• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

كيف نحاسب أنفسنا؟

مركز نون للتأليف والترجمة

كيف نحاسب أنفسنا؟
◄تمهيد: بعد أن تعرّفنا على أمراض القلوب، وعرفنا بعض العقبات الكؤود التي تحول دون تهذيب النفس؛ كحبّ الدنيا والعصبيّة، وعرفنا أهميّة التقوى ومدى حثّ الإسلام عليها وربط الأحكام بها، لابدّ لنا بعد ذلك من أن نقدّم مرحلة عمليّة مهمّة في بناء النفس، وهي المراقبة والمحاسبة. وتبرز أهميتها بأنها العامل الأساس للوصول إلى التقوى وتهذيب النفس.   1-    تعريف المراقبة والمحاسبة: المراقبة هي أن يراقب الإنسان نفسه عند الخوض في الأعمال في كلّ حركة وسكون. لذلك تكون المراقبة عامل وقاية من الذنوب والأمراض. والمحاسبة هي أن يعيّن الإنسان وقتاً في كلّ يوم يحاسب نفسه بموازنة طاعاته ومعاصيه العمليّة منها والنفسية، لذلك تكون المحاسبة عامل علاج من الذنوب والأمراض بعد الأعمال.   2-    أهميّة المراقبة والمحاسبة: لكي ندرك أهميّة المراقبة والمحاسبة علينا أن نلاحظ الأمور التالية: أ‌-     تسجيل الأعمال: حيث يستفاد من القرآن الكريم أنّ كلَّ أعمالنا، حتى الأنفاس والأفكار والنوايا محفوظة في صحيفة أعمالنا، وتبقى ليوم القيامة لتكون ماثلة أمامنا. وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكننا الغفلة عن عواقب هذه الأعمال، وعدم المبادرة إلى مراقبة أنفسنا والانتباه إلى أقوالنا وأعمالنا ونوايانا؟! يقول تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 6-8). وفي آية أخرى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا) (آل عمران/ 30). وفي آية ثالثة: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق/ 18). ب‌- الحساب على الأعمال يوم القيامة: إنّ الحساب يوم القيامة حساب دقيق، حيث لا تترك صغيرة أو كبيرة إلّا ويحاسب عليها المرء يوم القيامة يقول تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء/ 47). وفي آية أخرى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) (البقرة/ 284). ويقول تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف/ 49). إنّ جميع أعمال الإنسان وأقواله وأفكاره وعقائده تأتي معه يوم القيامة، ليحدّد مصيره يوم القيامة على ضوء هذا الحساب، الذي تختلف مدّته وشدّته بين شخص وآخر، حيث إنّ بعض الناس يكون حسابه شديداً وطويلاً، وبعض آخر يكون حسابه سهلاً يسيراً. فعن رسول الله (ص): "والذي نفسي بيده إنّه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصلّيها في الدنيا"[1]. ولذلك كلِّه فإنّ على الإنسان أن يكثر من مراقبة نفسه، لتبقى تحت سيطرته.   3-    ثمرة المحاسبة: إنّ لمحاسبة النفس ومراقبتها نتائج وثمار متعددة نشير إلى بعض منها:: أ‌-     الشعور بالندم والبدء بالاستغفار: مع ملاحظة شروط الاستغفار. ب‌- التعويض: وذلك من خلال تدارك ما فاته بأمور خيّرة كثيرة ليمحو ما مضى من ذنوبه قال تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) (هود/ 114). ت‌- التزوّد: وهو الدخول في كثير من المستحبّات والأعمال الفاضلة لتثقيل الميزان يوم القيامة. ففي وصيّة النبي (ص) أنّه قال: "يا أبا ذر! حاسب نفسك قبل أن تُحاسب، فإنّه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن، وتجهَّز للعرض الأكبر يوم لا تخفى على الله خافية"[2].   -        مراحل محاسبة النفس: إنّ محاسبة النفس ليست بالأمر السهل، ولابدّ أن تتمّ هذه العمليّة في ثلاث مراحل حتى يعتاد الإنسان عليها: 1-    المشارطة والعهد: فيخلو الإنسان إلى نفسه، فيعظها ويطلب منها أن تغتنم عمرها، وبالتالي يأخذ منها العهد بألّا ترتكب المعصية ولا تترك الطاعة، وكذلك يستطيع أن يتوجّه إلى لسانه ويحذّره الغيبة، والكذب، وبقيّة المعاصي التي تؤدّي إلى إفساد حياته في الآخرة، ويأخذ منه العهد على ألّا يقع في هذه المحرّمات، والشيء نفسه يمكن أن يفعله مع بقيّة الجوارح. 2-    المراقبة: بعد الانتهاء من المعاهدة، تبدأ مرحلة مراقبة النفس، من أجل أن نردعها عن محاولة التخلي عن الالتزام بالعهد، فمن كان دائماً في حال ذكر الله تعالى، ويرى أنّه في محضره عزّ وجلّ، فإنّه سيلتفت دائماً إلى نفسه وإلى عهده، ويداوم على مجاهدتها ولا يغفل عنها، يقول الإمام علي (ع): "إنّ الحازم من شغل نفسه فأصلحها وحبسها عن أهوائها ولذّاتها فملكها، وإنّ للعاقل بنفسه عن الدنيا وما فيها وأهلها شغلاً"[3]. 3-    حثّ النفس وعتابها: بعد انتهاء المراقبة، يجب أن يحدّد الإنسان ساعة كلّ يوم من أجل أن يحاسب نفسه، ولعلّ الوقت الأفضل هو وقت المساء، فيجلس ليرى ما فعله في نهاره ساعةً بساعة، فإن فعل خيراً حمد الله تعالى على توفيقه لفعل الطاعة، وإن فعل المعصية وبَّخ نفسه وانتهرها، وأعلن توبته لله تعالى وخاطبها: أيتُها النفس المحرومة، لقد أعطاك الله، ما أعطاك حتى تصبحي من المقرّبين، فماذا تفعلين؟ لقد كفرتِ بنعمة الله، وتجعلين نفسك وقوداً لسجّيل؛ فلا يزال يشدّد عليها حتى تنزجر، يقول الإمام علي (ع): "من وبَّخ نفسه على العيوب ارتدعت عن كثرة الذنوب"[4]. إنّ حساب النفس من الأهمية بمكان، فإنّ الإمام الكاظم (ع) جعله مقياساً لمن ينتمي إلى أهل البيت (ع)، يقول (ع): "ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإنّ عمل سيئاً استغفر الله وتاب إليه"[5]. وبالتالي إنّ من يدرك شدّة الحساب يوم القيامة، فلابدّ أن يسعى لتخفيف حسابه وجعله يسيراً، وهو ما يتطلّب أن يحاسب نفسه في الدنيا، مستفيداً من المشارطة والمراقبة، وهو ما يعني تزكية نفسه وتهذيبها لتبتعد عن المعصية وتقترب من الطاعة وتقدم على فعل الخيرات.   -        الخاتمة: 1-    المراقبة هي أن يراقب الإنسان نفسه عند الخوض في الأعمال. والمحاسبة هي تعيين وقت لموازنة طاعاته ومعاصيه. 2-    إنّ من العوامل المهمّة لتزكية النفس، مراقبتها ليمنعها من المعصية. 3-    إنّ كلّ أعمال الإنسان صغيرها وكبيرها تكون مسجَّلة يوم القيامة. 4-    يحاسب الإنسان يوم القيامة حساباً دقيقاً على كلّ معتقداته وأفكاره وأعماله وأخلاقه. 5-    يستطيع الإنسان أن يحاسب نفسه في الدنيا، فيخفّف حسابه في الآخرة. 6-    لابدّ للمرء أن يأخذ العهد من نفسه على عدم ارتكاب معصية ما أو فعل قبيح. ثمّ يراقبها فإن وفت بعهدها شكر، وإلا أغلظ عليها واستغفر.   -        المشارطة والمراقبة والمحاسبة: من الأمور الضرورية للمجاهد المشارطة والمراقبة والمحاسبة، فالمشارط هو الذي يشارط نفسه في أوّل يومه على أن لا يرتكب اليوم أيّ عمل يخالف أوامر الله، ويتّخذ قراراً بذلك ويعزم عليه. وواضح أنّ ترك ما يخالف أوامر الله، ليوم واحد، أمر يسير للغاية، ويمكن للإنسان بكلّ سهولة أن يلتزم به. فاعزم وشارط وجرّب، وانظر كيف أنّ الأمر سهل يسير. ومن الممكن أن يصوّرك لك إبليس اللعين وجنده أنّ الأمر صعب وعسير. فأدرك أنّ هذه هي من تلبيسات هذا اللعين، فالعنه قلباً وواقعاً، وأخرج الأوهام الباطلة من قلبك، وجرّب ليوم واحد، فعند ذلك ستصدّق هذا الأمر. وبعد هذه المشارطة عليك أن تنتقل إلى "المراقبة"، وكيفيّتها هي أن تنتبه طوال مدة المشارطة إلى عملك وفْقَها، فتعتبر نفسك ملزماً بالعمل وفق ما شارطت، وإذا حصل – لا سمح الله – حديث لنفسك بأن ترتكب عملاً مخالفاً لأمر الله، فاعلم أنّ ذلك من عمل الشيطان وجنده، فهم يريدونك أن تتراجع عمّا اشترطته على نفسك، فالعنهم واستعذ بالله من شرّهم، وأخرج تلك الوساوس الباطلة من قلبك، وقل للشيطان: "إنِّي اشترطت على نفسي أن لا أقوم في هذا اليوم – وهو يوم واحد – بأيّ عمل يخالف أمر الله تعالى، وهو وليّ نعمتي طول عمري، فقد أنعم وتلطّف عليّ بالصحة والسلامة والأمن وألطاف أخرى، ولو أني بقيت في خدمته إلى الأبد لما أدّيت حقّ واحدة. منها، وعليه فليس من اللائق أن لا أفي بشرط بسيط كهذا"، وآمل – إن شاء الله – أن ينصرف الشيطان، ويبتعد عنك، وينتصر جنود الرحمن. والمراقبة لا تتعارض مع أيّ من أعمالك، كالكسب والسفر والدراسة، فكن على هذه الحال إلى الليل ريثما يحين وقت المحاسبة. وأمَّا "المحاسبة" فهي أن تحاسب نفسك لترى هل أدّيت ما اشترطت على نفسك مع الله، ولم تخن وليّ نعمتك في هذه المعاملة الجزئية؟ إذا كنت قد وفيت حقّاً، فاشكر الله على هذا التوفيق، وإن شاء الله ييسّر لك سبحانه التقدّم في أمور دنياك وآخرتك، وسيكون عمل الغد أيسر عليك من سابقه، فواظب على هذا العمل فترة، والمأمول أن يتحوّل إلى ملكة فيك بحيث يصبح هذا العمل بالنسبة إليك سهلاً ويسيراً للغاية، وستحسُّ عندها باللذة والأنس في طاعة الله تعالى وترك معاصيه، وفي هذا العالم بالذات، في حين أنّ هذا العالم ليس هو عالم الجزاء، لكن الجزاء الإلهي يؤثّر ويجعلك مستمتعاً وملتذّاً بطاعتك لله وابتعادك عن المعصية. واعلم أنّ الله لم يكلّفك ما يشقّ عليك به، ولم يفرض عليك ما لا طاقة لك به ولا قدرة لك عليه، لكنّ الشيطان وجنده يصوّرون ذلك الأمر وكأنّه شاقٌّ صعب.

وإذا حدث – لا سمح الله – في أثناء المحاسبة تهاون وفتور تجاه ما اشترطت على نفسك، فاستغفر الله واطلب العفو منه، واعزم على الوفاء بكلّ شجاعة بالمشارطة غداً، وكن على هذا الحال كي يفتح الله تعالى أمامك أبواب التوفيق والسعادة، ويوصلك إلى الصراط المستقيم للإنسانيّة.

الهوامش: [1]- مجمع الزوائد، ج1، ص337. [2]- الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج11، ص379. [3]- غرر الحكم، ص126، حكمة 100. [4]- م.س، الغرر، ص368 ح1556.

[5]- الكليني، الكافي، ج1 ص453.

    المصدر: كتاب دروس في تزكية النفس

ارسال التعليق

Top