاون بين الناس جميعا، والحكمة من التنوع القبلي وغيره في العالم هو التعارف لا التناحر والاقتتال، وكل نفس بشرية مكرمة معززة، لا بالمال أو السلطان بل بالتقوى والعمل الصالح. قال تعالى في سورة الحجرات: ﴿يا أيّها الناس إناّ خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم﴾. * إن الصراع العربي الإسلامي الغربي الصهيوني المعولم تتناطح فيه محددات دينية وثقافية، يهودية ونصرانية وإسلامية، لقد العولمة ظهرت "مذهبا اقتصاديا "جامعا بين تفريط النصرانية الغربية والتشدد اليهودي الانغلاقي وهما مذهبان طبعا حياة الغربي بطابعهما وصيّرا صورة كل شيء فيه مصورا بصبغة حياتية خاصة به. وهو مذهب اقتصادي لا يمت بأي صلة إلى قيم الأديان السماوية "في أكثر أجزائه إذا لم نرد المبالغة في التعميم"، للاختلاف الظاهر بين قيمه وبين قيم الأديان...وقد وقف فقهاء المسلمين من العولمة موقف الرفض فيقول أحدهم: "إن الهدف الأساسي من العولمة تشكيك أمم الحضارات العريقة في حضارتها، ونفسها، وعقائدها، وتضريب إنسانها في أفكاره ومناهج تعليمه...الأنظمة الخائبة التي يتعين على البلدان الإسلامية تجنبها إذا أرادت أن تحقق أهدافها الاجتماعية والاقتصادية...إن العولمة أو الكوكبة، هي مفهوم مضاد كل المضادة للإسلام والعروبة. أما تضادها مع الإسلام فمن حيث الناحية الربوية والاحتكارية التي تؤدي إلى الربح الفاحش، وأما تضادها مع العروبة فمن حيث أنها تلغي الحدود وقيم المجتمعات العربية النابعة من الإسلام لتحل محلها قيم الغرب التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهي قيم الفاحشة التي تشيع في المؤمنين...فالعولمة في هديرها وضجيجها وضوضائها، هي قنبلة العصر الصوتية التي أصمّت الآذان، وخلخلت مراكز توازن الإنسان واتزانه، فصار الفرد المسلوب الإرادة يبحث عن قيمه وأخلاقه وذاتيته التي غدا من خلال عولمة كل ذلك إنسانا بلا جدوى..إنسانا بلا قيم..إنسانا مستهلكا- بكسر للام- ومستهلكا- بفتح اللام".[29] * يعتقد البعض في العالم العربي والإسلامي أن تنمية شعوب العالم الثالث والشعوب العربية والإسلامية في البلدان الأطراف أمر مباح وممكن في ظل العولمة المتوحشة والشرسة، على الرغم من ارتباط مفهوم التنمية ومفهوم العمل ومفهوم الاقتصاد بالدين ومكارم الأخلاق في الإسلام، بينما تقوم تلك المفاهيم على إبعاد كل ما هو مقدس أخلاقي أوديني، ففي ظل "العولمة والتي التحديات التي تزاولها الشركات العملاقة الأمريكية والأوربية ينبغي أن تتوافر البحوث العلمية التي تسير على هداها عملية التنمية، وإلا فالويل كل الويل لمن يحاول مجابهة هذه الشركات الغربية التي تجهض محولات الشعوب النامية إذا سولت لها نفسها الاستغناء عنها أو دخلت بتنميتها محاولات المنافسة، وليست كارثة ماليزيا وانهيار الصناعة فيها ببعيد، إذ يقول رئيس وزراء ماليزيا الدكتور "محمد مهاتير": ..واكتشفت أن مفهوم العولمة ليس كما قصد بها كنظام يفترض فيه إثراء العالم بما في ذلك البلدان النامية، فعلى النقيض من ذلك أدى النظام المالي العالمي للعولمة إلى إفلاسنا تقريبا، وحولنا إلى معوزين وشحاذين وأخضعنا إلى توجيه القوى الأجنبية التي يختلف برنامجها عن برنامجنا وهي بالتأكيد ليس برنامجا إسلاميا...فنحن لسنا قادرين على مواجهة العصر الصناعي، كما أننا أقل من ذلك على مواجهة تحديات عصر المعلومات. وما دمنا نعاني من التخلف في المجال التكنولوجي ومن الفقر في المجال الاقتصادي فإننا سوف ننزلق أكثر فأكثر نحو الاعتماد على الآخرين للحصول على احتياجاتنا وسنتعرض للمتنمرين والمتحرشين وسننقسم فيما بيننا ولن يكون لنا دور في حكم الأمة العالمية، وهذا أمر مؤكد".[30]ولم تكن دولة ماليزيا وحدها كدولة إسلامية التي تأثرت بالعولمة في مجال التنمية الاقتصادية بل كل دول العالم السائر في طريق النمو ودول العالم العربي والإسلامي، وتبيّن أن برامج التنمية في العالم الثالث برمته فاشلة لأنها "تمت على أسس من التطورات النظرية أو نتيجة لرغبات ذاتية للقائمين على السلطة في العديد من الدول النامية، ولم تؤخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الحقيقية للبشر، ولذلك فإن أي تجربة لا تراعى فيها حقائق الأوضاع الوطنية واحتياجات سكان البلاد لابد أن يكون مآلها الفشل الذريع".[31]وقد تذرع البعض في العالم الثالث وفي الغرب برد فشل التنمية إلى أسباب أخرى غير العولمة مثل النمو السكاني المتزايد، إن كل من التنمية والعولمة "تُدار من خلا السياسات الاقتصادية والتفاعلات المالية والضغوط السياسية لمجموعة متنوعة من الفاعلين: وهؤلاء الفاعلون يضمون دولا وشركات ومؤسسات دولية، أما الدول فهي الدول المتقدمة التي وصل فيها التطور التكنولوجي إلى ذراه، وفي مقدمتها بطبيعة الحال الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وألمانيا والاتحاد الأوروبي...وأما الشكات فهي الشركات دولية النشاط التي برزت قوتها الاقتصادية الكاسحة حوالي الستينات ووصلت الآن إلى السيطرة على نسبة عالية من الدخل القومي العالمي، وهناك أخيرا المؤسسات الدولية الكبرى وأبرزها البنك الدولي، وصندوق النقد الدولية وأخيرا أحدث هذه المؤسسات وهي منظمة التجارة الدولية. ويمكن القول بأن هذه المنظمة الأخيرة التي تأسست حديثا وكانت نتاج محادثات "الجات" التي استمرت عقودا، ستلعب الدور الحاسم في مجال العولمة الاقتصادية في المستقبل بحكم سياستها المعلنة وهي حرية التجارة، وفي ضوء الآليات القانونية الملزمة للدول التي وقعت على معاهدتها والتي تتضمن جزاءات اقتصادية رادعة لمن يخالف قواعدها".[32] * من المفاهيم التي تسعى العولمة جاهدة إلى تحريف دلالتها مفهوم الهوية، فمفهوم الهوية من منظور العولمة لا يتعدى كونها التشبع بروح الثقافة الغربية وبقيم الحداثة والتحديث وتجسيد ذلك في الفكر والوجدان والممارسة، بينما الهوية في الإسلام "هي الوجود الخاص المتميز بالتوحيد المطلق إلى الله جلّ شأنه حسب رأي الذوق والعرفان...فإن الهوية تعني الذاتية أو الشخصية ذات المميزات المحددة التي تطبع شخصية الفرد والجماعة والأمة بطابع معين في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية...والهوية كما تكون للفرد تكون للجماعة أيضا...ومجموع الهويات الفردية والمركبة يساوي هوية الجماعة "الهوية العليا" إن الهوية العليا تكون نتيجة فعل إنساني وقد تكون مُشكّلة عفويا، وقد تتدخل في تشكيلها الإرادة الإلهية بإرساله الرسل الذين يدعون إلى الدين فتصبح العقيدة "الهوية" للمؤمنين بها. وقد حصر المنظرون عوامل الهوية في: الجنس، الدين، التاريخ، الجغرافيا "المكان"، التكوين النفسي، الثقافي، الإرادة، الاقتصاد، واللغة".