• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

اهتمام القرآن بالعقل

اهتمام القرآن بالعقل

اهتم القرآن الكريم اهتماماً كبيراً بالعقل، وحثّ الناس على الرجوع إليه في كلّ الأمور التي تطرأ عليهم في معترك الحياة، وخاصة الاعتقادات التي لابدّ فيها من إمعان النظر، وإعمال الفكر، لكي يتوصل المكلف إلى نتيجة مرضية تنفعه في دينه ودنياه وآخرته.

وليس للعقل أن يُصدِر القوانين والأنظمة، بل عليه أن يفهمها ويطبقها بكلّ امتثال وطمأنينة.

فالرسل والرسالات إنما جاءت لكي يفهمها العقلاء، ويطبقوا أوامرها ونواهيها، لهذا لا يُفهم القانون إلّا بالعقل والعقلاء، ولا عقلاء بدون شرع وقانون، قال مولانا الإمام موسى الكاظم (ع) في وصيته لصاحبه هشام بن الحكم: إنّ لله على الناس حجتين: حجّة ظاهرة، وحجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام) وأمّا الباطنة فالعقول.

فبالعقل يُعبد الله سبحانه ويُوحّد، وبالعقل يُعرف الله سبحانه ويُمجّد.

سُئل مولانا الإمام جعفر الصادق (ع) عن العقل؟ فأجاب: العقل ما عبد به الرحمن، واكتسب به الجنان، فقال السائل: فما الذي كان عند معاوية؟ فقال (ع): "تلك النكراء! تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل".

والعقل هو أوّل مَن امتثل لأمر الله تعالى وأطاع، فاعتبره سبحانه من أشرف مخلوقاته وأفضلها، قال مولانا الإمام محمد الباقر (ع): "لمّا خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي! ما خلقتُ خلقاً هو أحب إلي منك، ولا أكملتك إلّا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإيّاك أُعاقب، وإيّاك أُثيب".

إذن مدار الحياة على العقل والعقلاء، وكلّ التكاليف منحصرة بالعقل والعقلاء لهذا يكون الحساب يوم القيامة، ويكون الثواب والعقاب على قدر العقول، وقد أعطى مولانا أمير المؤمنين (ع) علامات للعاقل، بعد أن بيّن أنّ العقل أفضل ما عبد الله تعالى به، فقال: "ما عبد الله بشيء أفضل من العقل، وما تمّ عقل امرئ حتى يكون فيه خصال شتى: الكفر والشر منه مأمونان، والرشد والخير منه مأمولان، وفضل ماله مبذول، وفضل قوله مكفوف، ونصيبه من الدنيا القوت، لا يشبع من العلم دهره، الذلُّ أحبُّ إليه مع الله من العز مع غيره والتواضع أحبُّ إليه مع الشرف، يستكثر قليل المعروف من غيره، ويستقل كثير المعروف من نفسه، ويرى الناس كلّهم خيراً منه، وأنّه شرُّهم في نفسه، وهو تمام الأمر".

أما القرآن الكريم فقد أكرم العقل والعقلاء، وبشّر أصحاب العقول والأفهام، بأنّهم هم المهتدون، وذكر لهم صفات، فقال سبحانه: (.. فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ) (الزّمر/ 17-18).

وقد أشار سبحانه في كثير من آياته القرآنية، إلى عظيم صنعه، وكبر مملكته، وأنّه هو المدبر لهذا الكون الرحيب، والصانع للسماوات والأرض، وما يجري عليها من تعاقب الليل والنهار، وجريان السفن في البحار، وإنزال المياه من السماء لإحياء الأرض، ولولاه لا حياة للأرض ومَن عليها، وغيرها من الفوائد الكونية، المترتبة على حركة الأرض، ودورانها، ووجود القمر وما فيه من فوائد، ووجود الرياح المسخر لحمل المطر من بلد إلى بلد، ومن مكان إلى مكان، كلّ ذلك وغيره ليلفت أنظار أصحاب النظر، وأفهام أصحاب العقول إلى عظيم صنعه، وإحكام قدرته، وحكمته وتدبيره للكون والحياة، لكي يعبدوه ويوحدوه، ولا يشركوا به أحداً، وأنّه هو الإله الخالق المكوّن، لا معبود سواه قال تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة/ 163-164).

وقال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (النحل/ 12).

وقال سبحانه أيضاً: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الجاثية/ 3-5).

