• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التقوى والبصيرة

التقوى والبصيرة
     قال تعالى في محكم كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) (الأنفال/ 29).

كثيرة هي الآيات التي تشير إلى علاقة التقوى بالبصيرة، فكلما طهر الإنسان وتجذرت في نفسه ملكة التقوى، كلما ازدادت بصيرته نفاذاً وازداد فكره توقّداً، وقد قال رسول الله (ص): "اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله".

أي أنّ الإيمان يجلو الروح ويزيد من شفافيتها ويحفظها من غبار الحسد والحقد والأنانية والعناد والتعصب، وبهذا يمنح الفرصة للعقل من أجل الاستفادة أكثر فأكثر من أنوار الله ورؤية الحقائق.

وهناك ارتباط وثيق بين القلب الذي هو مركز العواطف والأحاسيس وبين العقل الذي هو مركز الشعور والإدراك. فمن القلب تنطلق العواطف والميول والأحاسيس، وفي العقل يتألق الفكر والمنطق والدليل والاستنباط.

لو أردنا للعقل أن يعمل بحرية فيفكر ويستنتج ويستدل، فينبغي أن نراقب عواطفنا وأحاسينا. فإذا استسلمنا للحقد والحسد فيجب أن نعلم أنّ وقود هذه النار ليس إلّا وجودنا وسلامتنا وأعصابنا وقلوبنا وكلّ جوارحنا، ومن ثمّ تتصاعد سحب الدخان فتملأ سماء أرواحنا وبالتالي يصاب العقل بالعمى ويفقد رؤيته. يقول الإمام عليّ (ع): "أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع" ويقول (ع) أيضاً: "عجب المرء بنفس أحد حساد عقله".

قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمّد/ 24)، كما يزخر القرآن بالآيات التي تتحدث عن أولئك الذين يمتلكون آذاناً ولكن لا يسمعون بها وعيوناً ولكن لا يبصرون بها، وقد عبّر عنهم القرآن بقوله تعالى: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (البقرة/ 18).

وهذا في الحقيقة نوع من الأمراض النفسية والأخلاقية يفقد أثرها الإنسان قدرته على الإدراك، فيمرّ غير مكترث بحوادث الزمن غير آبه بتجارب الحياة وعظاتها. وبالرغم من أنّ الدهر هو أعظم معلم وأكبر مدرسة وأنّ التاريخ الإنساني وما حلّ بالذين مضوا من قبل أفراداً  كانوا أم شعوباً زاخر بالعبر التي تعلّم الإنسان.

إنّ رمز السعادة يكمن في استلهام العبر والدروس من تجارب الماضين، يوصي الإمام علي (ع) ولده الحسن قائلاً: "أحي قلبك بالموعظة وبصّره فجائع الدنيا وحذّره صولة الدهر وفحش تقلّب الليالي والأيّام، وأعرض عليه أخبار الماضين، وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأولين، وسر في ديارهم وآثارهم فانظر فيما فعلوا وعما انتقلوا وأين حلّوا ونزلوا فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة وحلّوا ديار الغربة، وكأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم، فأصلح مثواك ولا تبع آخرتك بدنياك".

قد تحدث تجربة أمام أعين المئات من الناس فهل يستفيد هؤلاء من ذلك؟ كلا بالطبع، ذلك أنّها تتوقف على أمرين. الأوّل: مستوى العقل والعلم والذكاء، والثاني: مستوى الصفاء في النية والطهارة في القلب. قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت/ 69)، كما يتساءل القرآن الكريم مشيراً إلى الفرق في ذلك، قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (الأنعام/ 122).

ولقد قال أئمة الدين والأخلاق: ما لم يكن الإنسان على بصيرة من أمره فإنه لن يعثر على طريق السعادة أبداً، وما لم يتخلص من دخان الحسد والحقد والأنانية والتكبر وسائر الرذائل فإنّ عقله عاجزاً عن هدايته إلى طريق الصواب.

 

المصدر: كتاب سُلوك وأخلاق الإسلام

ارسال التعليق

Top