• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحُبّ الأوّل

ترجمة: د. ألبير مطلق

الحُبّ الأوّل

إنّ وقوعك في حبّ طفلك هديّة رائعة، وأروَع من ذلك أن يقع هو في حُبّك. يشرح هذا القسم كيف تتوفّر لك أفضل الفرَص لتشكيل علاقة عميقة مع طفلك، حافلة بالمحبّة وبلحظات لا تُنسى.

ابتداءً من نحو عمر الشهرين ونصف الشهر، عندما يبدأ الأطفال بالتجاوب بقوّة بعيونهم، قد تَقضين مع طفلك الجديد أوقاتاً طويلة في تحديق متبادَل. الأطفال لا يفعلون هذا حين ينظرون إلى أشياء أخرى؛ يُحبّون أن ينظروا إلى الوجوه. تعبير الفرح على وجهك يستجيب له طفلك بتعبير فرح مقابِل. الأطفال الذين يخدمهم الحظّ فيكون لهم تكراراً مثل هذه اللحظات الحميمة مع أمّهم وأبيهم في وقت مبكِّر من الحياة، هم أغنياء فعلاً.

 

·      هذه الأوقات بينك وبين طفلك هي أيضاً حَجَر الأساس في تكوين الاعتزاز بالنفس.

قدرة طفلك على أن يُشرح صدرك هي الأساس في الإحساس بنفسه على أنّه بهيج ومحبوب، وأنّه مسلٍّ وقادر على أن يجلب الفرح للآخرين. الأطفال الذين تفوتهم هذه الأوقات الغنيّة من الحبّ يغلِب أن يحتاجوا إلى صراع أكبر مع اعتزازهم بالنفس في مستقبل الحياة. الأطفال لا يستطيعون أن يفهموا أنّ وجوه آبائهم وأمّهاتهم الجامدة غير المتجاوبة سبببها ببساطة عجزهم عن إظهار حبّهم، ربّما بفعل ما أصابهم في طفولتهم من كرْب، أو اكتئاب، أو قلّة مساندة، وهو ما يترك أولئك الأطفال بشعور أنّهم غير محبوبين.

 

·      الوقوع في حبّ الوالدين مُهمّ للغاية إذ إنّ هذا الحبّ كثيراً ما يتحول إلى حبّ للحياة.

لنأخذ مثلاً طفلة عمرها خمس سنوات، ولنُسمِّها إيمان. إيمان طفلة تُحبّ أباها. وضع الأب مرطبانات (برطمانات) مربّى صغيرة على مائدة الفطور.

تقول إيمان بابتهاج حقيقيّ، "يا سلام، هذه أفضل مرطبانات مربّى رأيتها في حياتي". إيمان قد بدأت تحوِّل حبّها لوالدها إلى حبّ الحياة.

تأمَّلي في ما يلي...

بعض الوالدين يقعون في حبّ طفلهم منذ لحظة ولادته. وآخرون يستغرقهم الأمر فترة أطول، لأنهم كثيراً ما يعتقدون أنّ الطفل يكون أكثر تشويقاً بعد أن يصبح قادراً على الاستجابة. وهؤلاء يفوتهم أنّ الأطفال الصغار قادرون على القيام بمحادثات مدهشة. ولأنّ بعض الوالدين لا يَعون ذلك، يفوّت أطفالهم بعض أهمّ الفرص الرائعة لنحْت الدماغ.

 

لِمَ للاحتضان أهمية حيويّة؟

خطأ كبير أن تقولي "إنّ طفلي الآن كبُر على الاحتضان" إذا كان قد تجاوَز مرحلة طفل دارج. بعض الأطفال في هذه الحال يبدأون بالابتعاد عن والديهم. ذلك أنّه يمكن للرابطة العاطفيّة أن تضعُف من غير التفاعل المتسلسل للكيماويّات التي ينشّطها الاقتراب منك بدنيّاً. الأطفال المحرومون من اللمس يمكن أن يصِلوا إلى نقطة دفاعيّة. في الحالات القليلة التي يقترب منهم فيها والدوهم لاحتضانهم، ينكمِشون على أنفسهم، أو يرفضون الاحتضان صراحةً. يمكن أن يكبر الأطفال المحرومون من اللمس ليُصبحوا ذوي "أجسام مضطربة". يمكن أن يَرسَخ في لاوَعْيهم أنّ أجسامهم غير مرغوب فيها عند أكثر الناس أهميّةً في حياتهم. إيذاء النفس، والتدخين، واضطراب الأكل، وشرْب الكحول وغيرها من الممنوعات، وإهمال صحّة الجسم، كلّ ذلك يمكن أن يكون نتيجة لحرمان الإنسان في طفولته من الاحتضان، والمواساة بالكلمات واللمسات، واللعِب مع الوالدين.

"يُمكن أن يكبر الأطفال المحرومون من اللمس ليُصبحوا ذوي أجسام مُضطربة".

 

لَحَظات غنيّة:

تشكِّل بعض اللحظات لقاء حقيقيّاً بينك وبين طفلك، وهذه لحظات أساسية في شعور طفلك أنّه بهيج ومحبوب. اللحظات الغنيّة هي أوقات من الترابط العاطفي العميق من غير إلهاء، ومن غير تركيز على شيء آخر، مثل التلفزيون أو ألعاب الكومبيوتر. على سبيل المثال، يرمي طفلك ذراعيه حولك ويقول "ماما، أنا أحبّك". تستجيبين بالتقاطه، تحملينه وتدورين به، وتحتضنينه، وتُدغدغينه، فيَضحك ويضحك من كلّ قلبه.

اللحظات الغنيّة تشتمل على عفويّة في لقاء الواحد منكما للآخر، وتمهُّل يُطيل فترتها. وهي لحظات يشعُر طفلك خلالها أنّك تستجيبين لفرحه وتستجيبين لألمه. لحظات الطفولة هذه يمكن أن تُصبح ذكريات عزيزة في مستقبل الحياة: "عندما كنت صغيراً، كان أبي يحملني ويرفعني في الهواء مُداعباً، ويضمُّني حين أبكي، ويتعاطف معي فعلاً حين أخاف".

تبيْن الدراسات أنّ المجتمعات والأُسر التي تُكثر من التقارب البدنيّ الدافئ بين الطفل وأهله تُواجه عدداً أقلّ من مشكلات الغضب الهائج والعدوانيّة. ومع ذلك فإنّنا نلاحظ أنّ في بعض الأُسر مَيلاً إلى ترك الاحتضان بعد سنّ الطفولة الأولى، ويزداد هذا المَيل خصوصاً بعد سنّ الخامسة. إنّ انقطاع الاحتضان والتقارب البدنيّ مع الأطفال في سنّ مبكّرة يمكن أن يؤدّي إلى اضطرابات نفسيّة وبدنيّة في مستقبل حياتهم.

 

·      الأطفال معلِّمون مُمتازون للّحظات الغنيّة، إذا كنّا مُستعدّين أن نتعلّم.

يمكن أن يعلّمنا الأطفال كلّ شيء عن التواصل العاطفيّ أو يعلّمونا مجدّداً إذا كنّا قد نسينا. الأطفال الذين يتلقّون لحظات غنيّة من التواصل العاطفي سرعان ما يُصبحون هم أنفسهم خُبراء. كثيرون من الأطفال بارعون في التحديق المركَّز. بإمكانهم أن يُقيموا لقاء حقيقيّاً مع أغراب عنهم. لذا إذا كنت في مطعم، كثيراً ما ينظرون في عينيك وعندئذٍ يكون بينكما لقاء لطيف وَدود، عبر قاعة مزدحمة بالناس. على أنّه إذا كانت قدرتك على اللقاء الحميم لم تتطوّر في طفولتك تطوّراً صحيحاً، لا يكون الأطفال قادرين على أن يستخدموك بطريقة نحْت الدماغ الحيويّة هذه.

بعض الأُسر أرض خصبة للحظات العلاقة الإيجابية القوية؛ وأُسر أخرى ليست كذلك. بعض الأُسر تتخلّى عن عادة التقارب التي يتأتّى منها أوقات سعيدة. يمكن أن يحدث هذا بصورة خاصّة إذ يكبر الأطفال ويُصبح البيت مكاناً لأنشطة فرديّة في غُرَف مختلفة. أحياناً لا يتطلّب تغيير الوضع إلى الأفضل إلّا القليل جدّاً من تعديل السلوك.

"بعض الأُسَر تتخلّى عن عادة التقارُب التي تتأتّى منها أوقات سعيدة".

 

المصدر: كتاب علم الأمومة والأبوة

ارسال التعليق

Top