ثم أرشد سبحانه أصحاب العقول إلى عظيم صنع الإنسان، وأنّه سبحانه الخالق المكون المبدع، الذي نقله من عالم إلى عالم، ومن حالة إلى حالة حتى أصبح خلقاً آخر (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون/ 14).

فلعلّ هذا الإنسان الضال الظالم لنفسه، يفكر ويعود عن غيّه، ويعترف بربّه ويعبده ولا يشرك به أحداً، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (غافر/ 67).

ثمّ أرشد سبحانه أصحاب العقول إلى عظيم صنع النبات والأشجار، وكلّ المزروعات، وأنّه هو سبحانه الذي يأتي بالماء من مكان إلى مكان ليحي الأرض بعد موتها لأنّه سبحانه خلق الحياة من المياه ولولاها لا حياة.

ولفت نظر أصحاب العقول إلى الفواكه والأثمار، منها ما هو متشابه، ومنها ما هو غير متشابه، ومنها ما يشبه بعضه في الأكل، ومنه ما ليس له شبيه. كلّ ذلك علامات وأدلة للعقلاء على عظمة الخالق المكون سبحانه، لعلّهم يتفكرون، وإلى رشدهم يعودون، قال سبحانه وتعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الروم/ 24).

وقال سبحانه: (وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرّعد/ 4).

حقاً إنّ هذا الإنسان لظلوم جهول، لا يستعمل عقله، ولا يمعن النظر في ما خلق الله سبحانه من الأثمار التي يراها تشرب من ماء واحد، وتتغذى من تربة واحدة، وهواء واحد، ومع هذا يراها تختلف عن بعضها في الطعم، والرائحة، واللون، وغيرها من الصفات الخاصة بكلّ صنف منها.

سبحانك اللّهمّ ما أحلمك على عبادك، وما أرأفك بمخلوقاتك، فإنّك بحقٍ رحمن رحيم، غفور كريم.

وهكذا، فإنّنا نجد القرآن الكريم، يختم الكثير من آياته المباركة بكلمة: (لعلّهم يعقلون) أو (لقوم يعقلون)، ليحرك العقل عند العقلاء، ويحثهم على استعماله فيما وضع له، وهو اكتشاف الحكمة من وجود كلّ شيء، والغاية التي خُلق من أجلها كلّ شيء.

لهذا نراه سبحانه مدح في كتابه المجيد أُولي الألباب، أصحاب العقول الواعية والأفكار الفاهمة، بأحسن المدح والثناء، فقال تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ) (البقرة/ 269).

وقال تعالى: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ) (آل عمران/ 7).

وقال سبحانه: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) الرّعد/ 19).

وقال سبحانه: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) (الزّمر/ 9).

وقال سبحانه وتعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ) (ص/ 29).

وقال تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (الذاريات/ 55).

ثمّ ذمّ سبحانه الذين لا يتدبرون آياته، ولا يمعنون النظر في كتابه الذي (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصّلت/ 42).

والذين لا يستعملون عقولهم، ليتعرفوا من خلالها على خالقهم ورازقهم، ومن له النشأة الأولى والآخرة، وهو الأوّل والآخر، قال سبحانه: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء/ 82).

وقال عزّ مَن قائل: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمّد/ 24).

لقد اهتم القرآن بالعلم واستعمال العقل، وأمر بالتفكر والتدبر، وشدّد النكير على الذين قلدوا آباءهم، وخاصة الذين يعلمون أنّهم مخطئون، ولم يصغوا لصوت العقل والضمير، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) (البقرة/ 170).

إذن القرآن الكريم هو وحي من عند الله سبحانه، نزل به الأمين جبرائيل على قلب نبينا محمّد (ص) ليكون للعالمين بشيراً ونذيراً، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الرشد.

والقرآن الكريم هو كتاب هداية وإرشاد، وبشرى للمتمسكين به (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (الإسراء/ 9).

(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم/ 1).

وهو يأخذ بيد أبنائه إلى أسمى المراتب وأعلى الدرجات. لقد خاطب أصحاب العقول، وناجى ذوي الضمائر الحية، علّه يرفعهم، إن تمسّكوا به إلى مصاف الملائكة، فيجعل منهم خليفته في الأرض حقيقة، قال سبحانه: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/ 30).

 

المصدر: كتاب القرآن يتجلى في عصر العلم

ارسال التعليق

Top