د. خليل محسن
أكثر العائلات قد تصطدم داخلياً من جراء المشاكل التي قد تعترض الأهل والأولاد نتيجة اختلاف وجهات النظر التي قد تكون متباعدة جدّاً في بعض الأحيان؛ وهذا الاختلاف في وجهات النظر قد يدفع بالأهل إلى استعمال أساليب العنف تجاه أولادهم وخاصةً الكبار منهم؛ كما أن بعض الأهل قد يلجؤون إلى استشارة أطباء النفس للاطلاع على حقيقة تصرفات الأولاد السلبية.
قبل أن نستعرض معاً طرق "الحل الجاعي" علينا إيضاح كيفية تصرف أكثر الأهالي تجاه بعض المشادات العائلية.
"جاد" في الرابعة عشرة من عمره يحب أن يكون شعره طويلاً كسائر أصدقاؤه، لكن والده لا يحب ذلك؟ وهنا كانت تقع مشادات ومشاحنات بينهما؛ وقد صَعَّدَ الأب حملته بمنع جميع المكافآت الإيجابية عن ولده، وهذا ما دفع بالابن إلى تقصير شعره عند المزين القريب، حتى يستطيع أن يعيش مع أهله بأمان ووئام، وهكذا فإن رغبة الأب قد انتصرت في هذه المعركة، وخسر الابن.
ماذا كانت النتيجة؟
الخلاف الناشىء بين الأب وابنه انتهى بانتصار الأوّل على الثاني.
ولندرس الآن الوضع العام:
ليس هناك أحد يقوم على عمل لا يرغبه؛ لكن الحقيقة هي أن كل تأزم للعلاقة بين الأب وابنه قد تدفع بهذا الأخير إلى التفكير بارتكاب أخطاء تغيظ والده، حتى ولو كانت هذه الأخطاء على حساب صحته وسلامته مثل: تعاطي التدخين وتناول الكحول والإدمان على المخدرات.
انتصر الأب في هذه المعركة نتيجة صغر سن ابنه؛ ولكن ماذا يحدث لو كان ابنه أكبر سنّاً؛ حتماً لن ينتصر الأب في إقناع ولده وقد يخسر في النهاية.
أنّ النظام العائلي إذاً يجب أن لا يبنى على التهديد والوعيد، لأنّ هذه الطرق نادراً ما تؤثر إيجاباً على تصرفات الأولاد.
مثال آخر: أم لعدّة أولاد، كانت تجبرهم على إلقاء التحية عليها يومياً رغم صغر سن بعضهم، كما كانت تجبرهم على شكرها في جميع المناسبات حتى أصبح الأولاد يرددون ما تطلبه أمهم، تنفيذاً لرغباتها؛ دون أن يشعروا بصدق ما يقولونه تجاهها...
هذه التربية خاطئة، لا تساعد الأولاد على أن يتحسسوا بصدق وإخلاص الفترات المناسبة لشكر أهلهم واحترامهم.
إنّ التربية الصالحة للأولاد داخل المنزل العائلي تعتمد إلى حد كبير على درجة فطنة وذكاء الأهل، كما تعتمد على صدق معاملة ومحاورة ومصادقة الأولاد؛ إنّ الحلول الجماعية المتفهمة لطبيعة الواقع العائلي لها أهمية كبرى في عملية نجاح التربية المنزلية؛ وهي أصلح بكثير من الحلول العشوائية الصادرة عن أحد أفراد العائلة، والتي قد يعتبرها الأولاد حلولاً قاسية ومتشددة.
لنرى معاً، الصورة العكسية للحالات السابقة والتي تعتمد على تحكم وتسلط الأولاد، بالقرارات العائلية، نتيجة ضعف شخصية الأهل، مثال ذلك: عائلة لفتى في السادسة عشرة من عمره، تملك سيارة واحدة؛ ذات يوم طلب الفتى السيارة من والديه للتنزه ورفاقه مساء السبت، لكن صادف أنّ الوالدين كانا بحاجة أيضاً إلى السيارة في ذلك اليوم لتمضية السهرة عند أحد الأقرباء... رفض الأب في البداية، لكن إصرار الولد وتسلطه، دفع بالأهل إلى إعطائه السيارة... الحل إذاً تَمَّ بتغلب رغبة الابن على رغبة الأهل.
مثال آخر: كان أحد الأولاد، يحصل دائماً على ما يرغب به نتيجة لجوئه إلى استعمال طرق العنف والصراخ والإصرار على الرأي. ونتيجة لضعف شخصية الوالدين اللذين كانا دائماً هما الخاسران في النهاية.
هذا النوع من الأولاد قد يصعب إصلاحهم فيما بعد، مما يؤثر سلباً على علاقاتهم وأعمالهم في المستقبل، عدا عن تأزم العلاقات العائلية... وكثيراً ما يتأثر الأهل نفسياً بحيث يقفون مكتوفي الأيدي حيال ما يصدر عن أولادهم؛ كما أن بعض الأهل قد يأسفون من الوضع القائم ويشعرون بالخجل وبتأنيب الضمير، لعجزهم عن ضبط الأمور العائلية، نتيجة ضعف شخصيتهم، وتسلط الأولاد على مقاليد الأمور الداخلية.
لكن كيف يمكننا تفادي هذه الصراعات العائلية؛ يمكن تفادي المشاكل العائلية التي يمكن أن تنشأ؛ عن طريق اعتماد ما يسمى: "بالحل الجماعي" وهو عبارة عن حل يتم الاتفاق عليه بين جميع أفراد العائلة، بحيث لا يشعر أحد منهم بأنّه مغلوب على أمره، أو مضطهد داخل العائلة الواحدة، هنا يجب أن نتبع ما يلي:
أوّلاً: يجب تحديد، طبيعة المشاكل العالقة بين الأهل والأولاد بشكل واضح؛ مثال ذلك: الولد يرغب شيئاً ما، والأهل يرغبون شيئاً آخر، هذه المسألة يجب حلها نهائياً عن طريق الحل الجماعي عبر الحوار.
ثانياً: جميع الأطراف المتنازعة يجب أن تدخل طرفاً في مسألة الحل الجماعي، مهما كان وزنها داخل العائلة.
ثالثاً: قد تختار الأطراف المتنازعة طرفاً محايداً، مهمته السماع لأكثر الآراء المطروحة التي من خلالها يظهر الحل الشامل للمشكلة العالقة.
رابعاً: يجب الأخذ بعين الاعتبار كل الأفكار المطروحة، دون أن تجابه بعضها بالرفض أو بالنقد اللازع، لأنّ المفهوم السليم هو إيجاد القاسم المشترك الذي يعتبر نوعاً من الحل الجماعي نتيجة موافقة كل أفراد العائلة.
خامساً: كل عضو في العائلة الواحدة له الحق بالتكلم للإفصاح عن كل ما يجول في خاطره من مشاعر وأحاسيس وآراء؛ ضمن فترة وجيزة من الوقت لا تتعدّى الخمس وعشرين دقيقة. بعدها يتم التداول حول كل الأفكار المطروحة لمحاولة الوصول إلى الحل العادل والملائم لكل فرد من أفراد العائلة. مما يعود بالنفع على توازن العائلة وعلى استمرارها.
أنّ هذه المبادئ ليست جديدة، لأنّه يتم استخدامها في جميع المجالات الحياتية من عملية واجتماعية؛ وقد برهنت عن نجاحها، فلماذا إذاً لا نستخدمها عائلياً لحل المشاكل التي تعترض العائلة الواحدة.
إنّ الجديد. هو كيفية تطبيق ما ذكرناه على مستوى العائلة، لأنّه نادراً ما يحاول الأهل أن يجلسوا مع أولادهم حول طاولة واحدة، لحل أكثر ما يحصل من صعوبات وأزمات عابرة؛ مثال ذلك: جهاد في السادسة عشرة من عمره، يريد أن يخرج ليلاً ويسهر حتى الساعة العاشرة، لكن والديه يمنعانه من تلبية هذه الرغبة لأنّه يترك دروسه ويهملها، ولأن أكثر علاماته التي يحصل عليها غير مرضية. حاولت أن أتدخل لأعالج الموقف الناتج عن طريق سماعي لآراء وحجج كل منهم على حده، وذلك لمدّة 10 دقائق فقط؛ وبعد تدويني لجميع الأفكار المطروحة، أخذنا نستعرضها معاً لنجد القاسم المشترك الذي يمكن أن يجمع بين الأهل والولد، وبعد جدال استغرق فترة طويلة من الزمن، تمّ الاتفاق على ما يلي:
- يُتمم جهاد واجباته المدرسية على أكمل وجه يومياً، دون إهمال أو تخاذل، بعدها يمكنه زيارة الصديق الذي يرغب على شرط أن يُعلم أهله، بمكان وجوده، عندها يمكنه البقاء حتى الساعة العاشرة مساءً.
الحل الجماعي هنا، جاء ثمرة محادثات شاقة وطويلة، لكنه كان في الوقت نفسه بالوناً من الأوكسجين أرضى الجميع دون استثناء.
مثال آخر: نائل ثماني سنوات ومي أربع سنوات؛ كانا يذهبان دائماً مع أهلهما إلى إحدى دور السينما؛ "مَيٌّ تسأل دائماً أسئلة كثيرة خلال عرض الفيلم، مما كان يغيظ أخيها "نائل" الذي يبدأ بالصراخ، فيرتبك الأهل ويعجزون عن ضبط الأمور، ومن ثمّ عن متابعة الفيلم بهدوء وسلام.
هنا حاول الأهل بمساعدة الأولاد إيجاد الحل المناسب الذي يرضي عنه الجميع، وبعد طرح الأفكار والسماع ملياً إلى كل منهم الاتفاق على ما يلي:
- يذهب الجميع إلى دور السينما على شرط؛ أن لا تسأل مَيّ أي سؤال خلال فترة عرض الفيلم؛ وأن لا يغضب نائل في حال سألت مَيَّ خطأ أو سهواً.
هذا الحل سمح لجميع أفراد العائلة العودة إلى السينما، دون حرمان أي فرد من أفرادها؛ كما تسمح لميّ أن تسأل ما تشاء ولكن بعد انتهاء الفيلم، مما هدأ من غضب نائل، كما أنّ هذا الحل قد شدَّ من الروابط العائلية نتيجة استمرار الجميع بالذهاب معاً إلى السينما دون إجبار أحد منهم على البقاء في المنزل؛ أو عند أحد الأقرباء؟ من جهة ثانية. إن اشتراك الأولاد في إيجاد الحل المناسب للجميع يدفعهم إلى تطبيق ما اتفق عليه دون تراجع، لأنّهم ينفذون أفكاراً صادرة عنهم، دون أن يكون هناك أي نوع من أنواع الدكتاتورية.
أنّ الحلول الجماعية تدفع الأولاد إلى التفكير والإبداع، وتعلمهم فنون الجدل الديمقراطي الصحيح، مما يساعدهم لاحقاً في حياتهم الاجتماعية والعملية. هذه الحلول الجماعية تحد من غضب وحقد الأولاد تجاه أولياؤهم، لأنّ الأنظمة المطبقة داخل المنزل صادرة عن الجميع وبعد استشارة الجميع، وليست صادرة عن فرد مستبد ومتسلط يتفرد برأيه. ما أجمل الديمقراطية العائلية في حال تطبيقها لأنّها ترضي الصغير والكبير وتشد من الروابط العائلية بشكل دائم، وهذا ما يساعد على استمرار التوازن الداخلي المنزلي فترة طويلة من الزمن.
المصدر: كتاب أحبب أولادك ولكن..؟
ارسال التعليق