نتيجة التعب الجسدي والنفسي
يتزايد يوماً بعد يوم عدد الأُمّهات اللواتي يعانين تعباً وإرهاقاً شديدين، من الناحية الجسدية والنفسية، تعب لا يستطعن التغلب عليه، لأنّهنّ يسعين باستمرار جاهدات إلى أن يقمن بكلِّ شيء على أكمل وجه، وأن يراقبن كلّ شيء حتى لا يخرج شيء على سيطرتهنّ، وأن يكن تلك الأُمّهات المثاليات اللواتي يحلمن بهن. هذا يجعلهنّ يستهلكن كلّ طاقتهنّ.
يعاني كثير من الأُمّهات الشعور بالكآبة والتعب والقلق والتوتر.. ثمّ فجأة تجد نفسها تتفوه في وجه أطفالها بكلمات قاسية لم تتخيل أبداً أنّ في إمكانها أن تنطق بها، أو تجد نفسها تصفع طفلها أو تضربه غصباً عنها على غير عادتها. هناك كثير من الأُمّهات يعانين هذا النوع من فقدان السيطرة والشعور بالتعب النفسي والبدني لكنه عندما يدوم ولا يلوح في الأفق أي مخرج من هذا النفق المظلم، فإنّ هذا التعب يتحول إلى انهيار وإرهاق شديدين. هذا الانهيار يختلف عن اكتئاب ما بعد الولادة الذي يصيب بعض الأُمّهات، لأنّه يمكن أن يصيب أي أم في أي وقت. والطريقة الوحيدة لتجنب هذا هي أن تعترفي بأنكِ لا يمكن أن تكوني أماً كاملة ومثالية طوال الوقت.
وهم الأُم المثالية:
إنّ الرسالة التي يمررها المجتمع للمرأة حول الأُم هي رسالة وردية: سوف تسيطرين على تربية طفلك، سوف تلدين من دون آلام، سوف تحققين ذاتك.:. باختصار الأمومة هي السعادة. وكما يكون التحدي كبيراً، وهو تحدي بلوغ الكمال، حيث إنّ ضرورة النجاح بدأت تنتقل من الحياة المهنية إلى الحياة العائلية. وهكذا، تجد المرأة نفسها مدفوعة دفعاً إلى أن ترغب في أن تصبح أماً كاملة ومثالية.
ولأنّه تم إقناعهنّ بأن قدوم طفل إلى حياتهنّ سوف يجعلهنّ سعيدات وناجحات، فإنّ الكثير من النساء يرمين بأنفسهنّ في تجربة الزواج والأمومة بأعين مغمضة، من دون أن يبحثن ويعرفن ما الذي يمكن أن ينتظرهنّ. وحسب المحللة النفسية ماريس فيون فإنّ النساء اليوم في عصرنا هذا، أقل استعداداً لأن يصبحن أُمّهات مما كن عليه في الأجيال الماضية. تقول فيون "لقد شجعنا البنات على أن يصبحن أمهات لكننا نسينا أن نخبرهنّ أنّ الأمومة ليست أمراً سهلاً بل هو أمر صعب جدّاً".
خيبة الأمل الكبيرة:
ولكن سرعان ما تأخذ الأمومة أبعادها الحقيقية ويظهر الفرق بين الواقع والوهم، بين الأيّام والليالي الصعبة وبين المسؤوليات المتزايدة، وصعوبة تنظيم الوقت.. يحدث هذا بالنسبة إلى بعض النساء في الأشهر الأولى بعد ولادة الطفل، بينما يحدث بالنسبة إلى أخريات لاحقاً، فيبدأ الشعور بالإرهاق يتملكهنّ. تغزوهنّ لحظات من الشكّ وتتراكم في أذهانهنّ الأسئلة التي لا يجدن لها أجوبة. وهنا تؤكد فيون أنّ الأوهام والأحلام التي بنتها المرأة حول السعادة والأمومة تذهب بلا رجعة. وأنّه يجب على المرأة أن تتقبل أنّ خيبة الأمل قد تطول، وأن تقطع بينها وبين الأُم المثالية التي كانت تريد أن تكونها في أحلامها، وذلك حتى تتمكن من رؤية أنّ الحقيقة تتكون من الصعوبات أيضاً وليس فقط من السعادة.
وهنا مربط الفرس، لأنّه حين لا تتقبل المرأة خيبة الأمل هذه ولا تتنازل عن صورة الأُم المثالية التي تريد أن تكونها، فإنّها تستمر في الجري وراء أوهامها حتى تنهك كلّ قواها وتصاب بالانهيار.
التعايش مع الواقع أو الانهيار:
تقول المحللة النفسية فيون "بعد أن تصبح المرأة أمّاً، تواجه بصعوبات عدة، ولا أحد ينتبه إلى ذلك، يكون الإحساس أوّلاً إحساساً بالإرهاق، وأيضاً إحساساً بالوحدة وعدم تفهم الآخرين". ذلك لأنّ المرأة كلما سعت إلى أن تنجح في كلِّ شيء، ضاع منها كلّ شيء. تشعر الأُم هنا بأنّ الوقت لا يكفيها لكي تقوم بكلِّ شيء، ليس لديها الوقت لنفسها ولا أطفالها ولا لزوجها. تشعر بأنّها تجري طوال الوقت بين هنا وهناك، وأنّه ليس من مخرج لما هي فيه. حتى خلال العطلات يلاحقها هذا الوضع، فهي تشعر بأنّ لا أحد يفهمها، لا أحد يساندها، ولا أحد يساعدها.
بداية تشعر المرأة بالإرهاق، وصعوبة في أن تستيقظ صباحاً، وتشعر بأنها مستنزفة وخائرة القوى. ثمّ يصبح هذا الإحساس اليومي ميكانيكياً، كلّ شيء فيه يتكرر يومياً، التصرفات والواجبات والمهام نفسها تتكرر، وخاصة تلك الموجهة إلى الأطفال. ولكي ترتاح قليلاً تحاول الأُم أن تترك بعض المسافة بينها وبين الآخرين، وخاصة على المستوى العاطفي، أي بينها وبين زوجها. لكن سرعان ما تظهر نتائج ذلك، حيث تكتشف أنّها تصبح كلّ يوم أبعد فأبعد عن هدف الأُم المثالية الذي رسمته لنفسها، فتبدأ في احتقار نفسها وفقدان الثقة بذاتها.
تعاني الأُم أيضاً مشاكل في النوم والتغذية والمزاج. وقد تعاني اكتئاباً، وقد تشرع في التدخين أو شرب الكحول أو مواد ممنوعة. وهذه ليست إلا بعض الأعراض التي تعبر عن أنّ الأُم المنهكة وصلت إلى مرحلة الانهيار. ولكن ما النتائج؟ تقول فيون: "يمكن أن تكون النتائج كارثية، مثل سوء معاملة الطفل أو ممارسة الأُم العنف ضد ذاتها، بل يمكن أن يصل الأمر إلى درجة الانتحار".
الوقاية من الانهيار:
الطريقة الوحيدة لحماية الأُم المرهقة من الانهيار هي أن تتوصل إلى الاعتراف بأنّ الأُم الكاملة المثالية غير موجودة. تقول فيون: "على السيدات أن ينتبهن إلى ضرورة أن يتأقلمن مع مسؤولياتهنّ كأُمّهات. عليهنّ أن يقبلن بتفويض بعض مهامهنّ ومسؤولياتهنّ اليومية إلى أشخاص آخرين، وخاصة إلى أزواجهنّ، أي الآباء. أن يقبلن بأنّ أشخاصاً آخرين يمكن أن يهتموا بأطفالهنّ، وبأن يخرجن من وهم الأُم الخارقة، وأن يفتحن الطريق إلى التعاون بين الأُم والأب، وبالتالي يسمحن للآباء بأن يمارسوا أدوارهم". ويمكن للأُم المنهكة أيضاً أن تتحدث مع أمهات أخريات وتعبر عما تشعر به، وستجد بالتأكيد أمهات أخريات يعانين مثلها، لكن في صمت، فالكثيرات ليست لديهنّ الشجاعة لكي يعترفن أمامها بأنهنّ في لحظة من اللحظات شعرن بالرغبة في الانتحار أو رمي أطفالهنّ من النافذة. لكن إذا بدأت هي بالبوح بالتأكيد سوف تجد أُمّهات يعانين ما تعانيه وربما تجاوزن هذا المشكل.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق