◄منذ البدء كان الحوار.
فتح الله سبحانه وتعالى بابه على مصراعيه.
أراد خلق آدم فحاور الملائكة في خليفته الذي سيخلفه في إعمار الأرض.
وطلب من (إبليس) أن يسجد لمخلوقه الطينيّ، فأبى واستكبر، في حوار يكشف عن غرور هذا المخلوق الناريّ.
وفي وقتٍ لاحق، جرى الحوار حول الشجرة الممنوعة بين الشيطان وبين آدم وحواء، وكان الشيطان يحاول بمحاورته أن يغرّر بأبينا وأمّنا ليغريهما بالأكل من تلك الشجرة.. وصدّقناه.
وتحرك الحوار بين (قابيل) و(هابيل) ابني آدم اللذين قرّبا قرباناً فتُقبّل من أحدهما ولم يُتقبّل من الآخر، ليكون من جهة (هابيل) حواراً عقلياً هادئاً، ومن جهة (قابيل) غريزياً عنيفاً.
ثمّ تدرّج الحوار بعد ذلك ليكون بين الأنبياء – عليهم السلام – وبين أقوامهم لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وقد اهتدى مَن اهتدى وضلّ مَن ضلّ.
ومنذ البدء أيضاً، كان هناك طريقان: (طريق العنف) الذي سلكه (قابيل) و(طريق الحوار) الذي سلكه (هابيل)، ولكنّ الله سبحانه وتعالى أكّد على (الحوار) كمنهج تقريبي، تحبيبي، تعارفي، وعلى نبذ (العنف) كخط أعوج أهوج لا يفضي إلّا إلى الدمار، واعتبر (العنف) أي القتال آخر الدواء بعدما تفشل كلّ الطرق السلمية للحوار والتفاهم.
لماذا الحوار؟
لقد جرّبت حتماً إجراء حوارات عديدة سواء مع والدك أو والدتك أو إخوتك أو أصدقائك في المحلّة أو المدرسة أو العمل. وربّما حاورت معلّمك أيضاً حول قضية أو مسألة يدور الخلاف حولها، واحببت أن تتعرّف على رأيه، ولتصل بعد النقاش إلى تكوين فهم واضح لها، ولعلّك حاورت إمام المسجد في العقيدة أو الشريعة، أو اشتركت في حلقة حوار مع زملائك في النادي الذي تنتسب إليه..
فماذا جلبت لك تلك الحوارات؟
هل شعرتَ أنّها تقرّبك من الآخر، أباً أو أمّاً أو أخاً أو صديقاً أو معلماً أو إماماً أو زميلاً، أكثر؟
هل أدركت أنّ الحوار طريق أو جسر يوصلك إلى قلب وعقل من تحاوره؟
هل لمست أنّ الحوار يفتح آفاقاً ربّما لم تكن تستطيع فتحها لو لم تدخل في حوار مباشر مع الآخرين؟
هل تأكّد لديك أنّ الحوار يساعدك في تكوين قناعات مشتركة بينك وبين محاوريك، ولولا الحوار لكان كلّ منكما صندوقاً مقفلاً؟
هل أحسست فعلاً أنّ الحوار (مفتاح) يفتح الصناديق المقفلة؟
وهل ثبت لديك أنّك بالحوار تنجح في رفع الصور المشوهة عمّن كنت تحمل عنهم تصورات معيّنة مبالغاً فيها أو خاطئة؟
هل أعطاك الحوار انطباعاً عن معرفة ذاتك وقيمة ما تحمل من فكر وعلم وثقافة؟
إذا كان جوابك بالإيجاب، فأنت إنسان حضاري تتقن لغة الحوار وتجيد استعماله كأسلوب من أساليب الخطاب والتفاهم والتواصل مع الآخرين.
فلقد تأكّد – والقرآن خيرُ شاهد – أنّ الحوار هو أفضل السبل على الاطلاق سواء في بناء فهم مشترك، أو فضّ نزاع، أو حلّ مشكلة، أو إيصال فكرة معينة، أو تنضيجها، أو تطويرها. ولذا فإنّ فوائد الحوار المتوافر على الشروط والأدوات المناسبة، كثيرة، منها:
1- يمكن تشبيه الحوار بالنافذة التي تطلّ منها على محاورك، ويطلّ هو منها عليك. فأنت بالحوار تعرف شخصية المحاور وفكره وتطلّعاته واشكالاته وهمومه وربّما بعض أسراره، مثلما يعرف هو فيك ذلك.
2- بالحوار تتعرّف على قدرتك في إيصال الأفكار والإقناع والبرهنة على آرائك وطروحاتك، كما تتعرف على الثغرات الموجودة في هذه الآراء والأفكار.
3- يلعب الحوار دوراً مهماً وبارزاً في حلّ الكثير من الخلافات، وإذابة الجليد المتراكم، أو إزالة الحواجز النفسية والتصورات الظالمة أو الخاطئة. وربّما حدث لك إنّك كنت تكره شخصاً من دون سبب وجيه، إمّا لأنّك لا ترتاح لشكله أو بعض تصرّفاته، وإمّا أن تكون قد سمعت عنه ما يشوّه صورته في عينيك، لكنّ الصدفة أو الاتفاق جمعك به ودار بينكما حوار هادئ وعميق، فإذا بك تكتشف في ذلك الشخص نقاطاً مضيئة وجميلة ما كان بإمكانك الإطلاع عليها من مجرد النظرة الخارجية أو مجرد النقل والسماع.
ولابدّ أنّك جرّبت أيضاً كيف أنّ الحوار أزال الكثير من سوء الفهم بينك وبين شخص آخر، ولو كنتَ بعيداً عنه وكان بعيداً عنك، أي لم تجمعكما جلسة حوار لزاد سوء الفهمِ سوءاً وتعقد وتشابك، وربّما تحوّل إلى نزاع، لكنّ إقبالك على محاورته وتوضيح موقفك له، وتوضيح موقفه لك، بدّد سوء الفهم والأفكار المغلوطة، وأحلّ محلّ ذلك ابتسامة الرضا والتوافق على وجهيكما!
وإذا لم تكن جرّبتَ ذلك.. فجرّبه منذ الآن، وستجد أنّ النتيجة التي ذكرناها حتمية.
4- الحوار منهج تربوي.. فحديث والديك معك فيما ينفعك في الحاضر والمستقبل، وأسئلتك لهم في هذا وفي غيره، والنقاش الأسري حول أيّة مسألة منزلية هو حوار يبني الشخصية.
وأسئلتك لمعلّمك ولعالم الدين وللشخص الذي تثق بدينه وثقافته وتجربته، إاجابتهم عليها، والأخذ والردّ الحاصل في أثناء ذلك، هو حوار يعزّز قناعة، ويزيل شبهة، ويزرع فكرة، ويزيد في النشاط، ويصحح بعض المفاهيم المغلوطة. وما يدريك فقد تجري تعديلاً على أسلوب حياتك من خلال حوار، وفي كلِّ الأحوال فأنت تتربّى من خلال حواراتك.
5- هل حصل معك – ذات مرّة وأنت تناقش أو تحاور شخصاً، أنّ أفكاراً جديدة تنبثق في ذهنك من خلال حوارك معه؟ ألا يدفعك الحوار أحياناً إلى القيام بعمل ما؟ أو الكتابة في موضوع ما؟ أو التحرك باتجاه مشروع ما؟
إنّ ذلك يشبه – إلى حد كبير – تلك الأفكار التي تقفز إلى ذهنك وأنت تقرأ كتاباً نافعاً، فالأفكار تولّد الأفكار، وربّما تولّد الأساليب أيضاً. ولذا فإنّ اجتماع الرأي مع الرأي، وامتزاج الفكرة بالفكرة من خلال محادثة أو حوار أو مناقشة، قد ينضّج الكثير من المسائل، ويفتح العديد من آفاق التفكير والعمل، وبالتالي فالحوار أسلوب من أساليب التكامل.
بعكس ما لو دارت الأفكار في الرأس دون تقليب أو تشذيب بالحوار، فقد تكون أفكارك صحيحة لكنها لا تصل إلى النضج إلّا بالنقاش والحوار وسماع الآراء والمؤاخذات التي قد تُسجّل عليها.
إنّ الذين قطعوا شوطاً طويلاً في الحوار يؤكدون لك هذه الحقيقة، وهي: إنّ هناك ترابطاً وثيقاً بين (الحوار) وبين (الإنتاج) وبينه وبين (الإبداع). وبناء على ذلك يمكن ملاحظة أنّ عصور التخلّف التي يُطلق عليها بـ(العصور المظلمة) هي العصور التي تقلّص فيها الحوار أو انعدم.
6- وقد لا يكون بينك وبين آخر خصام أو نزاع حول شيء معيّن، لكنّه يحمل بعض الشبهات والاشكالات والتصورات الخاطئة والمضادّة التي سمعها أو قرأها عنك. فإذا توقف عندها مصدّقاً سقطتَ في عينيه، ويكون الذين حاولوا تشويه سمعتك أو صورتك في ذهنه قد نجحوا في مسعاهم. فإذا حاورته أو حاورك حول ذلك كلّه، واستفرغ جميع علامات الاستفهام التي تدور في ذهنه، وامتصصت إشكالاته ورددت عليها ردّاً لطيفاً مقنعاً، فربّما انقلب إلى صديق صدوق وأخ مخلص وكبرت في عينيه، ولهذا قال النبيّ (ص): "لو تكاشفتم لما تدافنتم".
والمكاشفة لا تتم إلّا بالحوار، وقوله (ص): (لما تدافنتم) أي لما بقي شيء دفين في داخل كلّ من المتحاورين المتصارحين من بُغضٍ أو سوء ظن أو ما أشبه ذلك.
منهجان:
لابدّ من التنبيه إلى أنّ الحوار رغم كونه أسلوباً حضارياً في التخاطب والتفاهم وتسوية الخلافات والصراعات وتنضيج الرؤى، لكننا لا نلجأ إليه دائماً. فقد نعمد إلى استخدام القوة أو التهديد أو الشتائم أو الحاق الأذى المادي والمعنوي بالآخر لأنّنا نعجز عن إقناعه بالحوار الهادئ المتزن السليم الذي يعبّر عن إنسانية الإنسان، وعن تقديره لقيمة عقله وعقل غيره.
وعلى هذا، فالشاب أو الفتاة اللذان يمارسان الأسلوب الثاني في التعامل، أي انّهما يستخدمان (أسلوب العنف) لا (أسلوب الحوار) قد يُتهمان أو يوصفان بأنّهما همجيان، أو متخلّفان، أو انفعاليان.
لقد كان أمام (قابيل) فرصة لأن يستخدم عقله ويحكّمه في النزاع الدائر بينه وبين أخيه، وهو في الحقيقة نزاع من طرف واحد، أي من طرف قابيل وحده. فلو حاوره وجادله بالتي هي أحسن، فلعلّه يقرّ بالحقيقة التي يكشفها الحوار العقليّ، لكنّه آثر استخدام المنهج الآخر واعتماد أسلوب العنف الذي أدّى إلى قتل أخيه.
ولذا فقد ظهرت صورته أمامنا صورة الإنسان الذي لا يتفاهم ولا يتحاور ولا يستخدم المنطق في علاج المشكلة التي نشبت بينه وبين أخيه. أمّا (هابيل) وبقطع النظر عن براءته وكونه الضحيّة التي تثير الألم في نفوسنا، فإنّنا نحمل عنه صورة الإنسان المتعقل الواعي والمحاور الذي لا يقابل العنف بالعنف (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (المائدة/ 28). أي أنّ هابيل كان يمتلك أسلوباً آخر في الاقناع والمحاججة وهو أسلوب الحوار.
ولعلّنا لا نغالي إذا قلنا إنّ كثيراً من حالات المواجهة بالعنف – فردية كانت أو جماعية – كان يمكن تفاديها فيما لو اعتمد الحوار كأسلوب من أساليب الحسم[1].
وإذن فإمّا (الحوار) كوسيلة إيجابية للوصول إلى عقل وقلب الآخر، وأمّا الوسائل أو البدائل السلبية، وهي العنف والشتائم والاتهامات والتراشق بالكلمات المبتذلة والنابية والجارحة سواء باللسان أو الكتابة، أو بالغيبة باعتبارها نقداً سلبياً يعبّر عن عجز، أو التكفير والتهميش والتسقيط والغاء الآخر، وهي وسائل تلبّد الأجواء بغيوم البغض، وسموم الحقد والكراهية وتعميق الجراح.
فيما الحوار والمحادثة والمناقشة والمجادلة بالتي هي أحسن، تنقّي الأجواء وتصفّيها، وكم أعاد الحوار المبني على أسس صحيحة المياه إلى مجاريها، فرأب الصدع، وردم هوّة الخلاف، وجمع ما فرّقه ومزّقه العنف.
وزبدة القول، إنّ هناك منهجين أو منطقين، منطق الحوار ومنطق القوّة، وقد نحتاج الثاني أحياناً لتركيز الأوّل خاصّة مع الذين لا يفهمون إلّا لغة القوّة، والذين يعتبرون لغة الحوار لغة الضعف والهزيمة.
قنوات الحوار:
للحوار قنوات مباشرة وغير مباشرة.
والمباشر منها: اللقاء وجهاً لوجه، وهو من صيغ الحوار الأكثر نفعاً لما يكتسبه الحوار من حرارة الجدية والتعاطي عن كثب. وهو قد يكون هادئاً عقلانياً وبذلك يمكن التوصل إلى معرفة الحقيقة من خلاله، وقد يكون حاداً أو انفعالياً بحيث ينقلب إلى ملاسنة، وبذلك يخرج عن معنى الحوار الجاد والهادف.
ومنها (الندوة) وهي التي يحاور فيها الجمهور متحدثاً واحداً أو أكثر. وفائدة الندوات الحوارية أنّها تقيم جسراً بين المتحدثين وبين المشاركين، فلا يكون كلام المحاضر أو المتحدث في الندوة نهائياً، وإنّما هو يطرح رأيه والجمهور يطرحون آراءهم، أي أنّ هناك دوراً مهماً للمداخلات والأسئلات مما يضفي على الموضوع محور الندوة إثراء لبعض الأفكار، أو إعادة نظر في البعض الآخر، وبالتالي فإنّ زمن الندوات ذات الطرف الواحد التي يتحدّث فيها الخطيب أو المحاضر، ويكون دور الجمهور فيها دور المتلقّي السلبي، قد ولّى وانقرض. فللمتحدث اليوم كلمته وللمستمع كلمته، وقد يلتقيان وقد يفترقان.. والفيصل هو الحوار.
ومنها (غرف الدردشة) ومقاهي الانترنيت والتي يدور فيها الحوار بين اثنين أو أكثر حول موضوع يتطارحونه ويبدي كلّ منهما وجهة نظره ويدافع عنها بما يشاء في حدود أدب الحوار المتعارف.
وهذا اللون من الحوار مباشر وغير مباشر، مباشر لأنّه يجري في نفس اللحظة لكنّه لا يجري في نفس المكان، وإن كان الجامع المشترك هو غرفة الدردشة. ومن منافعه أنّه يتيح تقريب المسافات وإجراء الحوار مع أشخاص من مختلف أنحاء العالم.
وأمّا الطرق غير المباشرة للحوار فهي النصوص المكتوبة، كما في كتب المناظرات أو المراجعات أو الهوامش أو الردود أو التعليقات، والفائدة منها أنّها يمكن توسيع دائرة الإفادة منها حينما تطرح بين يدي جمهور القرّاء الذين يمثلون دور الحكم في ذلك.
وقد تدخل الرسائل الشخصية أو الإخوانية التي تناقش موضوعاً ما في إطار هذا اللون من الحوار، خاصة رسائل العتاب والنقد والمكاشفة.
وبالنتيجة، فالحوار حاجة أساسية ولا نقول عصرية، فلقد اتّضح أنّ الحوار انطلق منذ فجر البشرية، وإذا كانت بعض الشعوب والأُمم قد تخلّت عنه فبسبب من تخلّفها وميلها إلى الجمود والتقوقع. وإلّا فأنت حينما تقرأ قوله تعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13)، تفهم منها ثلاثة أمور مهمّة:
1- التنوّع والتعددية، فالبشر ليسوا نسخاً متكررة، بل حتى الحديث الجاري اليوم عن إمكانية استنساخ الجنس البشري لا يمثل الوحدة العقلية والنفسية والعملية، وإنما الوحدة الشكلية الصورية، وإلّا فالتنوع بطبيعته إثراء وسعة.
2- التعارف، وحتى يتحقق الإثراء والسعة من عملية التنوع، لابدّ من عمليات تعارف واسعة النطاق من أهم معالمها التبادل المعرفي بين البشر، ولا يتم ذلك إلّا بالحوار، وهذه مسألة حياتية تكاد تكون يومية، فقبل أن تبدأ العمل مع أي شخص أو مؤسسة لابدّ أن تكون فاتحة العهد بينك وبينها (الحوار)، فهو الذي يعرّف كلا منكما بالآخر.
3- الأفضلية، أي الأرجحية بين الأشخاص والشعوب والأُمم، فالتنوع في الأفكار والممارسات يثري البشرية في آفاقها المتعددة، والتعارف سبيل الإفادة من هذا التنوع، لكنّ المعيار الأكبر[2] للأفضلية بين شخص وشخص وأمّة وأمّة هو (التقوى) والإيمان بالله وامتثال إرادته.
الهامش:
[1]- يجري الحديث اليوم بين الدول المتصارعة والمتقاطعة عن (حوار الحضارات) بعد أن وصلت إلى قناعة أنّ هذا هو الأسلوب الأجدى والأمثل من (صدام الحضارات) أو صراعها، وذلك جرّاء ما عانته من ويلات الحروب والمطاحنات.
[2]- نقول (المعيار الأكبر) لأنّ هناك معايير أخرى للتفاضل! كالعلم والعمل. هذان المعياران إذا لم تكن (التقوى) وهي معرفة الله وطاعته، رائدة لهما، كانا مجرد تفاخر وتباهي وتكاثر ومشاطرة واحتراب ونفي للآخر.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق