• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الانغماد المعوي عند الطفل الرضيع

الانغماد المعوي عند الطفل الرضيع
الانغماد المعوي، أو الانسداد المعوي، حالة تصيب بعض الأطفال الرضع، لاسيما الأولاد الذكور بين سني 5 و9 أشهر. ومن المنظور الطبي، تعد حالة طوارئ، تستدعي تدخلاً سريعاً. إذ، بخلاف ذلك، يقضي الرضيع نحبه خلال يومين اثنين إلى 3 أيام. أولاً، ينبغي تعريف "الانغماد المعوي" (بالإنجليزية "intussusceptions"، وبالفرنسية "intestinale invagination")، حيث يشير المصطلح إلى أنه: انسداد في الأمعاء جراء تداخل أنسجتها، بعضها ببعض آخر، ما يفضي إلى "إلغاء" عمل جزء من الأمعاء. ولوحظ إحصائياً أن الحالة، المسماة أيضاً "انسداد معوي شللي"، و"علَّوص انسدادي"، تصيب على الأغلب أطفالاً رضعَاً، تتراوح أعمارهم بين 5 أشهر و9 أشهر، وبنسبة أعلى بين الأولاد الذكور من البنات الإناث. وإذ يجهل العلم، حتى الآن، أسباب ذلك الانغماد بشكل دقيق، يشير بعض الباحثين إلى فرضية مفادها وجود كييسات آحية لمفاوية بغزارة في صفيحة الـ"مساريقا"، وهي نسيج ضام، مكون من طبقتين، يربط المعي الدقيق بالجدار الأمامي للبطن. لكن، ينبغي القول إن الفرضية لا تحظى بإجماع الأطباء والعلماء. - أعراض وصفت قبل 80 عاماً: أما أعراض الانغماد المعوي، فجاء ذكرها منذ القدم من جانب حكماء وأطباء كثيرين. وورد أدق وصف في كتاب "تشخيصات الطوارئ"، الذي نشره عام 1928 الطبيب الفرنسي الشهير هنري موندور (1962-1885 H.Mondor). وورد في الوصف، المنشور في فصل "المعدة والأمعاء" من الكتاب: "لغاية الإصابة، يكون الطفل في أتم صحة وعافية. لكن، فجأة، تنتابه آلام مبرحة، تجعله يبكي، بل يصرخ، ويعبر وجهه عن معاناة كبرى، وقلق مبهم. فيتحرك الرضيع باضطراب، أو يطوي نفسه نحو الأمام، أو يستلقي على أحد جانبيه، أو يرفع فخذيه نحو الأعلى مع طي رجليه في مستوى الركبتين، أو يسعى إلى الزحف على أربع فوق سريره". ويضيف موندور: "كما يتقيأ الرضيع آخر ما شربه من حليب، وبعد مضي بضع دقائق، يهدأ ويبدو وكأن الألم زال، ويصبح الطفل كالمأخوذ المخدر، ما يجعل الوالدين يظنان أن الأزمة مرت. لكنه هدوء خداع، إذ لن تلبث الأوجاع أن تعود، وصراخ الطفل معها أعلى وأعلى، وألمه أشد وأشد. ثم تقصُر تدريجياً الفترة بين الأزمة والتالية لها، بحيث تنخفض إلى ربع ساعة، أو حتى أقل".   - أعراض أخرى: ومن الأعراض الأخرى، التي تعين الطبيب على تشخيص وجود حالة انغماد معوي لدى الطفل، والتي وصفها أيضاً الدكتور موندور، يشار إلى: -        توقف التبرز والتغوط. -        فقدان الشهية. -   وجود بقع دم في حافضات الطفل، أو مواد مخاطية مصطبغة بلون أحمر يذكر بالدم. وفي تلك الحال، يصبح الطفل شاحباً بشكل ملحوظ، وتبدأ رجلاه في التخبط. كما يتقيأ مرة أو اثنتين. وإثر التقيؤ، يزداد شحوبه بشكل مرعب، لافت للنظر. كما ينتابه نوع من الشرود، ويتجلى تعبير القلق على محياه أكثر، وكأنه يعي خطورة وضعه. - ناقوس خطر: في أي حال، فإن تلك العلامة، نعني وجود بقع دم أو مواد مخاطية مدماة، إشارة سهلة الملاحظة من جانب الأم، أو ذوي الطفل أو الوسط الطبي، وينبغي أن تشكل ناقوس الخطر. إذ، حال الانتباه إلى وجود مثل تلك البقع الحمراء في حفاضة الطفل أو على شرجه، ينبغي التصرف معها بشكل عاجل. وإخضاعه للعلاج، في قسم الطوارئ، ينبغي أن يتم خلال الساعات التالية، وحسب. ويشدد الأطباء على تحذير الوالدين من الانخداع جراء خلود الطفل إلى الهدوء عقب الأزمة. فهذه تتعبه، وتنهك قواه، ما يدفعه إلى النوم والاسترخاء. لكنه، مثلما وصفه موندور، "هدوء غدّار، يجعل الوالدين يطمئنان، لاسيما أنهما، عموماً، يخشيان إجراء أي عملية لفلذة كبديهما. هكذا، يستكينان، ويفسران الأمر على أنه مجرد أزمة عابرة، وأن الطفل سرعان ما سيتحسن، بشكل مباغت، بقدر ما كانت الأزمة مباغتة". وأول ما يسعى الطبيب إلى إجرائه، بعد شرح الوضع له من جانب الوالدين، هو تقصي الانغماد باللمس اليدوي، في منطقة الحفرة الحرقفية اليمني، فضلاً عن السعي إلى تقفي أثر أي بقع دم في الشرج أو المستقيم. وفي حال الشك، يعمد إلى إجراء فحص البطن بالموجات الدقيقة. وفي معظم الحالات، يكفي ذلك للتأكد من وجود حالة انغماد قبل فوات الأوان، تجرى معالجتها عموماً بوساطة غسيل معوي (باستخدام "الحقنة")، يضم مركب الـ "بريت" (أوكسيد الباريوم)، في هدف فك الانسداد عن طريق الضغط. أما إذا حصل تأخر في كشف الإصابة بالانغماد، أو تأخر في التصرف إزاءها، فتشكل العملية الجراحية الخيار الأوحد.   - موقف محرج: لكن، ثمة صعوبة في تشخيص حالات الانغماد. فبعض أعراضها يشبه أعراض أمراض أخرى، منها: -        التهاب الأذن الحاد. -        الإمساك. إلى ذلك، فإن وجود بقع دم في حفاضة الطفل، هو أيضاً، يمكن أن يعكس حالات مرضية أخرى، مثلا: -        التهاب الأنبوب الهضمي الحاد (ما يسمى "enteritis gastro"). -        وجود ديدان معوية. -        مرض السليلة المخاطية الروماتيزمية (أو "المزجّل"، وهو ورم يصيب الأغشية المخاطية). -        إصابة المستقيم بداء "الفرفورية" الجلدي. -        الإصابة بالناعورية (أو الـ"هيموفيليا")، أو أي مرض يخص خاصية تخثر الدم. -        التهاب ذات السحايا الشوكي. هكذا، حيال الانغماد المعوي، غالباً ما يقع الطبيب في وضع محرج. ومثلما وصف الحال الدكتور موندور: "ينبغي تفهم صعوبة موقف الطبيب. فإن كان جاهلاً في شأن الانغماد، يموت الطفل. وإن تباطأ في التصرف، يموت الطفل. في المقابل، إن استعجل وقرر إجراء عملية، ثم تأتي وقائع تكذبه، يضع نفسه في موضع الاضحوكة والسخرية، وحنق الوالدين". لذا، فإن خمول الطفل المريض، ووهنه العام، وتعبير وجهه بالخوف والقلق، كلها، تشكل أدلة إضافية على احتمال إصابته بالانغماد المعوي، وهي داء أخطر من جميع الأمراض الأخرى المشار إليها، ذات الأعراض المشابهة، كلياً أو جزئياً، ويستدعي علاجاً عاجلاً.   - في حال الانتكاس: على الرغم من ذلك، تحصل حالات يزول فيها الانغماد من تلقاء نفسه. لكنها حالات نادرة للغاية، ولا يجب التعويل عليها. ومثلما ذكرنا، فإن العلاج سهل إذا تمَّ في الوقت المناسب، قبل تفاقم الخطورة، إذ ينصب على إجراء غسيل للمعدة بالـ"حقنة"، مع استخدام محلول يضم مركب "بريت" (أي أكسيد الباريوم). وفي حال إهمال الموضوع، عموماً يقضي الطفل المصاب نحبه خلال يومين اثنين إلى 3 أيام من بدء الأزمة الأولى. لكن ذلك لا يعني الانتظار يومين. بل، مثلما يشدد عليه جميع العارفين، يجب التصرف حالاً، خلال الساعات الأولى. أما في حال الانتكاس بعد العلاج، أي تكرر حالة الانغماد عند الطفل، فيتعين على الطبيب إجراء فحوصات وتحاليل إضافية سعياً إلى تحديد وجود علة عضوية، هي التي تسبب الانغماد. ومن أكثر العلل التي يمكن أن تفضي إلى الانغماد المعوي لدى الطفل، يشير الباحثون إلى: -   داء السليلة المخاطية الروماتيزمية (أو "المزجَّل"، وهو مثلما ذكرنا ورم يصيب الأغشية المخاطية). -   الإصابة بـ"رتج ميكيل" (بالإنجليزية "diverticulum Meckels"، وبالفرنسية "Meckel diverticule de"). والـ"رتج" أو الـ"رَدب" كيس أو جيب مرضي او خلقي، مسدود في أحد طرفيه، ويتصل طرفه الآخر بمجرى طبيعي، مثل الأنبوب الهضمي. وهو ينجم عن انفتاق الغشاء المخاطي المبطن، جراء عيب في الرداء العضلي للعضو الأنبوبي المصاب، فإن كانت الإصابة بالـ"رتج" تخص الأنبوب الهضمي، فإن من شأنها تعريض الطفل للانغماد المعوي. وفي هذه الحالة، تدعى "رتج ميكيل" نسبة إلى العالم الألماني يوهان فريدريش ميكيل (1781-1831)، الذي درسها دراسة معمقة. لكن، في الواقع، أول من شخص الداء، في القرن الـ16، كان السويسري ويليام فابري (1560-1634). في أي حال، يشكل هذا الـ"رتج" الغريب أحد أهم المسببات العضوية لانغماد الأمعاء. وطبعاً، في هذه الحال، لا تكفي معالجة الانغماد، في حد ذاته، باعتباره من التداعيات لا المسببات، إنما يجب القضاء على الـ"رتج" الأصلي.

ارسال التعليق

Top