◄(الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ * وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرَّحمن/ 1-13).
معاني المفردات:
(الرَّحْمَنُ): صيغة مبالغة تدل على كثرة الرحمة.
(البَيَانَ): الأدلة الموصلة إلى العلم.
(بِحُسْبَانٍ): الحسبان: مصدر بمعنى الحساب.
(بالقِسْطِ): بالعدل.
(تُخسِرُوا): تنقصوا.
(الأكْمَامِ): جمع: كم، وعاء الثمر، وهو الطلع.
(العَصْفِ): قشر الحب، أو ورق الزرع.
(وَالرَّيْحَانُ): النّبات الطيِّب الرائحة.
خَلْقُ الرحمنِ الإنسان وتعليمه البيان:
(الرَّحْمَن) هذه الصفة التي تنطلق لتثير معنى الرحمة في وعي الإنسان المؤمن، بصيغة المبالغة التي توحي بالامتداد الذي يشمل الكون كله من خلال النعم التي يفيضها الله عليه من مواقع رحمته، وقد أراد الله للإنسان أن يستحضره بهذه الصفة دائماً ليبقى منفتحاً عليه بالصورة التي يجده فيها في كلّ مفردات حياته، وليتطلّع في ما يستقبل منها.
(عَلَّمَ الْقُرْآنَ) الذي يفتح للإنسان آفاق السمو والمعرفة والإيمان، ويحرك حياته في خط السعادة الدنيوية والأخروية التي تهديه إلى اللقاء بالله في كلّ أوضاعه وعلاقاته وحركاته، ليكون الله القوّة التي تربطه بالحياة كلها، ولتكون الحياة ساحة مفتوحة، تتكامل كلّ مواقعها في طاعة الله، وفي تجسيد معنى العبودية في ذات الإنسان، التي تمثل سرّ حريته.
(خَلَقَ الإنْسَانَ) فمنه انطلق وجوده، وبإرادته تحركت حياته، فهو مفتقر إلى الله في كلّ شيء، متطلع إليه أبداً في مواقع لطفه ورحمته، (عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) فأودع فيه سرّ النطق الذي يعبر به عما في عقله وقلبه وشعوره، مما يفكر فيه ويحس به، كما يستخدمه في تدبير شؤونه الخاصة والعامة وتلبية حاجاته، ويحقق من خلاله التواصل مع أفراد مجتمعه في كلّ ما يحتاج فيه إليهم من قضاياه الخاصة، أو في حاجته إلى التكامل معهم لما يريد إنجازه من قضايا عامة قد تختلف فيها المواقف، وتضطرب فيها الآراء، فيكون البيان، الذي يركز قاعدة الفكرة ويوضح حركة المشكلة ويدير عملية الحوار، هو الذي يحقق ذلك..
وهكذا يشعر الإنسان بالرحمة الإلهية في ذلك كله، لأنّ الله أعطاه وجوداً منفتحاً على حركة الواقع، وعلى انطلاقة الهدى في عقله وروحه وموقفه، مما يجعل كلّ تجربةٍ بيانيةٍ داخليٍة في حالة الاستعداد له، أو خارجية في حالة الفعلية، مصدر إحساس بالرحمة الإلهية في كلّ لحظات الفكر والتواصل البياني مع الآخرين، وهذا واقع الإنسان في وجوده الذاتي والحركي.
الشمس والقمر من مظاهر الرحمة في الكون:
ثمّ تنتقل السورة لتتحدث عن مظاهر الرحمة في الكون التي تتصل بالإنسان (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) فقد خلقهما الله ضمن قوانين ثابتة محسوبة حساباً دقيقاً يلحظ كلّ حركةٍ، وكلّ موقع، وكلّ حجم، وهما في الوقت نفسه يتصلان بعمق حياة الإنسان وكلّ المخلوقات الحية على الأرض، مما يجعلها تتكامل معهما في النظام الكوني الدقيق الذي أبدعه بقدرته وحكمته، وقد نحتاج إلى بعض الإطلالة على ذلك – في ما ذكره صاحب ظلال القرآن – في تفسير هذه الآية.
يقول: "إنّ الشمس تبعد عن الأرض بإثنين وتسعين ونصف مليون من الأميال، ولو كانت أقرب إلينا من هذا لاحترقت الأرض أو انصهرت أو استحالت بخاراً يتصاعد في الفضاء، ولو كانت أبعد منا، لأصاب التجمّد والموت ما على الأرض من حياة، والذي يصل إلينا من حرارة الشمس لا يتجاوز جزءاً من مليوني جزء من حرارتها.. وهذا القدر الضئيل هو الذي يلائم حياتنا، ولو كانت الشعرى بضخامتها وإشعاعها هي التي في مكان الشمس منا، لتبخرت الكرة الأرضية وذهبت بدداً.
وكذلك القمر في حجمه وبعده عن الأرض، فلو كان أكبر من هذا، فكان المد الذي يحدثه في بحار الأرض كافياً لغمرها بطوفان يعمّ كلّ ما عليها، وكذلك لو كان أقرب مما وضعه الله بحسابه الذي لا يخطىء مقدار شعرة.
وجاذبية الشمس وجاذبية القمر للأرض، لهما حسابهما في وزن وضعها وضبط خطاها في هذا الفضاء الشاسع الرّهيب، الذي تجري فيه مجموعتنا الشمسية كلها بسرعة عشرين ألف ميل في الساعة في اتجاه واحد نحو برج الجبار، ومع هذا، لا تلتقي بأيّ نجمٍ في طريقها على ملايين السنين.
وفي هذا الفضاء الشاسع الرهيب، لا يختل مدار نجم بمقدار شعرة، ولا يختل حساب التوازن والتناسق في حجم ولا حركة".
(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) قيل: إنّ المراد بالنجم النبات الذي لا ساق له كالبقل لأنّ الله وضع الشجر في مقابله، ليكون الحديث عما لا ساق له وما له ساق من النبات، تماماً كما وضع القمر في مقابل الشمس، وقد أبقاه البعض على ظاهره وهو الكوكب الذي في السماء، والمقصود بالسجود هو الخضوع المطلق لله في ساحة العبودية، باعتبار أنهما يتحركان في نطاق القوانين التي أودعها الله فيهما وفي الأرض التي تحضنهما، وهما بذلك ينفعلان تكوينياً بذلك، انفعالاً يشبه الخضوع الإرادي للمخلوق الحيّ في سجوده لله، باعتبار أنّ السجود هو حركةٌ شكلية تعبر عن الخضوع لله في العمق.
السماء رفعها ووضع الميزان:
(وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا) في هذه الأكوان الهائلة، التي تتمثل لمن هم في الأرض، كما لو كانت سقفاً مرفوعاً مرصَّعاً بالمزينات الكواكبية، ليحدّقوا فيها ويتأمَّلوا كيف تتماسك في ذاتها، وبالأجرام التي تصل إلى ملايين الملايين فيها، فلا يصطدم أي منها بالآخر، بل يدور كلّ واحد منها في فلكه الخاص، في مجموعات متعدّدةٍ قد يبلغ عدد المجموعة منها ألف مليون نجم، كما يقال، ثمّ ليتطلع الإنسان إلى العوالم الخفية في السماء المفتوحة على كثير من الأسرار الدقيقة التي تنقله بعقله وفكره إلى عالم الغيب، ليجتمع له في تطلّعاته التأمّلية في السماء الكثير الكثير مما يفتح عقله على معرفة الله، ويطلق عنان روحه لتمتد في آفاق عالم الغيب.
(وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) الذي يرسم للحياة وللناس حدود الأشياء وموازينها بطريقة دقيقة لا تنحرف بالتصوّر عن الاستقامة في الفكر والحكم والقيمة، لأنّ الوحي الإلهي وضع قاعدة لتقدير القيم والقضايا والأفكار تضبط ذلك كله وتحدد خطوط السير في كلّ المواقع التي يريد الله للإنسان أن يتحرك فيها. وهكذا يمتد الضبط الإلهي إلى العلاقات الإنسانية أيضاً التي جعل الله لها حدوداً، ووضع العدل ميزاناً لها، بحيث لا تخضع لهوى، ولا يحركها انفعال، بل تلتقي على قاعدة التوازن التي خلق الإنسان على أساسها في لقاء الجوانب المتعددة في شخصيته على أساس التكامل والتداخل. وقد تكون مسألة الوضع للميزان شاملةً للضوابط الكونية التي أدخلها الله سبحانه في تكوين الأشياء، وفي نظام المخلوقات، بحيث راعى فيه التوازن بينها، فلا يطغى جانبٌ على جانب، ولا موجودٌ على موجود، فيمكن للموجودات أن تتحرك في عناصرها وخصائصها في حركة بعضها البعض، ولكنها تقف في حدود وجودها عند أساسٍ معيّنٍ.
(أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) فلابدّ لكم من التزامه في كل أموركم وعلاقاتكم ومعاملاتكم وأحكامكم، سواء في دائرة الحياة الخاصة أو العامة، لأن ذلك هو سبيل تحقيق التوازن في الحياة. والمراد بالطغيان: الانحراف عن الخطّ المستقيم، وتجاوز الحدود المرسومة لحقوق الفرد والجماعة. (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) في معاملاتكم التي تتبادلون فيها الأمور التي تحتاجون إليها في حياتكم المعاشية، مما تُعرف فيه مقادير الأشياء بالوزن وشبهه، ليأخذ كلّ واحدٍ حقّه كاملاً غير منقوصٍ، (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) بأن تنقصوا الناس أشياءهم، ولا تسلّموهم حقوقهم كاملة كما أراد الله، فالحق في المعاملات أساس يريد الله للناس أن يقيموا حياتهم عليه، تماماً كما هو الحق في الأفكار والمواقف، الأمر الذي يجعل العدل طابع الحياة، ويحقق للناس السلام في كلّ المواقع من الناحية الواقعية.
والأرض وضعها للأنام...
(وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ) وأعدّها لهم في قوانينها المتنوعة التي تجمع لهم كلّ ما يحتاجونه لاستمرار حياتهم من طعام وشراب ووسائل راحة في ما يأكلونه أو يشربونه أو يلبسونه أو يرتاحون فيه وينعمون به، وفي ما يتحركون به من أوضاعٍ تقرّبهم إلى الله وتدخلهم في ساحة رحمته ورضوانه.
(فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ). هذه هي بعض نِعَم الله التي أنعم بها على عباده ليبلغوا ما يريد لهم بلوغه في الدنيا، وهي دليل على التدبير الإلهي للكون في كلّ أوضاعه في ما توحي به من الحق الذي يبدأ منه وينتهي إليه، ليرتبط الناس به من خلال ذلك، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) يا معشر الجنّ والإنس، في ما يفرضنفسه عليكم من نداء الحقيقة، ونداء الإيمان.►
المصدر: كتاب من وحي القرآن ج/21
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق