المطلب الأول
طبيعة الفقر وموقف الإسلام منه
الفرع الأول
مضمون لفظ الفقر
يستلزم البحث العلمي التحديد الدقيق لمضمون المتغيرات والمصطلحات الواردة به حتى تكون دراستها موضوعية ومحددة، ومن هنا كانت ضرورة تحديد المقصود بالفقر. ويجابهنا الموضوع بتشبعه، فهناك في اللغة له مضمون وبداخل ذلك هناك اتجاهات عديدة، وهناك في العرف الفقهي الإسلامي له مضمون، وبداخله أيضاً اتجاهات متنوعة. ومهما يكن الأمر فانّ دراسة المضمون تأخذ أحد بعدين.
البعد الأول: هو المعنى النسبي
فالفقر يعنى التفاوت. فالشيء الأقل يعد فقيراً بالنسبة للأكثر في مختلف المجالات. وهنا لا يسع الإسلام إلا الاعتراف به، إذ هو يعكس التفاوت في حد ذاته وهو سنة كونية، وبداخل هذا الموقف المبدئي نجد أنّ التفاوت قد يعكس الفجوة المتسعة بين الأقل دخلاً والأكثر دخلاً من الأفراد، بحيث يقال أنّ هناك سوء توزيع للدخل، في تلك الحالة نكون أمام فقر بمعناه النسبي إلا أنّ موقف الإسلام منه يغاير موقفه من أصل التفاوت فلا يعترف به. والمقصود بالتعرف هنا هو أنّ الفقر قد يعكس التفاوت الشديد في مستويات المعيشة. ونحن هنا ما زلنا بداخل المضمون النسبي أي النظر إلى العلاقات بين الأشياء والأشخاص.
البعد الثاني: هو المعنى المطلق
والمقصود به هو مدى إمكانية الفرد إشباع حاجاته، بغض النظر عن موقف الغير. ومن هذه الزاوية يمكن تعريف الفقر بأنّه تحقيق حد الكفاية وفي داخل هذا المعنى يناقش علماء الإسلام الوضع على مستويين. ويرجع ذلك إلى نوعية الحاجات غير المشبعة هل هي الضرورية التي لا يوجد الإنسان بدونها والتي تمثل بالحد الأدنى من السعرات الحرارية اللازمة لجسم الإنسان؟ أم هي الحاجات المعتادة للإنسان والتي بفقدها لا يفقد الإنسان وجوده وإنما يفقد الإحساس بالعيش المعقول؟ وإذن فهناك مرحلتان يحتويهما مضمون الفقر بهذا المعنى، ويشملهما جميعاً مستوى ما قبل الغنى: مرحلة حد الكفاف، ومرحلة حد الكفاية. فحد الكفاف هو كما سبق أنّ الإنسان عنده يحفظ على نفسه مجرد البقاء، أما حد الكفاية فهو يتخطى المرحلة السابقة إلى مرحلة أخرى من إشباع لحاجات أقل ضرورة ولكنها لا غنى عنها لمعيشته الملائمة له داخل مستوى المعيشة السائد، وفيها يحقق الإنسان الحصول على السلع الضرورية والمعتادة وبداخلها يكون الإنسان فقيراً وبتمامها يكون عند حد الكفاية، الذي هو الحد الفاصل بين الغني والفقير.
نخلص مما تقدم بأنّ الفقر له معنى نسبي وله معنى مطلق، وأنّ محل دراستنا هو علاج الفقر بمعناه المطلق، وكذلك بمعناه النسبي إذا عكس التفاوت الواسع المفتوح.
الفرع الثاني
منشأ الفقر
إنّ التساؤلات المطروحة هنا تدور حول: هل معنى ما تقدم أنّه لن يوجد الفقر على الأرض والواقع؟ وبفرض وقوعه فكيف يمكن تفسيره؟.
وإجابة عن ذلك يمكن القول إنّ الفقر ـ رغم وفرة الموارد ـ سيوجد، ولكن التكييف الدقيق له عندئذ أنّه مرض اجتماعي، وليس قدراً مقدوراً، لا حيلة في دفعه بسعي أو كسب.
فالواقع أنّ الله عز وجل قد منحنا الموارد وأمرنا بالسعي. وإذن فلا يكون الفقر عندئذ إلا نتيجة أحد أمرين إما كسل أو عجز، كما عبر عن ذلك بعض المفكرين(1).
والفقرة التالية تحاول تفصيل القول في كيفية ظهور الفقر، فبعد أن تعرفنا على كفاية الموارد وعلى إمكانية إشباعها لحاجات الإنسان بقي أن نتعرف على منشأ تلك الظاهرة العرضية. وطبقاً لما يفاد مما تقدم، فإن سبب وجودها لا يخرج عن سلوك الإنسان، إذ مما تقدم تبين أنّ الإنسان مطالب أن يعمل على تحقيق وظيفته التي هي تعمير الحياة على أكمل وجه، ليعبد الله حق عبادته، وحتى يتسنى للإنسان القيام بذلك عليه أن يلتزم في سلوكه مع الطبيعة نمطاً معيناً، ويلتزم من ناحية أخرى في سلوكه مع بقية أفراد الإنسان سلوكاً معيناً.
وسلوك الإنسان مع الطبيعة يقوم على استغلالها بأقصى قدراته، وسلوكه مع الإنسان الآخر يقوم على أساس أنّ الأفراد معاً لبنات في بناء المجتمع، فلا غنى لبعضهما عن البعض الآخر، ومعنى ذلك أنّه يتحمل تجاه الآخرين بحقوق يجب النهوض بها، وإذا جاء سلوك الإنسان متفقاً وما يتطلبه ذلك لن توجد ظاهرة الفقر هذه، وإلا نشأت تلك الظاهرة. وإذن فسبب نشوء الفقر لا يخرج عن:
1-عدم قيام الإنسان بمسئولياته تجاه الطبيعة، فيترك ما يجب عليه من بذل الجهد والوسع، وبتعبير آخر عدم القيام بالمساهمة في العملية الإنتاجية مع إمكانية القيام بها.
2-عدم القيام بالإنتاج لعدم توافر إمكانيات القيام بذلك، لقصور في قدرات الفرد.
3-عدم قيام الإنسان بواجباته تجاه أخيه الإنسان، وإعطائه حقوق عمله وجهده في العملية الإنتاجية، أو حقوق عجزه وقصوره. وبتعبير آخر عدم القيام بتحقيق العدالة في توزيع الناتج.
هذا هو منشأ ظاهرة الفقر: إما تفريط في الإنتاج أو تفريط في التوزيع ولقد تبنى الإسلام المشكلة على هذا الأساس وقام بوضع المنهج الملائم لعلاجها.
الفرع الثالث
تقويم الإسلام للفقر
الهدف من تلك الفقرة هو محاولة التعرف على موقف الإسلام من الفقر، من حيث حكمه عليه هل هو شيء مرغب فيه أما منفر منه دون أن يتعرض الكلام لاكتشاف طريقة علاجه.
ويمكن التعرف على ذلك بأسلوبين يحققان نفس الغرض وهما:
الأسلوب الاستنباطي: ومعناه اكتشاف موقف الإسلام من الفقر من خلال موقفه من قضايا مختلفة لها انعكاسها المباشر الذي يعطى الحكم على ظاهرة الفقر على النحو التالي:
1-هل هناك تعارض بين الفقر وبين تحميل الإنسان عبء وظيفة حدد مضمونها فيما سبق استخلاصاً من مسئولية الخلافة؟ من تحليل مضمون الوظيفة السابق، وكذلك تحديد مضمون الفقر المتقدم، يتضح التعارض، إذ كيف يجتمع الفقر بمعنى عدم العثور على حد الكفاية مع مسئولية تعمير الأرض على أكمل وجه، وبالتالي توفير المزيد من السلع والخدمات التي يحتاج إليها الإنسان. إنّ اعتبار الفقر ظاهرة إيجابية "صحية" لا يتمشى مع مفهوم الخلافة.
2-ومن نفس المنطلق، هل هناك تعارض بين وجود الطبيعة بمواردها العديدة الكافية لإشباع كل حاجة، المهيأة للاستخدام وبين وجود الفقر؟ ومنطق الأشياء يعطي الإجابة بذاته. إن وجود الطبيعة على هذا النحو مع تكليف الإنسان القيام بوظيفته تجاه تلك الموارد يتعارض مع وجود ظاهرة الفقر كظاهرة طبيعية أصلية، إذ أنّ ذلك يدل بوضوح على عدم قيام الإنسان بواجبه تجاه الكون، فتظل تلك الموارد معطلة مهملة، غير مؤدية لما خلقت من أجله وبذلك يكون خلقها عبثاً في تلك الحالة إذ لأي شيء خلقت والعبث غير منصور في أعمال الله عز وجل، يقول تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ) (الحجر/85) (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون/115).
3- إنّ فطرة الإنسان المحتوية على جانب مادي له متطلباته المتزايدة ولا تتحقق سعادته إلا بإشباع الكثير منها، والمحتوية من جانب آخر على ملكه العلم والقدرة على استخدام الموارد والاستفادة المثلى منها، إنّ ذلك كله إن كان له منطق فمنطقه سيادة وضع الغنى وإشباع المزيد من الحاجات، أي معارضة وجود الفقر كوضع طبيعي مع توافر تلك الطيبات التي لا تقف عند حد إشباع الحاجة الضرورية فقط بل تزيد على التوسع والترفه، على حد تعبير الإمام الغزالي. هذا هو مضمون الأسلوب الاستنباطي في التعرف على موقف الإسلام من الفقر من حيث تقويمه له، ومنه يتضح موقف الإسلام من هذه الظاهرة.
الأسلوب الاستقرائي: والمقصود به اكتشاف الموقف من النص مباشرة ودراسة النصوص الإسلامية، سواء القرآنية منها أو النبوية أو كلام الصحابة توضح لنا موقف الإسلام من الفقر على النحو التالي:
أولاًـ النصوص القرآنية: من استقراء شبه تام لنصوص القرآن خرج الباحث بالملاحظات التالية:
1- لم يأتِ لفظ الفقر ولو مرة واحدة ـ فيما أحصى الباحث ـ على أنّه صفة ممدوحة، ويلاحظ أنّ ذلك لا يحمل ذم الإنسان الفقير، فقد يكون الفقر راجعاً إلى سبب قهري لا حيلة للإنسان في دفعه.
2- نجد بعض النصوص تفيد صراحة ذم الفقر. ويعتقد الباحث أن من ذلك قوله تعالى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) (آل عمران/ 181).
3- بعض النصوص تورد تلك الصفة إسماً مشتقاً "فقيرـ فقراء. مسكين ـ مساكين. عندما يراد القيام بإجراء تجاه الإنسان المتصف بتلك الصفة وغالباً ـ إن لم يكن دائماً ـ يكون المطلوب عمله هو إزالة تلك الصفة عمن لصقت به، أو على الأقل التخفيف من حدة آثارها، وذلك ما نراه كثيراً في مجال الأمر بالإنفاق على الفقير، ومعنى الإنفاق عليه محاولة إبعاد صفة الفقر عنه أو إبطال أكبر قدر من مفعولها، ولو كانت تلك الصفة محببة على هذا النحو. وهذه بعض النصوص. يقول تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ) (البقرة/215)، (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ) (البقرة/ 272-273). (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) (التوبة/ 60)، (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج/ 28).
4- والتحليل الإحصائي للنصوص يثبت فوق ذلك أن لازم الفقر وهو الجوع كثيراً ما كان عقاباً من الله للإنسان جزاء إهماله وانحرافه. فيقول تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأعراف/ 130)، (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل/ 112). وعلى العكس من ذلك، نجد أنّ القرآن يذكر أن عكس الفقر هو بمثابة نعمة من الله يمنحها لمن يطيعه يقول تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا *يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا *وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) (نوح/ 10-11-12).
تلك هي بعض النتائج التي يمكن الخروج بها من تتبع لفظ الفقر أو مرادفها أو لازمها القرآن الكريم، وهي إن دلت على شيء فتدل على ما تقدم قوله حيال موقف الإسلام من تلك الظاهرة. ولعل من المفيد قبل أن نترك دراسة النصوص القرآنية أن نلفت النظر إلى أن تكرار الأوامر بالسعي والعمل وابتغاء الرزق يعكس محاربة الإسلام لتلك الظاهرة.
ثانياًـ النصوص النبوية ومواقف الصحابة: بتتبع السنة الصحيحة نجد أنها تقف من الفقر نفس الموقف القرآني منه. وهذه بعض النصوص الصريحة الدلالة في ذلك يقول (ص): (كاد الفقر أن يكون كفراً رواه أبو نعيم في الحلية)، ويقول: (ص): (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل. وأعوذ بك من الفقر والكفر والفسوق وأعوذ بك من الصمم والبكم والحنون وسئ الأسقام)(2) وبعض الروايات تذكر أن حواراً دار بين الرسول وبين الصحابة قائلين له لقد سويت بين الفقر والكفر أيتعادلان يا رسول الله؟ قال نعم.
ومن مواقف الصحابة نختار علياً بن أبي طالب، لشيوع ما عرف عنه من الزهد فإذا عرفنا صريح قوله في الفقر دل ذلك من باب أولى على موقف الصحابة إجمالاً.
يقول علي: (الفقر الموت الأكبر)(3) وقال لأبنه: (يا بني إني أخاف عليك الفقر فأستعذ بالله منه. فأنّ الفقر منفقة للدين، مدهشة للعقل داعية للمقت)(4) ، ويروي عنه أنه قال: (لو كان الفقر رجلاً لقتلته).
المطلب الثاني
دفع شبهة التوكل كمفهوم يؤدي إلى الفقر
بالرغم من وضوح منطق الإسلام في موقفه من الفقر إلا أنّه سارت على الألسنة سواء منها ألسنة المفكرين أو العامة بعض المفاهيم، محدثة الكثير من القلق والاضطراب الفكري لدى بعض الناس إزاء موقف الإسلام من الفقر. حتى لقد كان يعتقد أنّ الإسلام يحوي من الاتجاهات ما يجب في الفقر أو على الأقل ما يعمل على تحييد موقفه تجاه تلك الظاهرة. ومن تلك المفاهيم مفهوم التوكل الذي شاع في النصوص والمواقف الإسلامية، وفهمه البعض عن جهل أو عمد على أنّه ترك العمل وذلك بحجة الاعتماد على الله، فهو كافٍ للإنسان، ومضمون عنده تعالى رزقه، وبالتالي ما الداعي إلى الجهد والسعي؟ بل إنّ ذلك أي السعي و العمل ينافي التوكل على الله، في حين أنّنا مأمورون بالتوكل عليه.
واستخلصوا من ذلك القول: إنّ العمل لم يكن منهياً عنه فإنّه لن يأتي بفائدة. وانعكاس ذلك في مجالنا الحاضر هو البطالة، بكل ما تجلبه من تخلف وفقر. ومع أنّ الباحث يرى أن تفنيد هذا الزعم من السهل التعرف عليه من ثنايا البحث إلا أنّه يعتقد أنّ الموضوع يقتضي الحسم المباشر الصريح. ومن أدق الطرق لذلك هو التعرف على مجموعة كبيرة من النصوص الإسلامية، ونستخرج منها مدلول هذا المصطلح الحقيقي دون إعنات للنص وتحميله ما لا يطيق.
الفرع الأول
تناول القرآن للتوكل
الملاحظ أن هذا المصطلح قد كثر وروده في آيات القرآن. وأمامنا استقراء شبه كامل للنصوص التي ورد فيها. يقول تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (آل عمران/ 159).
والتعليق السريع على النص يوضح أنّ التوكل على الله مرحلة لاحقة، تسبقها مرحلة ضرورية، هي العزم. والعزم هو إرادة الفعل مع القطع والتصميم. ومعنى ذلك أنّه بعد توافر عنصر القطع والتصميم على عمل الشيء يأتي كمرحلة لاحقة التوكل على الله. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ سياق الحديث القرآني يوضح أنّ المجال مجال حرب وقتال وتحريض على ذلك، أي أنّ المجال مجال أعنف أنواع الأعمال، وفي داخل هذا الجو يمكن فهم التوكل على حقيقته. ويقول تعالى: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة/ 23) يوضح النص أنّ بعض الناس الذين يخافون الله أمروا فريقهم بأن يدخلوا على الخصم الباب، أي يقتحموا الحصون. وفي داخل ذلك كله يتوكلون على الله. ويقول تعالى: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ *وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ *فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (سورة يونس/ 83-85) مع شدة بطش فرعون، واستبداده آمن بعض الناس بموسى، رافعين راية التمرد والعصيان على الظلم، وفي ذلك ما فيه من المخاطر، ومع ذلك كله يكون التوكل على الله. ويقول تعالى على لسان هود: (مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِي *إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ) (هود/ 55-56) جو السياق مشحون بالجدل والإصرار على المواقف، ويقف هود بمفرده يتحدى القوم، وهم جميعا يكيدون له ويتفننون في اضطهاده وتعذيبه، ومع ذلك فهو مصر على مجابهتهم، ومع المجابهة يتوكل على الله. ويقول تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ *وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ *وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ *الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ *وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (الشعراء/ 214 -219) يأمر الله رسوله بتبليغ الدعوة، وفيها ما فيها من المشقة وبخفض الجناح، ومع هذا العمل الشاق يتوكل على الله ولا يتوانى عن ذلك ولا عن القيام والسهر بالليل.
وهكذا لو تتبعنا بقية النصوص الوارد فيها هذا اللفظ نجدها جميعاً يضمها إطار واحد، هو التكليف بأشد الأعمال، وفي هذا الجو يظهر التوكل على الله. أي أنّ للإنسان عليه أن يبذل أقصى طاقاته في الأعمال الشاقة المضنية، ومع ضراوة الكفاح يتطلع الإنسان إلى ربه، معتمداً عليه في تحقيق ما يطلب.
الفرع الثاني
موقف السنة من التوكل
في مجال السنة القولية نجد العديد من النصوص الحاثة على العمل وبذل الجهد ومن أقرب الأحاديث نصاً الحديث المعروف الذي قال الرسول لمن أراد ترك ناقته على باب المسجد دون عقال معتمداً عل كونه متوكلاً على الله (اعقلها وتوكل) أي إبذل الجهد المطلوب ومعه توكل على الله واعتمد عليه ولو تتبعنا سلوك الرسول الفعلي لوجدنا أنّه لم يتوان لحظة عن الجهد والكفاح وهو أب المتوكلين.
الفرع الثالث
مواقف رجال الإسلام
قال عمر بن الخطاب رداً على من ترك العمل متوكلاً: (إنما المتوكل رجل ألقى الحب على الأرض وتوكل على الله) يفيد بذلك أن ترك العمل اعتماداً على التوكل هو ضد التوكل، فإنّ التوكل الحقيقي يستلزم العمل، ولا يظهر جدياً إلا مع العمل الجاد. (ولقد سأل عبد الله بن أحمد بن حنبل أباه أحمد بن حنبل رضى الله عنهما عن قوم يقولون نتوكل ولا نكتسب فقال: ينبغي للناس كلهم أني يتوكلوا على الله ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب. قال تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) (الجمعة/9) فبهذا علم أنهم كانوا يكتسبون ويعملون وقد فند أحمد الدلجي فكرة ارتباط التوكل بترك العمل.
تعقيب:
هذه النصوص صحيحة توضح بجلاء مفهوم التوكل، الذي يمكن تلخيصه في أنّ التوكل طاقة معنوية تؤيد الطاقة المادية وتحصنها من الضعف أو التكبر والغرور ذلك بأنّه بالنسبة لأي عمل نجد ثلاث مراحل: مرحلة ما قبل الشروع فيه، ومرحلة التنفيذ، ومرحلة ما بعد التنفيذ. ففي مرحلة ما قبل الشروع في العمل نجد أنّ الطاقة المعنوية "التوكل" تدفع الإنسان دفعاً إلى الدخول في مرحلة العمل طالما استكملت الطاقة المادية أوضاعها، فلا يتوقف الإنسان خوف الفشل حيث أن تحقيق النتيجة متروك لله، وما دام الإنسان قد بذل طاقة جهده فإنّ الله لن يضيع عمله، لأنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. وذلك اعتراف مسبق بالسنن الكونية، والتي منها أن من يحسن العمل لا يفشل فيه. أما في مرحلة التنفيذ فأنّ لطاقة التوكل عملها فهي تشد من أزر الأخرى وتدفعها إلى إتمامه. وفي النهاية، في مرحلة ما بعد إتمام العمل نجدنا أمام أمرين: إما أن ينجح المشروع ويحقق المستهدف منه، وهنا تعمل طاقة التوكل عملها، فتعصم الإنسان من الغرور الباطل، مشعرة إياه أن ما تم ليس كله راجعاً لجهده وإنما لسنن الكون دخل فيه وبذلك لا يقول مثلما قال قارون مغتراً (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) (القصص/ 78). وإما أن يفشل المشروع، وهنا نجد للتوكل كطاقة عمله، فتعصم الإنسان من اليأس والتخاذل عن مواصلة العمل، حيث تشعره بقوة خارجية تعمل عملها من خلال السنن الكونية، لها دورها في الأعمال، فلا جناح عليه في تلك النتيجة، بافتراض أنّه أدى ما عليه من جهد وعلم وفي كلمة: إنّ التوكل في عرف الإسلام تحريض على العمل وليس إبعاداً له. هذا هو معنى التوكل الذي به فتح المسلمون الأوائل أكثر من نصف الدنيا في أقل من قرن وهم أئمة المتوكلين. أما المفهوم الشائع فهو في الحقيقة مفهوم لتعبير آخر هو التواكل ومعناه في مراجع اللغة أن يتكل الإنسان على الآخر ويترك العمل، فهو يعكس العجز والتخاذل بمعناهما الدقيق. وبدراستنا للنصوص الإسلامية لم نعثر على هذا المصطلح "التواكل" بالمرة على أنّه مأمور به، بل لم يرد قط في النصوص القرآنية.
المطلب الثالث
دفع شبهة الزهد كمفهوم يؤدي إلى الفقر
قد شاع عن الإسلام أنّه يحبب في الزهد بمفهومه السائد الذي هو ترك المباحات تقرباً إلى الله، ويترتب على القول بهذا أن يعيش الناس على الكفاف فقط، أما التمتع بما زاد على ذلك فهو خلاف الأفضل لأنّه مناف للزهد، ومعنى ذلك شيوع ظاهرة الفقر التعبدي.
والدراسة الجادة للإسلام تتنافى مع هذا القول كلية، ويمكن تبين ذلك مما يلي:
الفرع الأول
هذا المفهوم يتنافى مع فطرة الإنسان وطبيعة الموارد
فقد تبين لنا من الدراسة المتقدمة أنّ للإنسان في هذه الحياة وظيفة تتمثل في تعمير الكون على أفضل وجه وتحقيق أكبر قدر ممكن من الاستفادة به، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ للإنسان احتياجاته الفطرية المتعددة، ومن ناحية ثالثة فإنّ موارد الطبيعة كثيرة ومتعددة، وهناك أوامر صريحة باستخدامها في سائر وجوه الانتفاع حتى وجوه الزينة والجمال، وبالتالي فترك الاستفادة بها وشكر الله عليها يضع الإنسان في موضع السؤال: لم تركت تناول ذلك؟.
كل ذلك يتنافى مع مفهوم الزهد بأنّه ترك الاستفادة من الأشياء المباحة شرعاً.
الفرع الثاني
موقف القرآن والسنة من هذا المفهوم
1- لم يرد لفظ الزهد في القرآن ـ فيما أحصى الباحث ـ إلا مرة واحدة في قوله تعالى عن يوسف واخوته: (وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (يوسف/ 20)، أما في مجال نعم الله وموارد كونه فلم يرد قط هذا اللفظ، بل كان يأتي في أغلبها عكس المفهوم الشائع للزهد وذلك بالدعوة إلى التناول والاستفادة.
ومجئ النسق القرآني على هذا النحو ليس من قبيل المصادفة، وإنما هو مقصود تماماً.
2- بالنسبة للسنة: نجد أن من أصح الأحاديث التي توضح موقف السنة بشكل قاطع الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: (ذهب قوم إلى بيوت رسول الله يسألون عن عبادته، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها. فقالوا وأين نحن من رسول الله وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم: أنا أصوم الدهر كله. وقال الآخر: وأنا أقوم الليل كله. وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء. فلما أخبر الرسول (ص) بذلك قال: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا.أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وأتزوج النساء. وهذه سنتي، ومن رغب عن سنتي فليس مني) (5) بهذا الحديث يوضح الرسول الله (ص) بصورة قاطعة موقف الإسلام من التبتل والرهبانية والابتعاد عن المباحات وهو موقف الرفض الصريح.
ومع ذلك فقد ورد أن الرسول (ص) قال لمن سأله: (ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس) وبالرغم من أن في هذا الحديث كلاماً لعلماء الحديث إلا أنه يمكن إن يقال أن المقصود بالزهد في الحديث هو معناه الحقيقي الذي يستلزم ترك الشره والعفة وعدم العبودية للمال.
الفرع الثالث
موقف رجال الفكر الإسلامي
قد يكون حجة القول هنا هو قول علي بن أبي طالب (أعلموا عباد الله أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة؛ فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم؛ ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم. سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت وأكلوها بأفضل ما أكلت. فحظوا من الدنيا بما حظى به المترفون. وأخذوا منها ما أخذه منها الجبابرة المتكبرون)(6) بهذا القول بين الإمام علي منهاج حياة المجتمع المسلم وحياة الفرد المسلم بأنّها حياة الرغد والرفاهية الشاكرة وليست حياة الكفاف الضار.
وهناك أيضا الإمام الغزالي، الذي شاع عنه إنّه أكبر زاهد إسلامي؛ فنراه يفسر الزهد بأنّه انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه وهو بذلك يجعل من الزهد نقطة انطلاق إلى الأفضل في كل جوانب الأعمال.
ثم نراه يقول: (إنا لا نشك في أن مصلحة الدين والدنيا مراد الشرع وهو معلوم بالضرورة وليس بمظنون. ولا شك في أنّ رد الكافة إلى قدر الضرورة أو الحاجة أو إلى الحشيش والصيد مخرب للدنيا أولاً وللدين بواسطة الدنيا ثانياً)(7).
وقد ذهب الفكر الإسلامي إلى أبعد من هذا في علاج تلك القضية. فقد اهتم بمناقشة قضية ترك المباح رداً على من يقول إن ذلك كان فعل الصحابة. وذلك بأنّ (ما نسب إلى الصحابة في هذا الشأن حكايات أحوال، فالاحتجاج بمجردها من غير نظر فيها لا يجدي، إذ لا يلزم أن يكون تركهم لما تركوه من ذلك من جهة كونه مباحاً لإمكان أن يكون تركهم لذلك لخلاف هذا المقصد، ومن ناحية أخرى أن هذا التصرف من بعضهم معارض بمثله، فقد كان عليه السلام يحب الحلوى والعسل ويأكل اللحم ويستعذب الماء وينقع له الزبيب ويتطيب بالمسك ويحب النساء). وتلك من كماليات الحياة.
نخرج من ذلك بأنّ الزهد تعبير لم يشع كثيراً في النصوص الإسلامية، وأنّ معناه الحقيقي أن يمتلك الإنسان المال ثم لا يستعبده المال، فلا زهد مع الفقر لأنّ الفقر عدم، والزهد يكون في الموجود، ومن ناحية أخرى فليس الزهد نمطاً من أنماط اكتساب الأموال وإنما هو نمط من أنماط إنفاقها؛ وبذلك فإنّ مفهوم الزهد الحقيقي يقدم خدمة جليلة في الحث على الاستثمارات المفيدة النافعة وترك البذخ والترف.
الهوامش
ـــــــــــ
(1) د. مصطفى السباعي ـ اشتراكية الإسلام. ص78. الدار القومية للطباعة والنشر ـ سلسلة اخترنا لك. رقم 113.
(2) رواه الحاكم. أنظر السيوطي ـ الجامع الصغير. ص50 ج1. مرجع سابق.
(3)الشريف الرضي ـ نهج البلاغة. ص41. ج4. دار المعرفة للطباعة والنشر. بيروت.
(4) الشريف الرضي ـ نهج البلاغة. المرجع السابق. ص76 ج4.
(5) السيد الطهطاوي ـ هداية الباري إلى ترتيب أحاديث البخاري. ص85، ج1. شركة مطابع الرغائب بمصر ـ 1341ه.
(6) الشريف الرضي ـ نهج البلاغة. ص27، ج3. مرجع سابق.
(7) الغزالي ـ أحياء علوم الدين. ص98، ج2. مرجع سابق.
----------------------
المصدر: الإسلام والتنمية الاقتصادية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق