• ٤ أيار/مايو ٢٠٢٤ | ٢٥ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام

أ.د محمد أديب الصالح

يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام

في ظلال شهر رمضان المبارك بأيامه المعدودات، الشهر الزاخر بالإحسان والعطاء، الوافر بالبرّ والنعماء ومنها العتق من النار.. شهر القرآن كتابِ الهداية والنور، شهر الصيام والقيام وليلة القدر.. شهر الجهاد الخالص قتالاً لأعداء الله حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، وجهاداً للنفس بتزكيتها والتسامي بها إلى مراقبة مولاها، والأمانة في أداء الطاعة وصدق التوجه إلى بارئها الحكيم، شهر الإرتفاع بالمؤمن إلى تربية الإرادة، وتصفية القلب من الأكدار، وتوكيد الأخوة الإيمانية، على ساحة سداها ولحمتها التقوى على نور من الله...
في ظلال تلك الأيام والليالي والساعات التي يقدرها حق قدرها الموفَّقون، يهفو قلب المؤمن إلى الإستنارة بواحد من المعالم القرآنية الذي تشرق به آيات الصيام في سورة البقرة وما فيه من كريم عطاء الله وفضله فيما شرع ويسَّر من أبواب الخير والقرب منه سبحانه لعبادة المؤمنين.
ذلكم قول الله جلَّ ثناؤه: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ * أيّاماً مَعدُوداتٍ فَمَن كانَ مِنكُم مَرِيضاً أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ وعلى الذينَ يُطِيقُونَهُ فِديَةٌ طَعَامُ مِسكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيراً فَهُوَ خَيرٌ لَهُ وأن تَصُومُوا خَيرٌ لَكُم إن كُنتُم تَعلَمُونَ * شَهرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدىً لِلنّاسِ وبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرقانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرُ فَلْيَصُمهُ ومَن كانَ مَرِيضاً أو على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسرَ ولِتُكمِلُوا العِدَّةَ ولِتَكَبِّرُوا اللهَ على ما هَدَاكُم ولَعَلَّكُم تَشكُرُونَ * وإذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فإنِّي أُجِيبُ دَعوَةَ الدَّاعِ إذا دَعانِ فَليَستَجِيبُوا لِي وليُؤمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرشُدُونَ) (البقرة/ 183-186) إلى آخر الآيات المباركات التي كلها بناء على الطاعة والتقوى، وحماية للبناء، وتزيكة متجددة للأنفس عند مَن رزقوا أن يكونوا الترجمان العملي لهذا البناء القرآني.
وأودّ الإشارة إلى أنِّي لست بسبيل أن أُفسِّر هذه الآيات، ولكنني بسبيل التذكير بالقاعدة التي ينبثق منها خطاب التكليف بأحكام هذا الدين – ومنها أحكام الصيام – أعني قاعدة الإيمان.
فالمؤمن يخاطب بشرائع الإسلام بوصفه مؤمناً – ذكراً كان أو أنثى – متصفاً بأهلية التكليف.
وأنت واجد هنا – كما هو الأعم الأغلب في نصوص ذلك الخطاب – أنّ الآية الأولى من الآيات الآنفة الذكر قد بدئت بقوله تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا)، وكان ذلك سبيل إعلام المؤمنين بأنّ الله قد فرض عليهم صيام شهر رمضان، وهو ما قررته الكلمة القرآنية فيما بعد.
أجل بدئت بهذا النداء العلوي المثقل بالندى والحنان، الفيّاض بالود والرحمة، المشرق بنور الهداية والخير.
وإنّه لنداء من شأنه أن يحرك في القلوب كوامن الحب لله ولرسوله، ويبعث كوامن اليقين ودواعي الإستجابة الندية بالإطمئنان، وحوافز المسارعة التي تتخطى عقبات النفس الأمّارة بالسُّوء، والجنوح إلى طلب العافية والإقامة على الرغبات الأرضية والشهوات، وهي المسارعة إلى القيام بكل ما فيه طاعة الله وتقواه.
(يا أيُّها الذين آمَنُوا) نداء من الله الكريم في عليائه وجبروته لعباده الذين صدَّقوا كمال التصديق، بلا واسطة ولا حجاب.
ولكم تكرر هذا النداء الربّاني في الكتاب الكريم إشعاراً بالأساس الذي بُني عليه التكليف ليكون المؤمن على سنن الطاعة والتقوى ويفوز – إن هو استقام على سواء الصراط – بسعادة الدارين.
فقد بلغت مواطن ذلك في السور المدنية زهاء أربع وثمانين آية تجدها منثورة في سور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والحج والنور والأحزاب ومحمد والحجرات والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقون والتغابن والتحريم.
وهذا – كما ذكرت آنفاً – في الأعم الأغلب، وإلا فقد جاء التكليف بصور أخرى في العديد من الآيات؛ ولكن يظل الإيمان هو أساس البناء القويم – بعمقه وشموله – في المنهج القرآني وبيانه من سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك ما يكون من الأحكام التي يطلب العمل بها فعلاً أو تركاً.
ومن شأن صدق الإيمان أن يستجيب المؤمنون لدعوة الله في طاعته واجتناب معصيته، فيأتمرون بأوامره ويجتنبون مناهيه؛ فلا يفقدهم حيث أمرهم، ولا يراهم حيث نهاهم، وتجيء الطاعة بعد الطاعة، فيكون ذلك عامل تنمية لبواعث الخير، ومحبة الله عزّوجل، والفرح بفضله ورحمته!
ويا لها من صياغة يصاغ عليها المؤمن، فيكون امتثاله للأمر واجتنابه للنهي: سياحة متجددة تجعله موصول القلب بمولاه، وقوةً – تزينها التقوى – على فعل كل ما يرضي ربّه عزّوجل مهما غلا الثمن، ويقربه إليه زلفى، كائنة ما كانت مشقة التكاليف.
وسبحان مَن دعا نبيه (ص) – وهو الأسوة الحسنة لأهل الإيمان – إلى أن يكون دائماً على سنن العمل المتجدد في طاعة الله، كلما فرغ من طاعة نصب طاعة غيرها بالمعنى الاشمل لهذه الكلمة المباركة وأن يكون المقصود مرضاة الله والرغبة إليه. ذلكم قوله جلّ شأنه في سورة الإنشراح خطاباً له (ص): (فإذا فَرَغتَ فَانصَبْ * وإلى رَبِّكَ فَارغَبْ) (الشرح/ 7-8).
وممّا ورد في تفسير الآيتين، ما أخرج شيخ المفسِّرين عن زيد بن أسلم والضحاك (فإذا فَرغتَ) أي من الجهاد (فَانصَب) أي في العبادة (وإلى ربِّكَ) قال النووي: "اجعل نيّتك ورغبتك إلى الله عزّوجل".
وقال الحافظ ابن كثير: "أي إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها، فانصب إلى العبادة وقم إليها نشيطاً فارغ البال وأخلص لربّك النيّة والرغبة".
ألا إنّ البرهان الذي ما بعد برهان، والحجة التي لا تدانيها حجة على صدق الإيمان وتذوق حلاوة الطاعة: أن يكون هذا المؤمن على المحجة في المسارعة إلى امتثال منبعث من القلب لحكم الله تبارك وتعالى في العسر واليسر والمنشط والمكره.
وفي هذه المسارعة التي ينمو معها تذوق الطاعة، وحبُّ الإستجابة لدعوة الله ورسوله: سعادة تعز على الوصف، وطمأنينة لا تعدلها طمأنينة، وهنيئاً لأهل الطاعة المتقين: ما يغمرهم من الفضل الإلهي جزاء إقبالهم الصادق على الله، وتساميهم على المعوقات، وانتصارهم بالإيمان على العقبات التي تعترض السالكين إليه سبحانه.
وفي عود على بدء؛ هنا في آيات الصيام يقول الحكيم الخبير: (يا أيُّها النّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُم والذينَ مِن قَبلِكُم) (البقرة/21).
أرأيت أيُّها المؤمن: فرض عليكم الصيام – وهو الإمساك عن المفطرات من طعام وشراب ونكاح من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس – أياماً معدودات هي شهر رمضان المبارك؛ وترى أنّ الإمساك مطلوب عن الحلال المفطر، وهو إمساك تتجدد لذته عند المؤمن لحظة بعد لحظة، حتى يحين غروب الشمس. ويفرح بفطره المشروع آنذاك. وما أعظم الفرحة الثانية يوم لقاء مولاه الكريم المنان؛ فقد جاء في الحديث القدسي الذي أخرجه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة (رض) قول النبي (ص): "... والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب من ريح المسك"، "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربّه فرح بصومه"، هذا لفظ رواية البخاري، وفي رواية لمسلم: "... للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربّه"، "ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك" رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
فالذي أوجب هو الله الخالق البارئ الذي نحن به مؤمنون وبكتابه مصدِّقون؛ أجل: كتب عليكم الصيام؛ والذي فرض هذه الشعيرة التي جعلها النبي (ص) – وهو المبلِّغ عن الله ما أراد – رابع أركان الإسلام: هو سبحانه صاحب الأمر والنهي الذي يعلم ما فيه خيرية الهدى لعباده، وما يحقق المصلحة الشرعية النافعة لهم؛ الأمر الذي يضمن لهم – إن هم أحسنوا العمل واتقوا – سعادة الدارين.
وما أجمل أن يستذكر المؤمن دائماً أنّ عليه – وهو يقوم بهذه الفريضة – أن يصوم إيماناً واحتساباً، لا يبتغي سوى مرضاة ربّه، وذلك ما ينيله – بفضل الله – المغفرة والعتق من النار.
فعن أبي هريرة (رض)، عن النبي (ص)، قال: "مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفر له ما تقدّم من ذنبه" أخرجه البخاري ومسلم.
هذا ما ينبغي للمسلم أن يفعله كيما يكون في عداد مَن تقبل طاعتهم وتغفر ذنوبهم – بفضل الله وكرمه – إنّك تراه وهو الفرِح بهذه الشرعة المباركة، يصوم – يوم يصوم – عملاً بدين الله: إيماناً واحتساباً فهو لا يصوم رياضة، ولا يصوم نظاماً، ولا يصوم صحةً أو لغرض كذا وكذا.. وعدِّد ما شئت من حِكَم الصيام وما أكثرها؛ ولكنه يصوم لأنّ الله تعالى أوجب الصيام وجعله على لسان نبيه (ص) رابع ركن من أركان الإسلام.
وهو – كذلك – يحمد الله أن أكرمه وأعظم له العطاء حين شرح صدره للإسلام وهداه للإيمان وزيّنه في قلبه، وكلَّفه بشرعة تنبني على هذا الإيمان.
أن يستشعر المؤمن إيمانه الذي خالطت بشاشته القلب، ويكون على تذوق صادق لحلاوة هذا الإيمان – شأن الأتقياء الأصفياء – ويحسَّ بالرباط الوثيق بين الإيمان وبين ما كلف به من أحكام فعلاً أو تركاً: ذلكم هو اللبنة الأولى في الإعداد الصحيح للمسلم الحق على ساحة البناء المنشود، والتي من ورائها يكون – بعون الله – الإلتزام المرضيُّ، والإنقياد الموصل على صعيد الجماعة والأُمّة، إلى التمكين في الدنيا، وأكرم عاقبة يوم الدين.
*      *     *
ومن الحكم البالغة في الكتاب المعجز: ما ازدان به الأسلوب القرآني – في الأعم الأغلب – من اتخاذ (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا) مبتدأ خطاب التكليف للمؤمنين بما افترض الله عليهم من الأحكام، لما أن في هذا الخطاب النديِّ الثريِّ بالرحمة والود: إثارةً للعقل المسلم كيما يعمل عمله في البعد عن التناقض المردي في عدم الإستجابة لدعوة الله، واتخاذ أمر الشارع ونهيه ظهرياً، ناهيك عمّا تعمله تلك الكلمات الهاديات في القلب، من إثارة لكوامن الإيمان، وشحذٍ للهمم في المسارعة إلى السمع والطاعة، لأن ذلك مقتضى الإيمان، وبريد المؤمن إلى أن يكون من أهل الصدق المتقين.
وقد أشرت فيما سبق من القول إلى أنّ افتتاح آيات الصيام في سورة البقرة بقول الله جلّ ذكره: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183)، حيث صدِّر خطاب التكليف هذا بـ : (يا أيُّها الذين آمَنُوا) ذلك النداء العلوي الكريم – كما هو الشأن في أكثر آيات الخطاب للمكلفين في كل شأن من شؤون الفرد والجماعة، عقيدةً وشريعةً وسلوكاً وأخلاقاً، بل كما هو طابع الآيات في العهد المدني على العموم – دليل واضح على أنّ الركيزة الأولى التي يوليها المنهج القرآني تلك الأهمية البالغة في بناء الإنسان المسلم بناءً يضمن قدرته على الفاعلية والتأثير في مواجهة الحياة، ويُنمِّي في عقله وقلبه حوافز العمل الخيِّر المثمر: إنّما هي الإيمان..
وأنّ القاعدة النورانية التي ينبغي أن يقوم عليها البناء في العقيدة والأحكام ونظام السلوك والأخلاق، وكل ما يتصوّر من ضوابط العلاقة بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين ربّه جلّ وعلا، وبينه وبين الآخرين، بدءاً من أسرته وانتهاءً بالمجتمع والأُمّة، ومَن تدعو الحاجة إلى التعامل معهم فيما وراء ذلك: إنّما هي الإيمان كذلك.
ولقد يأخذك العجب من إحاطة تلك الكلمات المشرقات، بياناً وهداية: إحاطة اتسعت لخطاب المكلفين في الأُمّة بهذا الأسلوب المعجز كي يكونوا على المستوى اللائق بما عهد الله إليهم أن يأخذوا أنفسهم بمنهج الرسالة الخاتمة التي شرَّفهم الله بها، فتتحقق المواءمة الدقيقة بين الإيمان، وبين ما شرع لهم من تكاليف متنوعة هي صورة عملية للمنهج الربّاني في شموله وعمقه وتكامله.
ولنتعرّف على بعض النصوص – على سبيل المثال لا الحصر – لنرى سعة الآفاق في تناولها وتنوع التكليف الذي يخاطب به المؤمنون والمؤمنات في ظل تعاليم الإسلام التي لا تنحسر هدايتها عن جانب من جوانب الحياة.
ها نحن أولاء نقرأ في سورة البقرة: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ القِصاصُ في القَتلَى) (البقرة/ 178)، (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وذُرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إن كُنتُم مُؤمِنِينَ) (البقرة/ 278)، (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا إذا تَدَايَنتُم بِدَينٍ إلى أجَلٍ مُسَمّىً فَاكتُبُوهُ) (البقرة/ 282).
ونقرأ في سورة آل عمران: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِن دُونِكُم لا يَألُونَكُم خَبَالاً) (آل عمران/ 118)، (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا اصبِرُوا وصَابِروا ورَابِطُوا واتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ) (آل عمران/ 200).
وتطالعنا سورة النساء بقوله تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُم أن تَرِثُوا النِّساءَ كَرهاً وَلا تَعضُلُوهُنَّ لِتَذهَبُوا بِبَعضِ ما آتَيتمُوهُنَّ) (النساء/ 19)، (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الكافِرِينَ أولِياءَ مِن دُونِ المُؤمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أن تَجعَلُوا للهِ عَلَيكُم سُلطاناً مُبِيناً) (النساء/ 144).
ونقرأ في سورة المائدة: (يا أيُّها الذين آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ) (المائدة/ 1)، (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَداءَ بِالقِسطِ) (المائدة/ 8)، كما نقرأ قوله جلّ وعلا: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصارَى أولِياءَ) (المائدة/ 51).
وتسعدنا سورة الأنفال بقوله سبحانه: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا استَجِيبُوا للهِ ولِلرَّسولِ إذا دَعَاكُم لِمَا يُحيِيكُم) (الأنفال/ 24)، (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُم فِئَةً فَاثبُتُوا) (الأنفال/ 45).
ونقع في سورة التوبة على قوله تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذوا آباءَكُم وإخوَانَكُم أولِيَاءَ إن استَحَبُّوا الكُفرَ على الإيمانِ) (التوبة/ 23)، (يا أيُّها الذينَ آمّنُوا قاتِلُوا الذينَ يَلُونَكُم مِنَ الكُفّارِ ولْيَجِدوا فِيكُم غِلظَةً واعلَمُوا أنّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ) (التوبة/ 123).
ونقرأ في سورة النور قوله عزّوجل: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا تَدخُلُوا بُيُوتاً غَيرَ بُيُوتِكُم حتّى تَستأنِسُوا وتُسَلِّمُوا) (النور/ 27)، (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيطانِ) (النور/ 21).
وفيما اشتملت عليه سورة الأحزاب نقرأ: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا اذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُم إذ جاءَتكُم جُنُودٌ) (الأحزاب/ 9)، (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وقُولُوا قَولاً سَدِيداً) (الأحزاب/ 70).
وفي سورة الحجرات نقع على قول الله جلّ ثناؤه: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا إن جاءَكُم فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات/ 6)، (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا يَسخَرْ قَومٌ مِن قَومٍ) (الحجرات/ 110).
وهذه سورة الحشر تطالعنا بقوله تعالى: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ ولْتَنظُرْ نَفسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (الحشر/ 18).
ونقرأ في سورة الممتحنة قوله عزّوجل: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُم أولِياءَ تُلقُونَ إلَيهِم بِالمَوَدَّةِ) (الممتحنة/ 1).
كما نقرأ في سورة الصف قول الحكيم العليم: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفعَلُونَ) (الصف/ 2).
ونقرأ في سورة الجمعة: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَومِ الجُمُعَةِ فَاسعَوا إلى ذِكرِ اللهِ وذَرُوا البَيعَ) (الجمعة/ 9).
وتشرق علينا سورة التحريم بقوله جلّ شأنه: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا قُوا أنفُسَكُم وأهلِيكُم ناراً وَقُودُها النّاسُ والحِجارَةُ) (التحريم/ 6).
ولو أنّا بسبيل الكلام على خطاب التكليف من حيث هو – وليس بصيغة (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا) فحسب – لأوردت العديد من الأمثلة كان التكليف بها بغير هذه الصيغة ولكنها على نهج إحكام العلاقة بين إيمان المؤمن – أو ما هو منه بسبب – وبين تكليفه بما يقول أو يفعل.. أو يمت إلى ذلك بصلة.
وعلى سبيل الإجتزاء اليسير: أُذكِّر بقوله تعالى في سورة المائدة: (وعلى اللهِ فَليَتَوَكِّلِ المُؤمِنُونَ) (المائدة/ 23)، وقوله في سورة الأنفال: (وأَطِيعُوا اللهَ ورَسُولَهُ إن كُنتُم مُؤمِنِينَ) (الأنفال/ 1)، (إن كُنتُم آمَنتُم بِاللهِ وَما أنزَلنا على عَبدِنا يَومَ الفُرقانِ يَومَ التَقَى الجَمعانِ) (الأنفال/ 41)، والكلام على أحكام الغنائم.
وبقوله تعالى في سورة التوبة: (أَتَخشَونَهُم فَاللهُ أحَقُّ أن تَخشَوهُ إن كُنتُم مُؤمِنِينَ) (التوبة/ 13)، وبقوله جلّ شأنه في سورة النور: (يَعِظُكُمُ اللهُ أن تَعُودُوا لِمِثلِهِ أبَداً إن كُنتُم مُؤمِنِينَ) (النور/ 17).
وما أكثر الصور المشرقة وأوفر الأساليب في ذلك؛ دليلَ الحكمة في وضع كل قضية موضعها على سلَّم الهداية كما أراد بذلك الحكيم الخبير.
وفي متابعة للماضي القريب: لا يرتاب ذو بصيرة في أنّ الله تبارك وتعالى عندما يخاطب كل مؤمن ومؤمنة في كل زمان وبيئة بهذا الخطاب المثقل بندى الخير الناطق بسموِّ مرتبة الإيمان وأهله (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيامُ) حاملاً إليهم التكليف بالصيام، وأنّه فرض حتمٌ كتب عليهم كما كتب على الذين من قبلهم – من حيث المبدأ لا من حيث عدد الأيام ووقتها – يكون ذلك إيذاناً بالإرتباط الوثيق – كما أشرنا من قبل – بين القاعدة – وهي الإيمان – وبين ما يقوم عليها من تشريع وأحكام.
وقل مثل ذلك عن صلة هذه القاعدة التي هي الأساس المتميزة المكين بهذه الفريضة، فريضة الصيام التي جعل الله أداءها احتساباً على الوجه الذي ينبغي: طريق المؤمن إلى أن يكتب في عداد المتقين الذين يخافون الله واليوم الآخر، ويخلصون النيّة فيما يأخذون وما يذرون، وكل همهم أن يكون الله راضياً عنهم سواء أكان العمل من كسب الجوارح أو كان من عمل القلوب (كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ على الذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ) وغير خاف أنّ الله مع المتقين، وأنّ الله وليُّ المتقين، وأنّه سبحانه يحب المتقين، ومطلوب من المؤمنين أن يسارعوا إلى مغفرة من ربّهم وجنّة عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتقين.
وإذا كانت هذه الكلمة الحبيبة (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا) التي لها أجمل وقع في نفس المؤمن والتي تنادي المؤمنين بالتكليف والعمل والجهاد: فيّاضة بالكرم والعطاء والتذكير؛ إنّه في الوقت نفسه ناظم المسؤولية الذي يُعرِّف المؤمن مكانه من البناء في نفسه وفي المجتمع.
وكلما تكررت وتكررت: زادت معطيات المؤمن وقدرته على الحركة نماءً واتساعاً.
لذا كان من الواضح أن من حكم افتتاح الآية بـ: (يا أيُّها الذينَ آمَنُوا) – وقد أشرق بها الكتاب العزيز أربعاً وثمانين مرّة – عند الخطاب بأمر من الأمور: استجاشة قلوب المؤمنين وعقولهم، وتحريك همهم وتقوية عزائمهم على الإستجابة بكل رضى وطمأنينة دون أن يجدوا في أنفسهم أي حرج، وتذكيراً لا يحتمل شيئاً من اللبس أو الإحتمال المضاد: بأن من مقتضى الإيمان ومستلزماته: أن يكون المؤمن – بوصفه مؤمناً – وقّافاً عند حدود الله، مستمسكاً بما جاء عن الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام في أي شأن من الشؤون دقَّ أو جلَّ.
انظرها يا أخي المؤمن، تدبّرها، دقق في جنباتها، تخرج بعظيم النتائج، وموجبات التنبه العقلي واليقظة القلبية التي تسعف في تجاوز عقبات الفكر والعمل واقتحام معاقل الدعة والخمول.
إنّ هذا الإرتباط المحكم بين التكليف والإيمان: قضية أكبر ممّا يتصوّره الكثيرون، وينبغي أن تعمل عملها في واقعنا من جديد، على أي ساحة من الساحات التي اعترى الأُمّةَ نقص أدائها ونماء ما فيها من الخير، أو تفاقم ما ابتليت به من التخلف والضعف والوهن.
والغد الأفضل مرهون – بعون الله – بقراءة ذلك قراءة جديدة يشارك فيها العقل والقلب مشاركة حقيقية فاعلة، تثمر ما يتطلع إليه المصلحون من اقتحام عقبة التخلف المزري عن الإسلام، ولا يصلح آخر هذه الأُمّة إلا بما صَلَح به أوّلها.


المصدر: كتاب الإنسان والحياة في وقفاتٍ مع آيات

ارسال التعليق

Top