• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

علينا النصيحة ولهم الاختيار

أسرة البلاغ

علينا النصيحة ولهم الاختيار

اشتكى شاب ذات يوم من مشكلة مع أبيه، فالإبن يرغب بالدراسة الأدبية والأب يصرّ على الدراسة العلمية؛ لأنّ مستقبلها أفضل، ونزولاً عند إصرار الأب، وخلافاً لرغبة الإبن، دخل الشاب الفرع العلميّ، وكان أن فشل الشاب في دراسته ممّا اضطرّ الأب إلى الخضوع راغماً للقبول بخيار ابنه بعد ضياع سنة.

الإبن حينها لم يكن شاكياً فقط، بل يطلب المشورة، وكان من بين ما قاله المستشار: خذني أنا مثلاً، فقد كنتُ طالباً عاديّاً طوال سنوات ما قبل الإعداديّة أو (الثانويّة)، وعند مُفترَق الطّرق لم يتدخّل أهلي في اختياري، لكن الذين تدخّلوا وأصرّوا على التحاقي بالفرع العلميّ هم زملائي الذين قالوا: إنّ الجميع اختار العلميّ، فلماذا تختار الأدبيّ؟ وأضاف المستشار قائلاً: أحمدُ الله أنّني لم أقع تحت تأثير العقل الجمعيّ، فاخترتُ الأدبيّ لأتذوّق التفوّق لأوّل مرّة في حياتي الدراسيّة، فكنتُ الأوّل على مرحلتي.

قصّة الشاب وقصّة المستشار أيضاً ليستا قصّتين غريبتين.. لهما من أمثالهما الكثير. وعلى الرغم من التجارب الكثيرة، لا زال بعض الآباء يُكرِّر الخطأ نفسه، ولا زال بعض الأبناء يدفعون ثمن الخطأ ذاته.

قبل أيّام نقل أب أنّ ابنه يريد أن يتخصّص في الإطفاء، وقد بيّن لأبيه سبب اختياره: لأنّ فيه إنقاذاً لأرواح الناس!! الأب ردّ ردّاً مختلفاً، قال له: ألم تجد مهنة أخرى غير الإطفاء؟! مَنْ في العائلة يعمل إطفائياً حتى تعمل مثله؟ ولعلّ الأب كان يستحضر المردود المادِّي للمهنة أكثر من المردود الاجتماعي لها.

وهذه أيضاً ليست القصّة الوحيدة، فما أكثر ما يقاربها ويماثلها في قصص اختيارات الشاب لاسيما في حقلَي العمل والزّواج، وقصص دسّ أنوف الآباء في اختيارات أبنائهم بشكل يرغمهم على اختيار خيار آبائهم، أو أُمّهاتهم أحياناً، حتى ولو كان يصطدم باختيارهم، أكثر من أن تُذكَر أو تُحصَر.

بعض الذين اجتازوا العقبة وتخصّصوا في الفروع العلمية، نجحوا في دراستهم وتخرّجوا، لكن الحنين ظلّ يلازمهم إلى اختيارهم الأوّل، ولا نشكّ أنّ الأطبّاء الأدباء والمهندسين الأدباء – إلّا ما شذّ وندر – كانوا ربّما قد انخرطوا وسلكوا في مهنهم بغير اختيارهم لها.. ولسنا نشكّ أنّ الطب والهندسة والمحاماة والتجارة تطعم وتوفِّر رفاهية أكبر من الأدب والفروع الإنسانية، لكنّ الله أراد للحياة أن تنوّع، وللإختصاصات أن تُملأ، فلو كان الناس كلّهم (أرخميدس) فمن أين لنا بـ(أرخميدس) وهكذا، ولعلّ الذي صاغ المثل الشعبي: "إذا أنت أمير وأنا أمير، فمَن يسوق الحمير"[1]، ناظر إلى هذه النقطة التخصّصية، أو سرّ الخصخصة.

أحدُ العلماء الكبار سُئل – ذات مرّة – عن تربيته لأولاده، فقال: عليَّ أن أسدي لهم النصيحة وأبصِّرهم ما لا يبصرون، وهم الذين يُقرِّرون ويختارون، وحينها لا ألومهم على اختيارهم، فهم حيث يجدون أنفسهم لا حيث أجدهم أنا. فابن العالِم ليس من الضروري أن يغدو عالِماً، وابن الطبيب ليس بالملازمة أن يكون طبيباً، وابن المهندس ليس بالتبعية يصبح مهندساً، أمّا إذا وجد نفسه وهواه وذوقه ومزاجه ومستقبله في الطبّ والهندسة والعلم، فعندها يكون هو الذي اختار ولستُ أنا الذي اخترتُ له!

 

كان أبي!!

ليسَ الفتى مَنْ قال: كان أبي *** إنّ الفتى مَنْ قال: ها أنذا

فمهما كان موقع الأب وسمعتهُ وأمجاده، فإنّ ذلك لا يغني عن اكتساب الفضائل والتحلِّي بها، بل لابدّ أن نكون – كأبناء وأحفاد – مثله أو أحسن منه. نعم، قد يتعامل الناس معك على طريقة (لأجل عينٍ ألف عين تُكرمُ)، لكنّ ذلك لا يضعك في مقام أبيك أو جدّك الذي بنى مجده بيده وعرق جبينه وربّما بدمائه، وأمّا الذي تغنّى بأمجاد الماضين قائلاً: "أولئكَ آبائي فجئني بمثلهم".. فلا أتصوّر يفحمني بطلبه هذا لمجرّد أنّه يعجزني الإتيان بمثلهم، لأنّني أطالبه – حينها – أن يريني كَمْ هو في ميزان اللّحظة، وأين هو من تلك الأمجاد، هل ينام على وسادة من ريش النّعام صنعها له أبوه، أو يتاجر بسمعة كانت رائجة عطرة بحياة صاحبها وهو لا يحمل، كوليّ للعهد، منها ولا نفحة؟!

إنّ الأب ذا المكانة المرموقة سلاح ذو حدّين، فقد يكون (مُعطِّلاً) للطاقة إذا ارتكن الإبن إلى ظلّه يستظلّ به من غير جهد يبذله، وكأنّه اختار أن يكون (الصّدى) وكان بإمكانه أن يكون الصّوت، وقد يكون (مُحفِّزاً) في أن يكون القدوة لابنه يستلهمه في مشوار نهوضه هو وعطائه هو وتفوّقه هو، لقد تبختر (ابن موسى الأشعري) في مشيته ذات يوم لأنّه كان يرى أنّه ابن أحد الحَكَمَين[2]، ورفض (ابن عمرو ابن العاص) فوز مسابقه عليه فضربه لأنّه في نظره لا يجوز تجاوز أبناء (الأشراف).. وذوي الحسب والنّسب.. وما دريا أنّ شرف الإنسان وحسبه ونسبه (أدبه) وعلمه وخلقه ودينه وآثاره الطيِّبة التي يتركها في الناس.

ونعرفُ أنّ بعض الشبّان تضايقهم (نجوميّة) آبائهم، لأنّهم تحجبُ نورهم عن الآخرين، وهم يُفضِّلون أن يجلسوا على مقعدٍ صنعوه بأنفسهم من أن يجلسوا على (منبر) جلس عليه آباؤهم، لا لشيء إلّا أنّهم أبناء ذلك السّلف الصّالح.

إنّ الذي خلّد إسماعيل (ع) ليس هو موقع أبيه النبي المسلم خليل الله إبراهيم (ع) من الله، بل بما أسلمَ هو وجهه لله وأطاعه في مسألة الذّبح الشهيرة.

إنّنا كآباء لا نطمع أن يكون أبناؤنا أمثالنا بل أفضل منّا، فما بالكَ بمَنْ يصادر موقعه في الحياة بنفسه؛ لأنّه يصرّ على المراوحة في مكان أضاءه أبوه بعطائه، ولم يحاول أن يزيده ضياءً، أو أن يضيء غيره، أو أن يحافظ عليه مضيئاً على الأقلّ، أو كما يقول (جبران خليل جبران): "ورث عن أبيه أرضاً فيها شجرة تفّاح، فزرع إلى جانبها شجرة تفّاح أخرى!".

كُن ابن ما شئت واكتسب أدباً *** يغنيك محموده عن النّسبِ

وصدق مَنْ قال: "فخر المرء بفضله لا بأصله!".


[1]- سَوْق الحمير، مثال عن المهن الأدنى من رتبة الأمير والوزير والمدير.

[2]- الحَكَمان هما (عمرو بن العاص) و(أبو موسى الأشعري) حكما في معركة صفّين، فكان الأوّل ممثِّلاً عن معاوية والثاني عن الإمام عليّ (ع)، فنصر الأوّل صاحبه بالباطل، وخذل الثاني صاحبه بالحقّ.

ارسال التعليق

Top