[33] إنّ مخاطر العولمة على الهوية الإسلامية كثيرة، وتأثيرها السلبي يزداد باستمرار، وذلك بتشويه قيم الإسلام السمحة وحقائقه الناصعة - مثل الحرية والحرية وحقوق الإنسان والتنمية والديمقراطية والهوية والعمل والمجتمع والمجتمع المدني والدولة والأمة والوطن والأرض والأخلاق والقيم والماضي والحاضر والمستقبل - باعتبار الإسلام وعقائده يشكل خطرا على الغرب وعلى حضارته وثقافته، لكونها عقائد لا تقبل الحوار السلمي وأسلوبها الوحيد هو العنف والإرهاب، وبتشويه معالم الإيمان والمعتقد وتحريف المعاني السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية وغيرها، وتفرض مصطلح الإرهاب وتلصقه بالإسلام والمسلمين في كل مكان، "وهذه العولمة تعلن أنها عالمية تصدر مفاهيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتحرير المرأة وإصلاح المناهج التعليمية وتسلك هذه العولمة مع ذلك المسلك الهيمنة، فأخذت تدس أنفها في كل دولة، ومدينة وتبسط نفوذها في شؤون السياسة والاقتصاد والتربية والإعلام والحرب والثقافة والرياضة. وهي تتسرب بكلمتها تلك تحت شعار "العالم الذي أصبح قرية واحدة" عن طريق الخبر والجندي والكومبيوتر والقروض والمؤتمرات ومراكز البحوث. صراع بين حضارتين حضارة العولمة وحضارة الإسلام ولن تنتهي هذه المعركة في تصور أهل الغرب إلا بإبادة الإسلام والقضاء على الهوية الإسلامية".[34]
* إن الطابع المادي العلماني لثقافة العولمة طبع الفكر والوجدان والسلوك الإنساني بطابعه، وأدى إلى انحراف مدنية العولمة عن قيم ومقولات الحداثة التي بُنيت عليها الحضارة الحديثة وتطورت وازدهرت، وتعمل العولمة على تعميم التوجه العلماني المادي ليصبح توجه جميع الثقافات وكل الديانات في العالم، والإسلام بمقتضى العولمة مطالب بتغيير قيمه وتحوير مبادئه وأسسه، فيقبل بالمادية العلمانية التي تقوم على الشك والإلحاد، وهو أمر مستحيل لأن هوية الإسلام في مركبه الروحي والمادي معا، وفي قيمه المتوازنة الجامعة بين مطالب الروح ومطالب البدن، بين العقل والوحي، بين الفرد والأمة، بين الاقتصاد والأخلاق، بين الدنيا والآخرة، بين الله والإنسان، هذا التوازن لا تُقره العولمة ولا الشرائع والنظم الأخرى التي عرفتها الإنسانية عبر تاريخها الطويل، فالإسلام سمح متوازن سامي في عقائده وشعائره ومعاملاته وأخلاقه، جاءت رسالته "جامعة شاملة، وجاء ما لا يختلف باختلاف الزمان والمكان بها مثل العقائد والعبادات والأحكام القطعية واضحة ومفصلة تفصيلا تاما بالآيات العديدة الشارحة وبالسنة النبوية الصحيحة وليس فيه اجتهاد ولا تغيير. أما ما يختلف باختلاف الزمان والمكان فقد جاء يحتاج لاجتهاد العلماء حسب عصر...وأمة الإسلام واحدة بمعنى أنها واحدة في دينها وثقافتها واقتصادها وقواعدها ونظمها الاجتماعية وواحدة في مفاهيمها السياسية وغيرها من النواحي الحضارية".[35] ويكفي الإسلام يقينا مطلقا، وتكريما عظيما، وشرفا عاليا، وكمالا ليس محدودا ولا منقوصا، وديمومة أبدية، وشمولية تامة، وكونية صالحة، وخيرا لا ينضب، وعقيدة الفطرة السليمة والمحجّة البيضاء، وخاتم الرسالات، وسبيل الخلاص في الدنيا والآخرة، وأنّه دين الله الذي اختاره الله وارتضاه لعباده، ونزّله على نبيه ورسوله وحفظه من كل مكروه.
الهوامش:
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق