وقد يلجأ الغني إلى القرض بفائدة، وهو بهذا لا يتحمل منّة المقرض، لأنّه يدفع له ثمن الزمن. وقد يفضل الغني أن يعمل بمال غيره إلى جانب ماله الخاص من أجل توزيع المخاطر بينه وبين دائنيه. كما قد يرغب في الاستدانة لأنّ الدين يعمل له بمثابة رافعة لرأس ماله، فيزيد إيراداته وأرباحه، ولو أنّه يدفع الفائدة، لأنّ ما يتبقى له بعد دفع الفائدة ليس بالأمر القليل، لاسيّما إذا كانت الفائدة تافهة أو سالبة بمعيار المعدل الحقيقي لا الاسمي.
وربّما عمل الإنسان بمال غيره دون مال نفسه، كما في شركة الوجوه المعروفة في الفقه الإسلامي. وهناك اليوم أفراد ومنشآت وشركات تعمل بأموال الغير أكثر من أموالها الخاصة الذاتية، مثل البنوك التي تبلغ ودائع الغير فيها أضعاف رأس مال البنك.
وربما ينظر الإنسان إلى المدينين من الأفراد والشركات والدول نظرة إشفاق من حيث إنّهم مثقلون بالديون، ولكن قد تكون الحقيقة غير ذلك. فقد يُقبل الإنسان على الاستدانة لأنّه يريد أن يعمل بمال غيره، ويخاطر به، وهو أكثر ميلاً للمخاطرة بمال الغير من المخاطرة بمال نفسه، وهو أقل حرصاً على مال غيره من مال نفسه.
كما قد يستدين الغني على أمل أن يستفيد من التضخم وهبوط القوة الشرائية لمبلغ الدين، بحيث إنّ الفائدة التي يدفعها هي فائدة تافهة أو صفرية أو سالبة، بما يعني أنّ معدل التضخم أعلى من معدل الفائدة، وبهذا يحصل المدين على أموال الغير بالمجان، بل ربّما يأخذ المدين الفائدة من الدائن بدل أن يدفعها المدين إلى الدائن! هات مالك وادفع أنت!
كما قد يستدين المدين على أمل أن يتهرب من السداد، وربّما يأخذ المال ويهرب في الداخل أو إلى الخارج، وقد يعمل ضمن عصابة دولية، أو يأخذ المال على أمل أن يعفى من سداده في المستقبل جزئياً أو كلياً.
وقد يعلن إفلاسه ويجعل دائنيه يقتسمون ما تبقى من ثروته قسمة غرماء إن بقي منها شيء، وقد لا يُبقي لهم شيئاً.
ثمّ إنّ الديون إذا طال أمدها أو تأبدت، ونُظمت بحيث إنّ الدائن إذا خرج حلّ محله آخر، وهذا يتم عن طريق توريق الديون في صورة سندات وتداولها، في هذه الحالات يكون مالك الدَّين هو المدين، وليس الدائن. أمّا الدائن فهو واهم إذا حسب أنّه هو المالك وحقيقة الأمر أنّه ليس كذلك.
وقد يتعجب المرء من أنّ دولاً نفطية غنية بالنقود، لديها فائض نقدي كبير، كيف تستدين وتصدر سندات أو صكوكاً بفائدة (متبرّجة أو متبرقعة) لكي تكون مدينة، شأنها في ذلك شأن الدول المحتاجة والفقيرة! أين هذه الفوائض؟ هل هي ملك عام أم ملك خاص؟ هل الاستدانة موضة، أم فريضة، أم مطمع، حتى لو كان المستدين غنياً؟! هل هناك رغبة عالمية ومعلومة في أن تكون كلّ الدول مدينة، بطريقة أو بأخرى، لكي يستوي الجميع في البلاء؟ ما الغرض الحقيقي من الاستدانة؟ لماذا تستدين أمريكا ولا نستدين نحن؟ ما أحد أحسن من أحد! كم هي الفوائض وكم هي الديون؟ احسبوها! هل نستدين ليكون الدَّين (أو سندات الدين) أداة من أدوات السياسة النقدية، أم ليكون أداة من أدوات المضاربة على الأسعار في بورصة الأوراق المالية؟
كانوا يقولون قديماً: الدَّين همّ بالليل وذلّ بالنهار، واليوم صار الدين مطمحاً بالليل وفخراً بالنهار وشطارة. عالمنا عالم ديون، سواء على مستوى الدول أو على مستوى الأفراد والشركات. عالمنا عالم يستدين فيه الغني من الفقير ويبتزّه! مَن الذي فصّل لنا هذا العالم؟ اللّهمّ إنا نعوذ بك من غَلبة الدَّين وقهر النظم السائدة.
المصدر: كتاب الأزمة المالية العالمية (هل نجد لها في الإسلام حلاً)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق