كان سعيد يسكن في إحدى البنايات الجديدة التي بنيت لتناسب ميزانية محدودي الدخل وإشترى هو وجيرانه شققهم بعد أن وضعوا فيها كلّ ما يملكون وإقترضوا من البنوك حتى أعناقهم ولأنّ البناية مملوكة بالكامل لأصحاب الشقق فلم يكن هناك ما يعرف بصاحب الملك أو مالك البناية كي يتولى أمورها وعليه فقد قرر السكان الخوض في أول تجربة ديموقراطية لهم وإنتخاب مجلس البناية الذي سينتخب بدوره رئيساً للبناية. بعد إجتماعات ومداولات ونقاشات حامية لم تخلو من بعض الاتهامات بين المرشحين فاز أحد السكان وإسمه أبو أحمد برئاسة مجلس البناية وأصبح رسمياً السيد رئيس البناية، استبشر السكان خيراً لما يعرفونه عن أبو أحمد من النزاهة والطيبة ودمث الأخلاق وتولاهم شعور رائع بأن يكون رئيسهم منتخب ديموقراطياً حتى لو كان رئيس بناية لا غير.
مضت عدة أيام وجاء سعيد كي يصف سيارته في موقف البناية فإذا برجل ضخم يمنعه ويقول:
- ممنوع إيقاف السيارات هنا يمكنك الوقوف في الخلف.
- ولماذا المنع؟
- لأنّ الموقف الأمامي مخصص لسيارت السيد رئيس البناية وأفراد عائلته.
تعجب سعيد من هذا الكلام الغير منطقي وقال للرجل:
- ومن تكون حضرتك؟
- أنا رئيس البوابين في البناية.
- رئيس البوابين؟ لماذا هل فتح البنك المركزي فرعاً في بنايتنا؟ وأين العم أبو شاكر البواب؟
- تمت إحالته على التقاعد لأنه غير قادر على التعامل مع التهديدات الأمنية في البناية.
- وما هي هذه التهديدات تحديداً؟
- ليس من شأنك أن تعرف هذه مصالح البناية العليا والسيد رئيس البناية أدرى بها.
دخل سعيد البناية وهم بركوب المصعد عندما منعه رجل ضخم آخر وقال له:
- هذا المصعد مخصص للسيد رئيس البناية وأفراد عائلته يمكنك استعمال السلالم وهي على فكرة رياضة صحية.!!
- ما هذا الجنون أنا أدفع رسوم صيانة هذا المصعد ولا يحق لي استخدامه؟
- يبدو لي أنك توجه إتهامات خطيرة للسيد رئيس البناية وأحسن لك احترس من كلامك قبل أن تقع في المشاكل !
- سأذهب لأقابل رئيس البناية وأرى ما الذي يفعله بنا.
- هو مشغول جداً ولن يقابلك ولكن يمكن أن تطلب موعداً من ابنه؟
- وما دخل ابنه بالموضوع؟
- هو فعلياً من يدير البناية في غياب والده وهو من سيكون رئيس البناية بعد والده.
صعد سعيد إلى شقته عبر السلالم غير مصّدق لما يحدث وما يفعله أبو أحمد الذي حسبه الجميع سيكون عوناً فإذا به فرعون، إتصل سعيد بعدد من السكان وإتفقوا على أن يجتمعوا في شقة سعيد لمناقشة أوضاع البناية والعثور على حل لإيقاف أبو أحمد عند حده، ما إن بدأ الاجتماع حتى رنّ جرس الباب وعندما فتحه سعيد فوجيء بأبو أحمد وابنه والحراس الأمنيين يقتحمون الشقة.
صرخ سعيد:
- ما هذا؟ لم تدخلون شقتي دون إذن؟
أجابه أبو أحمد:
- لأنّ لدينا معلومات استخبارية أنكم تدخنون الحشيشة هنا.
- أنت مجنون يا أبو أحمد؟ أنا لا أدخن حتى سيجارة هل ترى هنا أي حشيشة.
أخرج أبو أحمد كيس من الحشيشة ورماه على الأرض وقال:
- ها هي الحشيشة ولو فكرتم مرة ثانية بعمل اجتماعات من هذا النوع فستذهبون جميعاً إلى السجن بتهمة تعاطي المخدرات والإتجار بها.
خرج رئيس البناية وحرسه وسط ذهول الجميع الذين فرّ كلّ واحد منهم إلى شقته خوفاً من المشاكل حتى أنّ أحدهم قال لسعيد وهو يخرج:
- حبيبي سعيد أنا أحترمك وأقدرك ولكن لدّي عائلة أربيها ولا أستطيع تحمل بهدلة السجن فمن الآن وصاعداً سأقطع علاقتي بك تفادياً للمشاكل.
جلس سعيد يفكر بما آلت إليه أوضاع البناية ولم يجد بداً من الصبر مثله مثل باقي السكان.
في اليوم التالي وجد سعيد ورقة على باب البناية مكتوب فيها أنّ السكان لا يحقّ لهم زيارة البناية المجاورة كما يمنع سكان تلك البناية من دخول بناياتهم إلا بتصاريح خاصة.
تعجب سعيد وسأل أحد السيكيورتي ( البوابين).
- وما هو سبب هذا القرار؟
- لأنّ رئيس البناية المجاورة زوّج ابنته لابن رئيس البناية التي تبعد عن بنايتنا 3 شوارع.
- طيب وما العيب في ذلك؟
- لأنّ هذه خيانة للحي اللذي نسكن فيه وشق لوحدة الصف بين البنايات ولا يجوز أن يزوج ابنته للغريب خصوصاً وأنّ رئيس بنايتنا طلب يدها لابنه.
-على فرض ذلك ما دخل السكان بهذا الموضوع؟ لا يمكن للناس أن يقاطعوا بعضهم هناك أهل وأصدقاء وأقارب في البنايتين .
- على السكان مساندة رئيس البناية في هذا الصراع الحيوي والمصيري الذي يهدد البناية والحي السكني كوجود وهوية!!!ومن لاينفذ هذا القرار يكون خائناً وسيحرم من كافة الخدمات وأولها الماء والكهرباء ومواقف السيارات !!
في الليل استيقظ سعيد على صوت صراخ أطفال ونساء ودخان كثيف ارتدى ثيابه على عجل ونزل إلى تحت فرأى البناية المجاورة تحترق وسكانها يحاولون الهرب إلى بنايتهم ولكن البوابين يمنعونهم.صرخ سعيد بهم:
- دعوهم يدخلون ماذا تريدون منهم؟
- ممنوع.
- ولماذا؟
- أوامر رئيس البناية لا نريد أن تدخل بنايتنا في مشاكل البنايات الأخرى.
- ولكنهم يحترقون.
- أرى ذلك ولكن لا نستطيع فعل شيء يجب أن توافق البلدية أولاً على نقل سكان بناية أخرى إلى بنايتنا قبل أن نسمح لهم بالدخول.
- طيب أعطوهم ماء كي يخمدوا الحريق.
- ممنوع رئيس البناية قال أنّ هذه المياه مخصصة للشرب في داخل البناية ولا يجوز استعمالها لإطفاء الحرائق في بناية مجاورة دون التنسيق مع الجهات المختصة.لانريد أن نتجاوز الشرعية !!
تفرج سعيد وبقية السكان على البناية المجاورة وهي تحترق إلى أن أتت النيران عليها دون أن يتمكنوا من مد يد المساعدة إلى أهلها.
في اليوم التالي جمع سعيد وأهله أغراضهم وانتقلوا إلى بناية أخرى بعيدة عن بنايتهم وإلى شقة أصغر، سأل أحد الجيران سعيد عن سبب انتقاله أجابهم:
- بناية لا يستطيع الواحد أن يقول فيها شيئاً ولا أن يمد يد العون لجيرانه لا يستطيع الإنسان السكن فيها والأفضل أن يبحث عن بناية غيرها حتى يفرجها الله على بنايته ويعود إليها.
بقلم الدكتور محسن الصفار
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق