• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

من صفات القائد والمسؤول

أسرة البلاغ

من صفات القائد والمسؤول

المسؤولية أمانة، ولا يحملها إلّا الأقوياء والمؤهّلون لحملها بمواصفات قيادية خاصّة، الذين يستطيعون أداءها بكامل مستلزمات الأداء.. والقادرون على تحدِّي ما يواجههم من عقبات ومشاكل وأزمات ومخاطر، وضغوط نفسية ومادِّية واجتماعية..

إنّ مَن يتصدّى لتحمّل المسؤولية، أيّ مسؤولية كانت، سواء في مجال السياسة والقيادة والإدارة، أو في مجال الفكر والعقيدة، أو التربية والأسرة... إلخ، عليه أن يعرف واجبه، وأن يكون مؤهّلاً لأداء الاستحقاق القيادي، وأن يكون مستعدّاً لمواجهة المشاكل والأزمات، وتحدِّي الضغوط والحرب النفسية.. وقادراً على التفكير والتخطيط وإدارة المواقف والأزمات..

إنّ القادة السياسيين والعقيديين، وقادة الجيوش وحماة الأمن يواجهون المواقف الصّعبة والتحدِّيات التي قد تُكلِّف القائد، ومَن يتحمّل المسؤولية حياته أو تبعات سياسية واجتماعية ودعائية مضادّة قد تنهي دوره السياسي والقيادي..

إنّ القائد المُتصدِّي لتحمّل المسؤولية يجب أن يفهم: إنّ الحياة مسؤولية.. والمسؤولية في مستواها القيادي ومستوى التصدِّي: هي قرار.. وعليه أن يصنع القرار، لاسيّما في المواقف الصعبة.. والقرار إرادة، فمَن يضعف ويصيبه الوهن القيادي أو يتخلّف عن صنع القرار الحازم والمناسب في الوقت المناسب، فهو فاقد لأهمّ خصائص وشرائط القيادي النّاجح.

إنّ القرآن يُخاطب النبيّ يحيى (ع) بخطاب القوّة والصّلابة والإرادة لحمل الدّعوة، وتبليغ الرِّسالة والصّبر على الأذى..

يُخاطبه بقوله:

(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (مريم/ 12).

واستجاب يحيى (ع) للخطاب، وكان مؤهلاً، فحمل الكتاب والرِّسالة بقوّة، وقاومَ مؤامرات اليهود وحربهم ضدّه، وبلّغ الرِّسالة وقاوم الفساد والانحراف حتى استشهد..

إنّ القرآن يُثبِّت لنا هذا المبدأ.. مبدأ القوّة في حمل الرِّسالة إنما يريد أن يُنشئ ويُكوِّن الجيل القيادي القوي، ذلك لأنّ الحياة صراع.. ولا يصمد فيها الضعفاء..

وفي مورد آخر نقرأ في ثقافة القرآن الاهتمام بالقوّة والأمانة والنّزاهة.. فالأمانة شرط من شروط حمل المسؤولية والقيادة إلى جانب شرط القوّة والصلابة.

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) (النساء/ 58).

إنّ القرآن يوحي بهذا النصّ أنّ الحكم أمانة.. ومَن يحمل مسؤولية الحكم يجب أن يكون أميناً على كلِّ ما يتولّاه من مال ودماء وأعراض وكرامات.. إلخ، فلا يستولي على أموال الاُمّة وثرواتها، ولا يستهين بدمائها وكراماتها، وأن يكون عادلاً في سياسته وتعامله..

ونقرأ بياناً يوحي بأنّ مَن يتحمّل المسؤولية يجب أن يكون قويّاً وأميناً.. نقرأ ذلك في قوله تعالى:

(قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ) (القصص/ 26).

فالذي يُستأجر ويُكلّف بأمرٍ يجب أن يكون قويّاً قادراً على حمله، أميناً عليه..

ويعرض لنا القرآن حوار النبيّ يوسف (ع) مع ملك مصر.. حينما طلب منه أن يجعله مسؤولاً عن المال والاقتصاد في تلك البلاد الغنيّة التي حلّ يوسف مشكلتها وأزمتها الاقتصادية، وأنقذها من أزمة القحط والجوع التي حلّت بها..

يُعرِّف يوسف نفسه حين يعرض طلبه بقوله:

(اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف/ 55).

يُثقِّفنا القرآن الكريم ويُثبِّت صفات أخرى بالإضافة إلى القوّة والأمانة صفة العلم والخبرة.. فيوسف النبيّ (ع) إذ يطلب من ملك مصر أن يتحمّل المسؤولية في الدولة.. يُعرِّف نفسه بصدقٍ بأنّه: "حفيظٌ عليمٌ".. وحفظ المسؤولية، والحفاظ على ما بيد المسؤول يحتاج إلى القوّة والأمانة.. ولمّا كان حفظ الأمانة وطبيعة المسؤولية هي مسؤولية المال والاقتصاد (خزائن الأرض)، فإنّها تحتاج إلى العلم والمعرفة.. كما تحتاج إلى الأمانة والقوّة في حفظها، لذلك قال: (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)..

وفي موقع آخر يُخاطب القرآن الرسول محمّداً (ص) بقول: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) (المائدة/ 48).

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (المائدة/ 49).

يدعو القرآن في هذا البيان إلى أن يكون الحكم بما أنزل الله من الحقِّ والعدل والقانون، وأن لا يخضع لأهواء الطّامعينَ ومصالحهم ورغباتهم.

وهكذا يعرض لنا القرآن ثقافة قيادية من خلال التجربة والحياة العملية، ويُشخِّص لنا خصائص وشرائط أساسية يجب توفّرها في القائد والمسؤول، هي:

1-    القوّة والحزم في صنع القرار ومقاومة التحدّيات.

ونقرأ في منظومة القرآن الثقافية التعبئة الروحية والنفسية، وتقوية الإرادة لِمَنْ يضعف أن يستكين، أو تتسرّب إلى قلبه حالات الوهن والهزيمة النفسية، أو يستجيب لحالات الإحباط والحرب النفسية.

نقرأ ما نزل من القرآن الكريم بعد معركة أُحُد التي خسرها المسلمون وتسرّب الضعف والوهن لبعض النفوس، إذ قاسوا المسيرة بمعركة.. والقرآن يريد أن تستمرّ المسيرة ولا تتوقّف عند حالة تنتكس الأُمّة فيها، أو معركة تخسرها.

خاطبهم القرآن بقوله:

(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ...) (آل عمران/ 138-139).

2-    الأمانة والنّزاهة والقدرة على حفظ المسؤولية من الضّياع.

3-    العلم والمعرفة بشؤون المسؤولية والقضايا التي يتصدّى القائد والمسؤول لإدارتها.

4-    التخطيط وتوفير مستلزمات النّجاح للعمل المطلوب.

5-    الاستقامة السلوكية والتقوى ومخافة الله تعالى والالتزام بالقانون.

ومَن لا يملك القوّة والأمانة والنّزاهة والعلم والقدرة على حفظ المسؤولية فلا يحقّ له أن يتصدّى لقيادة الأُمّة وحمل المسؤولية، ولا يحقّ للأُمّة وللأتباع أن ترضى بقائد لا تتوفّر فيه تلك الشروط والمواصفات.

6-    حُسْن التعامل مع الأتباع ومَن يقودهم ويدير شؤونهم.. يتحدّث القرآن عن تعامل القائد مع مَن يقودهم، فيتحدّث عن صفة التّواضع والمحبّة والتواصل والتّشاور بين القائد والأُمّة، ويهاجم القرآن صفة التكبُّر والطّغيان والتسلُّط في القائد على مَن يقودهم ويُدير شؤونهم، فيعرض لنا خلق الرسول (ص) النموذج القدوة.. قال تعالى:

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران/ 159).

بل وينفي عن الرسول (ص) القهر والإكراه بقوله:

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) (ق/ 45).

ويصف الرّسول القائد بقوله:

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4)

(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 128).

إنّ هذا القائد ذو خُلُقٍ عظيم، وهو حريص على مصالح الأُمّة، يؤذيه ما يؤذيكم، يشعر بشعوركم.. وليس علاقته بكم علاقة تسلُّط وإكراه.. بل هي علاقة حبّ ورأفة ورحمة، واهتمام بكم..

وهكذا يُثبِّت القرآن لنا ثقافة قيادية، وينمي روح المسؤولية والوعيّ القياديّ.

ارسال التعليق

Top