• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الطفولة وعالم اللوحة الجمالي

الطفولة وعالم اللوحة الجمالي
- من أين يبدأ الطفل في التعرف الجمالي على محيطه وبيئته؟ إنّه يبدأ من اللحظة التي يشده فيها أي مؤثر جميل وفعال وجذاب، سواء كان سمعيّاً أم بصرياً، وتبدأ حواسه بالتنبه والتأمل ثمّ محاولة التعرف على الكليات والعموميات، فالأجزاء أو العكس. المهم أن يبدأ المؤثر الجمالي فعله في حواس الطفل العليا وبقدر ما يكون هذا المؤثر فعالاً ومؤثراً وجميلاً وممتعاً، بقدر ما يلاقي في النفس الصدى الكبير والاستجابة المثلى.. مهما كان هذا الطفل صغيراً.. ومهما كانت مدركاته العقلية محدودة وبسيطة. كيف يقرأ الطفل الأثر الجمالي باللوحة وإلى أي مدى تثير انتباهه واهتمامه؟ للإجابة على هذا لابدّ من تمييز الخصائص التالية في الطفل: أوّلاً- الحركة: إنّ الطفل تثيره الحركة، لذلك يتابع بشغف أفلام الكرتون المتحركة. والأثر الجمالي الحركي هو الذي سيكون فعالاً في استخدامه لتنمية الذوق الجمالي. وتعد الصور والرسوم المتحركة أوعية تعبير ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى الأطفال، فهم يعبرون عن أنفسهم بالرسوم منذ عمر مبكر، كما أنّهم يستقبلون التعبير من خلالها، ويعنون بكثير من تفصيلاتها، وتنطبع في أذهانهم الصورة الذهنية الموحية، وتشير دراسات عديدة إلى أنّ الرسم أو الصورة أكثر إقناعاً من الكلمة في كثير من الأحيان. لذا فإن وجود الصورة أو الرسم أدعى إلى الإقناع والتصديق. أما الحركات فهي عنصر آخر من عناصر الجاذبية والتشويق، وهي، فضلاً عن ذلك، تضفي على المواقف والأفكار أبعاداً جديدة.

ويثار انتباه الأطفال بالحركات، ويريدون للأشياء أن تتحرك، فهم لا يطيلون التمعن في مشهد تلفازي يظهر فيه أسد واقف، إنهم في هذه الحالة يقولون اقفز.. تحرك.. إزأر.. ومن خلال المزج بين الرسوم والحركة ظهر نوع جديد من أفلام الأطفال، وهي الرسوم المتحركة والتي تمتاز عن الأشكال السينمائية الأخرى حيث يعتمد التجسيد الفني عبر هذه الأفلام على إدخال الحياة في الصور والرسوم الجامدة، وتشكيل عالم خيالي مثير، إضافة إلى أن ما توفره من جدة تجعل المواقف الاعتيادية، خصوصاً وأنها تلائم رغبات الأطفال، وتناسب طبيعة عملياتهم العقلية والانفعالية، إضافة إلى أنّها قريبة من حيث بناؤها الفني والنفسي، واعتمادها على الخيال والإثارة، تنقل الطفل من حالته الاعتيادية إلى حالة تتصف بالغرابة التي تشابه الحالة التي تخلقها اللعب إلى حد كبير. ثانياً- العناصر الأساسية: في اللوحة أو الرسم، سواء أكانت بشرية أم حيوانية، فإنّها تثير انتباهه واهتمامه.. وفي الغالب يستمتع أكثر بالأشكال الحيوانية لأنّها ليست تحت بصره ولا يراها إلا في الصور، لذلك يستمتع بها أكثر بأنها بالنسبة له عملية اكتشاف لأشياء جديدة. وهذا بحد ذاته مفتاح جديد يمكن استخدامه في تنمية الحواس الجمالية عند الطفل من خلال عرض النماذج الحيوانية الجيدة الرسم أو التصوير لشد الانتباه عنده والاهتمام فيما بعد بالجماليات الأخرى المرافقة وغابات وأشجار وعمائر وتشكيلات طبيعية، من جبال وتلال وجداول وظلال. وهذا مجال واسع من المجالات التي تسهم في تطوير خياله وتجعله في حالة استمتاع بصرية وتخيلية دائمة. ثالثاً- اللون: إنّ لعنصر اللون أهمية كبيرة في اللوحة التي يراها الطفل، فكلما كانت أكثر إثارة وأكثر حرارة وأكثر تضاداً، كلما اهتم بها ولفتت نظره، ولذلك نجد إقبالاً من الأطفال على الأفلام ورسوم الكرتون الملونة بألوان صريحة وصارخة أكثر من إقبالهم على الصور والرسوم الملونة بانسجام وهارمونية هادئة وشاعرية.. أي المعتمدة على التكامل وليس على التضاد الحاد. وذهب بعض علماء النفس، وخصوصاً أولئك الذين ينحون منحى مدرسة التحليل النفسي، إلى تأكيد أهمية الألوان في النفس، خصوصاً وأن هناك اتفاقاً على أنّ الألوان تساعد في تقديم الأشكال بطريقة مؤثرة، نظراً لاتصال اللون بالحس، خصوصاً وأنّ الإدراك البصري يقوم على وقوع الموجات الضوئية على العين. وتلعب الألوان دوراً مهمّاً في تحقيق الانسجام والتوازن في الأشكال، في عين الطفل وفي كسب انتباهه، وفي إرضاء ميله نحو ألوان معينة. إن أكثر الألوان استحواذاً على اهتمام الأطفال صغار السن وجذباً لأبصارهم هي الألوان الأساسية الثلاثة: الأصفر، الأزرق، الأحمر، بشرط أن تكون زاهية ونظيفة ومفرحة. لذلك يجب أن يكون لهذه الألوان الأساسية الثلاثة النصيب الأكبر في الرسوم المقدمة للأطفال صغار السن دون أن يمزج بينها ودون أن تستخدم أيّة ظلال أو تدرجات في اللون الواحد، وذلك حتى لا يرتبك الطفل الصغير وينفر من الصورة، ويحسن أن تكون مساحات الألوان منفصلة بعضها عن البعض الآخر. رابعاً- غرابة الموضوع وطرافة الفكرة: وهي مما يشدّ الطفل كثيراً، فإذا جاء الموضوع عادياً لم يلفت نظره، لذلك نجد أن أكثر الرسامين الكبار الذين يرسمون لوحات تعرض على الأطفال، يجنحون إلى الخيال وإلى الغرابة وإلى الأسطورة، وإلى ما لا يصدق، سواء من حياة الإنسان أو الحيوان أو من النوعين معاً. أهمية الصورة: في كتب الأطفال ينبغي أن ترافق الصورة دائماً النص، حيث أنّ العلاقة بينهما علاقة وثيقة... فالتصوير والرسم يجسد ما يقوله النص. والنص بدوره يشرح الصورة ويكملها.. وبدون ذلك فإنّها تصبح صورة ملتبسة المعاني متعددة الطروح، أي يجب أن تتولى الصورة نقل معاني النص وحكائيته... وبهذا تكون الصورة تجسيداً للنص.. ولقد لوحظ أنّ الصورة نقل معاني النص وحكائيته.. وبهذا تكون الصورة تجسيداً للنص.. ولقد لوحظ أنّ الصورة تسهل اتصال الطفل فيما بين الثالثة والسادسة بالكتابة وتحفزه إذا كانت معبرة ناطقة على القيام ببعض الملاحظات حول الحكاية، بل إنّ الصورة تستطيع أن تعوض بشكل من الأشكال النص، وهي تكتفي بذاتها بالنسبة للأطفال الذين لا يعرفون القراءة والذين يستطيعون تمييز كتاب عن الآخر من خلال صورة الغلاف التي تحل محل عنوانه. وبنظرتنا إلى رسوم الأطفال التي يقومون برسمها نجد أن فيها فروقاً ظاهرة في التعبير عند الجنسين من الأطفال، فالصبيان، وخصوصاً بعد سن الثامنة، يميلون إلى التعبير الانفعالي التصويري المصحوب ببعض التفاصيل.. فهم يتصورون مستقبلهم كيف سيكون وهم يصورون أنفسهم في وظائف مهمة (حسب مكتسباتهم من البيئة المحيطة بهم ومن خلال أسرهم وعائلاتهم) ولكنهم يرسمون صوراً مبالغاً فيها وفق سعة الأفق ووفق تصور كل منهم.. ضابط شرطة يركب حصاناً أسود جباراً أو يركب سيارة تسابق الريح ليلحق بالمجرمين واللصوص، هو قوي البنية طويل عريض المنكبين مفتول العضلات أو ضابط جيش يعتلي دبابة، ولا مانع من أن يرفع عليها العلم، وقد يكون جسده في حجم الدبابة. وقد ينجح طفل آخر ويصور نفسه مسرحيّاً يعتلي خشبة المسرح وهو أعلى صوتاً وأضخم جثة. تظهر كل تلك الصورة في ممارسة الطفل للرسم والتجسيد بالنحت والتركيب والألوان الصارخة القوية المحاطة بسياج ملون مبهر جدّاً وخطوها عادة قوية تميل إلى الخطوط الهندسية تأخذ وجهة محددة صريحة. أمّا الفتاة فنراها من خلال رسومها تميل إلى التعبير الزخرفي الممتلئ بالتفصيلات، وهي إذا تصورت مستقبلها فإنها ترسم نفسها بين أقرانها من البنات متساوية في الحجم والمساحة ولكنها تضفي على أقرانها من الصبيان ألواناً باهتة لا تقوي صورهم وإنما وجودهم فقط يكمل الصورة. وفي جولة في عدد من المتاحف المهتمة بالإنسانيات والدراسات البشرية والبيئية نجد التشابه الكبير بين رسوم الإنسان الأوّل ورسوم الطفل الصغير، ونجد مراحل التعبير كذلك متشابهة؛ فالحذف والتسطيح والشفافية والتجسيد والمبالغة حسب الاهتمامات المختلفة كما نراها في رسوم الكبير غير الناضج ذهنيّاً، وهذه الحالة بالذات تجري فيها دراسات متعمقة متعددة الاتجاهات. وإذا تتبعنا طفلاً لقياس ذكائه، نجد أن هناك علاقة كبيرة بين رسوم هذا الطفل ومدلولاتها وقدراتها الفنية ودرجات ذكائه وما قد يظهره الطفل من قدرات في تعبيره الفني ومحاولة إيصال مفاهيمه عن طريق الأفلام والألوان. غالباً يكون هذا الطفل على قدر ملموس من الذكاء. وإذا أخسنا بالأبحاث الجديدة التي تقيّم الطفل بأنّه شيء مهم في عملية التعلم، وإذا اعترفنا به على أنّه كائن حي له ميوله واستعداداته، وأن أسلوبه في التعبير الفني والتشكيلي يحمل خصائصه وصفاته المميزة وجب علينا أن نبحث له عن حريته ونكفلها له، ووجب على المربين والمشرفين على الطفل احترام هذه الحرية على أن لا يترك الطفل وشأنه ليقع أسير حريته في التعبير والوقوع فيما يضره.. ولكن علينا، وبعد تأكدنا – بالدراسة – من ميوله، أن نختار له المثيرات الهادفة بالعمل بطرق غير قاهرة ودون مبالغة في الفرضية التي قد يتنبه إليها الطفل. إنّ تشكيل الوعي الجمالي عند الأطفال يجعلهم يكتسبون ما يسميه "جروس" (خبرة الفن)، لأنّ الطفل يكتسب إذا لم يستطع أن يعي التشكيل ويطلق عنان خياله ويعيش شعوريّاً مع الشكل، لأن الجوهر أو الخاصية الأساسية للفن – كما قالت "سوزان لانجر" (فيلسوفة علم الجمال) هو أنّه حياة الشعور. إنّ تربية الذائقة الجمالية عند الطفل، تقتضي معرفة وثقافة غنيتين ومتنوعتين سواء من لدن الأسرة أو من لدن المربين في المدرسة، أو مؤسسات التعليم الأولى، ويأتي في قائمة هذه المعارف، دراسة الطفولة، ومعرفة ميول الطفل، واهتماماته ودوافعه الشخصية وما إلى ذلك، ثمّ تأتي بعد ذلك خطوات يمكن أن نجملها، على سبيل المثال لا الحصر، فيما يأتي: * إثراء بيئة الطفل بالمفردات الجميلة والملائمة لمداركه ومستوى نضجه. *تحقيق الجمال عمليّاً في محيط تفاعل الطفل مع ذاته ومع غيره (الترتيب/ التنسيق/ التنظيم) وفق الإكانيات المتاحة. * العناية بالمظهر الخارجي للإنسان (الهندام/ المأكل/ الحركة...). * تعويد الطفل على الاهتمام بالتفاصيل والأجزاء. * تنبيه الطفل إلى أنّ الجمال يكمن أحياناً كثيرة في العلاقات القائمة بين الأشياء، والتنويع المستمر في هذه العلاقات. * التأكيد على أنّ الجمال ينبع من الداخل أساساً، بمعنى أنّ الجمال هو حالة داخلية مثل الفرح والحزن وغيرهما، وهو أيضاً استعداد قبل أي شيء آخر. * تعويد الطفل على بعض الصفات المهمة في تربية الذائقة الجمالية كالصبر، والأناة، الصفاء الذهني والنفسي، وعدم التأثر أو الانسياق مع تقييمات الآخرين، واكتساب ثقافة غنية ومتنوعة تبعاً لنضج الطفل. لذلك، لابدّ أن نحشد كل الجهود التربوية لتنمية الوعي الجمالي عند أطفالنا وتشكيله من خلال جميع الوسائط، والتعامل مع ثقافة الطفل البصرية من خلال لغة التعبير التشكيلي، والتركيز على تنمية قدرته على الاستجابة للعناصر والعلائق البصرية، وإكسابه الخبرات الفنية من خلال معايير موضوعية بسيطة بالإضافة إلى تنمية سلوكه الابتكاري، وتوثيق صلته بعلم الجمال وفلسفة الفن وإكسابه القيم الجمالية في الحياة والارتباط بالبيئة وفهمها، وصقل ذوقه وتعويده على الابتكار والترقي برؤيته التشكيلية ومواهبه الإبداعية ومشاعره الإنسانية.   المصدر: كتاب أطفالنا.. وتربية عصرية

ارسال التعليق

Top