• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الخوف من الإفتقار

أسرة البلاغ

الخوف من الإفتقار

◄«كاد الفقر أن يكون كفراً» مقولة تنسب للرسول الكريم (ص) وهي وغيرها الكثير من الروايات الواردة في ذمّ الفقر تدعو الإنسان إلى أن يكد ويعمل ويقتصد ويُدبِّر أُموره، لتزيد موارده وتقل نفقاته، حتى يتجاوز مرحلة الفقر والحاجة، ليغنيه الله، ويكون بذلك عوناً لنفسه ولمجتمعه.

قال تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) (المُلك/ 15). وفي الأثر: أنّ النبي (ص) اجتاز ومعه أصحابه برجل، فرأى الصحابة من جدّه ونشاطه ما أعجبهم، فالتفتوا إلى النبي (ص)، فقالوا له: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله. فأجابهم (ص): «إن كان خرج يسعى على ولده فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه فهو في سبيل الله».

وورد عنه (ص) أنّه قال: «ملعون ملعون مَن ألقى كلّه على الناس»، ولذا فقد اعتبر العلماء العمل واجباً عينياً على الإنسان لإعالة نفسه ومَن وجبت عليه نفقته، كزوجته وولده ووالديه، إن لم يجدا نفقتهما.

هذا أمر، ولكن الخوف والقلق من الفقر والحرص والشره على المال أمر آخر. والخوف إذا كان بالحد الطبيعي الذي يدفع الإنسان إلى ترك الكسل والإقدام على العمل والإقتصاد في الصرف والإبتعاد عن الإسراف.. إذا كان الخوف بهذا المقدار، فهو أمر طبيعي، بل مطلوب. ولكن إذا تجاوز الخوف بالإنسان إلى الحد الذي يربك حياة الإنسان ويورثه الإضطراب ويدعوه إلى الجزع والهلع والحرص على الدنيا، ليطلب المال من أي وجه كان، حلالاً أو حراماً، وأن يبخل به على نفسه وعلى أهله، ولا ينفق منه شيئاً في سبيل الله وإعانة الآخرين.. إذا كان الخوف كذلك، فهو يتحوّل إلى حالة مرضية نفسية وروحية وربّما أيضاً أورثته الأمراض الجسدية التي غالباً ما تكون نتاجاً للحالة النفسية.

إنّ الغنى الحقيقي هو غنى النفس، وهكذا اغتنى كثير من الفقراء.. والفقر الحقيقي هو فقر النفس، وهكذا افتقر كثير من الأغنياء.. ولذا قيل: «مَن عَدِمَ القناعة لم يفده المال غِنى».

وهذا الشخص يحس دائماً بالحاجة، بل بالخوف والقلق، لذا تراه يصرف عمره في اكتساب المزيد من المال، دون الإلتفات حتى إلى نفسه وسلامتها وراحتها، وصفوها وصفائها، بل لعله ونتيجة لضعف إيمانه أو عدمه إلى أن يتصور بأنّ المال يعطيه بقاءً وخلوداً، كما وصف ذلك القرآن: (يحسب أنّ ماله أخلده) (الهُمزة/ 3)، دون أن يتذكّر بأنّ الموت لا يفرِّق بين غني وفقير، وأنّه كلّما ازداد مالاً، ازداد وقوفاً بين يدي الله تعالى ليسأل عنه: من أين اكتسبه وفِيمَ أنفقه؟

إذن كيف يمكن للإنسان أن يعيش حالة الأمن والإطمئنان في حياته الإقتصادية ويبتعد عن الخوف والإضطراب؟

لابدّ من أن يتذكّر الإنسان أنّ الرزق بيد الله تعالى: (إنّ الله هو الرزّاق ذو القوة المتين) (الذاريات/ 58).

فهو الذي يوزع الأرزاق، ويقدر لكل نفس قوتها، سواء مَن زاد في رزقه أو قدر ماله، ليختبر الناس في فقرهم وغناهم، ولتُجزى كلّ نفس بما عملت.

على الإنسان أن يسعى سعيه ويجدّ جدّه طالباً للرزق الحلال، مُدبِّراً لأمره من غير إسراف ولا تبذير، ويترك الباقي لربّه، فإنّ رزقه آتيه لا محالة لأنّ (الله يبسط الرزق لمن من عباده ويقدر له إنّ الله بكل شيء عليم) (العنكبوت/ 62)، فما كتب للإنسان آتيه وما لم يكتب له لا يصله ولو بشق الأنفس: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) (الذاريات/ 22).

فإذا ما رزقه الله تعالى: أدّى ما عليه من شكر الله عزّوجلّ، وأكل من طيِّبات رزقه، وحدّث – أظهر – بنعمته، وأنفق من مال الله الذي أتاه في سبيله، وأحسن إلى الناس كما أحسن الله إليه، ولم يطغى فيه ولم يستكبر، واقتصد فلم يسرف ولم يكن من المبذرين، لأنّ المسرفين إخوان الشياطين.

أمّا إذا قدر الله عليه رزقه، فإنّه استمرّ في طلب الرزق، ومتزيناً بزينة العفاف، ومستعيناً بالله تعالى: (وارزقنا وأنت خير الرازقين) (المائدة/ 114)، ومستذكراً أن ما يمرّ به ابتلاء، وأن مَن صبر ظفر، وأن ما يعوضه الله تعالى على ما يمر يفوق كل نعم الدنيا، وهو يعلم أنّ سنّة الله هي التغير و(إنّ مع العُسر يُسراً) (الإنشراح/ 6)، فلا يدوم فقر ولا فاقة، مع السعي للعمل والقصد وحُسن التدبير.

وهكذا يستحضر الإنسان دوماً أنّ الله تعالى هو (الرزّاق)، وأنّه هو ربّ العالمين، فهو راعيه وهو مولاه، وهو نعم المولى ونعم الوكيل، وأنّ ما كتب الله سيحصل عليه، بلا حاجة لفزع ولا هلع، بل يعمل بجد وعينه على الله تعالى، بكل ثقة واطمئنان إليه.

قال تعالى: (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم) (البقرة/ 268).►

ارسال التعليق

Top