• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

نفرح بالنقود ولا ننفقها

نفرح بالنقود ولا ننفقها

رصيد لا تعرف عنه شيئاً:

سمعتُ كثيراً ورأيت أفلاماً عن الرجال الذين يفقدون عملهم، لسبب ما، أو يخسرون ثرواتهم، لكنهم لا يجدون الشجاعة لإخبار زوجاتهم بالأمر، خجلاً أو شفقة، ويواصلون كتمان الأمر وكأن شيئاً لم يكن. إنّ الواحد منهم يستيقظ في الصباح يرتدي ثيابه ويخرج إلى العمل، بعد أن يودع زوجته ويطلب إليها أن تشوي له "فروّجة" للعشاء، ثمّ يبقى يدور في الشوارع، أو يتمشّى في المتنزهات العامة، أو يتنقّل من مقهى إلى مقهى، حتى تحين ساعة انصراف الموظفين من الدوام، فيقفل راجعاً إلى بيته وهو يمثل دور المرهق الذي هدَّه العمل. لا أملك ثروة لأفقدها ولا عمارة لأخسرها. ولم يصرفني أحد من عملي، لكنني ربحت في اليانصيب مبلغاً لا بأس به، ولا أنوي أن أكشف الأمر أمام زوجتي ولا أبنائي. أي أنني حالة معكوسة للمثال السابق، سيكون عليّ أن أقتصد في نفقاتي، كالعادة، على الرغم من أنني أملك حساباً سميناً في أحد المصارف التي لا أعرف فيها أحداً. وسبب إخفاء الأمر هو انني لم أعِش حياةً مُرفَّهة، بل عانيت الشّظف وصنعت نفسي مِن لا شيء. درت حتى نلت شهادة معقولة، وعملت حتى تمكنت من استئجار شقة متوسطة، وتزوجت وأنجبت البنين والبنات، يأتي كلّ منهم ورزقه معه، زيادة طبيعية في المرتَّب وعلاوات لا تسمح بكثير من الأريحيّة أو التبذير.

إنّ زوجتي سيدة طيّبة مثلي، ومقتصدة مثلي، وهي قانعة بنصيبها من الحياة، ولا تحسد الآخرين، ولا تغبط مَن تقود سيارة من صديقاتها، ولا تتفحّص بيوت الجارات وأثاثهنّ وتتمنّى مثله. إنّ لديها ما يكفيها والحمد لله، والأبناء يدرسون في مراحل مختلفة، وقد أمّنت لهم ما يسمح بإكمال الدراسة الجامعية، إن شاء الله. لماذا أقلق حياة هذه الأسرة القانعة، وأفتح أمام أفرادها أبواب التمنيّيات والرغبات، ونزوات الجشع الذي لا يقف عند حد؟

يحدث، أحياناً، أن أتفحّص مائدتنا فأجدها غنية بما يشبع ويزيد، لكنها ليست مائدة أسرة ثريّة تتعدد فيها أنواع الطعام وأشكال اللحوم بلا حساب. أنظر في طبقي لكي لا تلتقي عيناي بعيني زوجتي فتقرأ فيهما أفكاري. إنها تملك من الفراسة والاعتياد على أحوالي، ما يجعلها تقرؤني من دون شروحات. أكاد أغص بلقمتي، لكنني أبرّر لنفسي كتمان السر، بأنّ حوادث الحياة كثيرة ولابدّ للعاقل منّا أن يحسب حساب الأيام الصعبة. إنّ هذه النقود هي، في نهاية المطاف، للزوجة والأولاد والأحفاد، ولن آخذ معي شيئاً منها إلى القبر.

 

نفرح بالنقود ولا ننفقها:

ظننتُ ابنة خالتي تمزح معي، حين قالت لي إنّ زوجي فتح حساباً جديداً، ووضع فيه صكّاً بمبلغ من أصفار عديدة على اليمين. قلت لها، مازحة أيضاً: "صيت الغنى ولا صيت الفقر". لكنها لم تضحك، وأقسمت لي أنّ صديقتها المقرَّبة فلانة تعمل في المصرف الذي أودع فيه زوجي نقوده، هي التي أخبرتها بالأمر لمعرفتها بالقرابة بيننا. هل تكذب عليَّ أم أنّ زوجي هو الذي يخفي عني الحقيقة؟

طلبت منها أن تستفسر ثانيةً وتعود إليَّ بالخبر اليقين. واستفسرت ابنة خالتي من صديقتها المحاسبة في البنك وعادت وأكدت لي الخبر، وأبلغتني بالمبلغ وتفاصيل الوديعة الثابتة كافة، وما يعود عليها من فوائد سنوية. إنّ تاريخ فتح الحساب يعود إلى ثلاثة أشهر مضت، فهل يُعْقَل أن يخفي زوجي الأمر عنّي كلّ هذه المدة؟ من أين جاء بهذه النقود وهو مازال في وظيفته ذاتها، لم ينتقل إلى شركة خاصة ولا ورث شيئاً من أحد؟ هل يكون المبلغ أمانة من صديق تركها لديه، لسبب ما، وسيقوم باسترجاعها بعد فترة؟

لم أضطرب لأنّ زوجي كتم عنّي أمرتلك النقود، فأنا واثقة به وفي حكمة تصرفاته. لكنني حزنت لأنّه لا يريد لي أن أفرح وأتشارك معه في الاطمئنان على مستقبل الأولاد. هل يظن أنني سأهجم على الرصيد وأبدّده في أمور تافهة ومجوهرات وثياب أنا في غنى عنها؟ لقد احترمت وضع زوجي، منذ البداية، وتعاملت بحذر مع كلّ قرش يخرج من يدي ولم أمد رجليَّ إلا على قدر لحافي. إنّ هذه هي حالي منذ عشرين سنة تحت سقف هذا الرجل، فلماذا أكتشف أنّه لا يثق بي ولا يأتَمنني على أمواله؟

فكرت في أن أصارحه بما عرفته من ابنة خالتي، لكنني أعرف أنّ الأمر سيزعجه ويحرجه، وقد يُثير حفيظته ضد قريبتي ويسبّب مشكلة لصديقتها المحاسبة في المصرف. وهكذا سكت على مضض، وداريت فضولي لمعرفة مصدر النقود، من دون أن أنجح في نسيان الأمر. إنّ نظرات زوجي تشي بالسرّ، لأنّه يتعمّد ألا تلتقي أعيننا على مائدة الطعام. كأنّه يلوم نفسه على تقتير لم نعد نحتاج إليه، وعلى طعام يمكن أن يكون أكثر تنوّعاً.

ارسال التعليق

Top