• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصوم وضبط النفس

الصوم وضبط النفس

   قال الله – تعالى – في سورة البقرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).. الصوم متى أداه المسلم مستوفياً شرائطه كان وسيلة إلى تقوى الله – سبحانه – كما قال في هذه الآية: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فهو في واقعه مدرسة تهذب النفس وتزكِّي القلب، وتصفي الوجدان، وتصقل الطبع، وتحد من غريزة الأثرة وحب الذات. والصوم يرتفع بالمسلم عن كثير من الصفات غير الحميدة؛ فهو يمنع المؤمن من الاندفاع إلى الشرور ولغو الحديث. وهو العبادة التي لا يدخلها الرياء. قال الله عزّ وجلّ: "كلّ عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنّه لي وأنا أجزي به". ذلك لأنّ الصوم سر بين الصائم وربه يثابر عليه طاعة لله – سبحانه – ويصبر ويتحمل الآلام.. ويترقب الآمال ويراقب الله في السر كالعلن، فهو يدع طعامه وشرابه من أجل الله، ومن ثمّ تعهد الله بجزائه جزاء الكريم الذي يثيب بالفيض والفضل العظيم. والصيام جنة كما جاء في الحديث الشريف فإذا كان يوم الصوم فلا يرفث الصائم، أي لا يفحش في القول ولا يرفع صوته به ولا يسفه قول غيره، فإنّ شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم. مرتين. إنّ الصوم بهذا وسيلة لضبط النفس وحملها على الالتزام بالأخلاق الفاضلة، كما يتعود به الصائم الجلد في المشاق وتقوى به إرادته. الصوم يعدل السلوك والعادات، ويصح به البدن وتسمو الروح، وصدق رسول الله (ص) حين قال: "عليك بالصوم فإنّه لا عدل له أو لا مثل له". الصوم إمساك عن كلّ محرم وكلّ تهور وكلّ مفطر. الصوم يقود الصائم إلى التواضع والرأفة والرحمة بل وسائر الخلق، ها هو الصائم يذكر الحديث الشريف عن رسول الله (ص) قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".

    يذكر هذا فيمسك لسانه عن قول الزور والكذب والغيبة والنميمة؛ لأنّ الصوم ليس فقط مجرد ترك الطعام والشراب، وإنما مع هذا الصوم عن كلّ الخطايا والدنايا. إنّ الصوم له آثاره النافعة على الجسد وفي الأثر: "صوموا تصحوا". فضبط النفس في الطعام والشراب وكفها عن الإسراف والإتلاف لأثر عظيم من آثار الصوم... الصوم يربي النفس على دوام مراقبة الله في كلّ حال، ويُعَوِّد صاحبه على الإخلاص في أداء الاعمال ويعلم الأمانة ويزرعها في نفوس الصائمين، وفي الحديث: "إنّ الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته" أليس في إنتصار الصائم على عوامل الهوى ووساوس الشيطان وفتن الحياة أعظم المزايا وأبرز الإنتصارات؟ الصيام زكاة للنفس ورياضة للجسم.. وداعٍ للبر، فهو للإنسان وقاية، وللجماعة صيانة. وفي جوع الجسد صفاء القلب، وإفادة القريحة وإنفاذ البصيرة. الصوم يهذب النفس الرعناء، وينمي العواطف.. يقوي المشاعر الحسنة.. ويزكي الإنسانية في الإنسان، فتسود المودة والمحبة والرفق والإحسان.    كلّ هذه المآثر التي تتجلى على الصائم نعمة من الله وفضل، وصدق الله حين قال في ختام آية الصيام: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). ثمّ إن إعداد الصيام نفوس الصائمين وتوجيهها إلى الله وتقواه يظهر من وجوه أعظمها: أنّه موكول إلى ذات الصائم، فالصوم سر بين المسلم الصائم وبين ربه لا يطلع عليه إلا الله سبحانه فلولا إخلاص الصائم ومراقبته لله، ومعرفته اطلاع ربه عليه لما كان له إصطبار عن تناول ما صام عنه، وفي تكرار الصوم تنمية وتقوية لملكة المراقبة لله، والحياء منه أن يراه حيث نهاه، وهذه الملكة هي التي إستبدلنا بها ما شاع على الألسنة في عصرنا وسميناه (الضمير).. هذه المراقبة لله وخشيته وحده متى استقرت عليها الأنفس الصائمة لله ترقباً لسعادة الآخرة تؤهل أيضاً لسعادة الدنيا؛ فمن راقب الله وصام إيماناً واحتساباً عمر قلبه بخشية ربه. فلم يقدم على غش الناس وخداعهم، ولم يأكل الأموال بالباطل، ولم يحتل على الله لمنع الزكاة أو لأكل الربا، وأموال اليتامى، ولم يقترب المنكرات سرّاً وعلانية، وبالجملة كان من الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.. إنّ صاحب هذه المراقبة لا يسترسل في المعاصي، ولا تطول غفلته عن الله وطاعته، وإذا نسي استهواه الشيطان فاقترف السيئات كان سريع التذكر والرجوع بالتوبة إلى ربه: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف/ 201). والصوم يجعل الصائم رءوفاً رحيماً بالفقراء.. سخيّاً بالصدقات.. مؤديّاً للزكوات.. إذ عندما يجوع يتذكر من لا يجد القوت.. هذا موسم للطاعة. فأقبلوا إلى الله واتقوه يصلح لكم أعمالكم.. ويغفر لكم ذنوبكم.. اعقدوا في رمضان ندوات للقرآن والسنة، ويكفي أنّ الله قال في الحديث القدسي: (الصوم لي وأنا أجزي به).

    

    المصدر: كتاب منهج الإسلام في التربية والإصلاح

ارسال التعليق

Top