• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

تلاوة القرآن وتدبّر معانيه

عمار كاظم

تلاوة القرآن وتدبّر معانيه

القرآن الكريم في شهر رمضان هو خير جليس وأطيب أنيس للإنسان في كلّ زمان، وخير ما يتقرّب به الصائم إلى ربّه في رمضان؛ ولهذا يقبل المسلمون على قراءة القرآن في رمضان إقبالاً لم يعرف عنهم في بقية الشهور. فهناك علاقة حميمة بين القرآن وهذا الشهر بالذات ولو نطق رمضان لاعترف بفضل القرآن الكريم عليه. نقرأ في قوله تعالى: (شَهرُ رَمَضانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ هُدىً لِلنّاسِ وبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرقان) (البقرة/ 185)، ففي الآية إشارة واضحة إلى أنّ رمضان نال حظّه من التكريم الإلهي لكونه ظرفاً لأجل الأحداث وأعظمها وميقاتاً مباركاً لنزول القرآن هدىً للناس. وإنّما تكون عظمة الزمن وقيمته بعظمة ما يؤرخ له من جلائل الأعمال؛ ولهذا فضَّل الله رمضان وكرَّمه فجعله ميقاتاً لفريضة الصيام، كما كان ميقاتاً لوحي الله الأعظم إلى رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا ما يفهم من أمر الله جلّ في علاه (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهرَ فَليَصُمهُ) (البقرة/ 186)، فجاء الأمر بصيام الشهر مرتباً على قوله سبحانه: (شَهرُ رَمَضانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ القُرآنُ) أي مَن شهد منكم رمضان فليصمه لأنّه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، فنحن نصوم الزمن الذي فضَّله الله على سائر الشهور من أجل القرآن الكريم، وتنحني أصلابنا في رمضان بالذات على كتاب الله تقرُّباً إلى الله، واعترافاً بعظمة هذا الكتاب في حياة أُمّة لولاه لضلّت وأعرضت عن ربّها وتخلّت. وفي رمضان نحمل مصاحفنا في غدونا ورواحنا لتطمئن قلوبنا بذكر الله في عالم ترتعش فيه القلوب المسكونة بالهواجس والوساوس (ألا بِذِكرِ اللهِ تَطمَئِنُّ القُلُوبُ) (الرَّعد/ 28). من فضل الله علينا أنّه يَسَّر القرآن للمؤمنين والمؤمنات قراءة واستماعاً وترتيلاً وحفظاً (ولَقَد يَسَّرنا القُرآنَ لِلذِّكرِ فَهَل مِن مُدَّكِرٍ) (القمر/ 17)، والكتاب الوحيد الذي يتعبّد المسلم بتلاوته هو القرآن الكريم. ففينا مَن يقرؤه في رمضان تعبُّداً ولا يستطيع أن يتدبّر معانيه فله بكل حرف يتلوه حسنات، وفينا مَن يتعبّد بتلاوته ويتدبّر معانيه وتلك رتبة أعلى ومنزلة أرقى لمن هيأ الله له الأسباب. فالأُمّة في حاجة إلى معايشة هذا الكتاب معايشة تأمُّل وتدبُّر وإعتبار، كما يقول الحق سبحانه مخاطباً نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم): (كِتابٌ أنزَلنَاهُ إليكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ولِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الألبابِ) (ص/ 29). والحق جلّ في علاه ينكر على الذين أغلقوا قلوبهم دون كتاب الله فلم يتدبّروه ولم يحاولوا أن يفهموه، فيقول سبحانه: (أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أمْ على قُلُوبٍ أقفالُها) (محمد/ 24). جميل أن نحرص على حفظ القرآن، وأجمل من هذا أن نفهم ونتدبّر وفوق كلّ هذا أن نعمل بمقتضاه. يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في موضوع القرآن في خطبته: (ومَن تلا فيه آية من القرآن كان له أجر مَن ختم القرآن في غيره من الشهور). الضمير لمن؟ لشهر رمضان المبارك، لشهر القرآن، لشهر الله، لشهر الصيام، لشهر الطاعة، لشهر التوجُّه إلى الله، لشهر التوبة، لشهر الإستغفار، لشهر الإنابة، لشهر الرحمة، لشهر البركة، لشهر السعادة. (ومَن تلا فيه آية من القرآن كان له أجر مَن ختم القرآن في غيره من الشهور) لماذا؟ لأنّ الإمدادات الإلهية تكون في هذا الشهر مضاعفة.. فبمقدار ما نستلهم من هذه الإمدادات الإلهية، بقراءتنا لكتاب الله العظيم، نحصل على الأجوبة المطلوبة.. ولهذا تكون قراءة آية في هذا الشهر المبارك مع وجود الإمدادات الإلهية ومع استلهامنا لهذه الإمدادات الإلهية، يكون لنا من الأجر لهذه الآية كختم القرآن في بقية الشهور. فالإمدادات الإلهية في هذا الشهر هي الأكثر، ولابدّ أن يكون التوجُّه منّا هو الأكثر للإستفادة من هذه الإمدادات الإلهية، حتى يكون الجزاء، كما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (ومَن تلا فيه آية من القرآن كان له أجر مَن ختم القرآن في غيره من الشهور). تلا.. تلا.. لم يقل مَن قرأ آية، لم يقل مَن نظرَ إلى آية، لم يقل مَن تلفظ آية، وإنما قال: (مَن تلا..). والتلاوة تعني القراءة بإمعان.. تعني القراءة بتفاعل.. تعني القراءة بتفهُّم.. تعني القراءة بإندماج.. تعني قراءة تفحُّصية.. تعني قراءة يلتفت القارئ إلى ما يريد له (سبحانه وتعالى) من هذه الكلمة ومن هذه الجملة ومن هذه الآية.. تعني الإلتفات إلى أمر الله سبحانه وتعالى.. تعني الإلتفات إلى نهي الله سبحانه وتعالى.. تعني الإلتفات إلى الفكرة التي تعطيها الآية.. تعني الإلتفات إلى الخُلُق الذي تعطيه الآية.. تعني الإلتفات إلى الأدب الذي تعطيه الآية المباركة. هذه التلاوة ولم يقل قراءة، لماذا؟ لأنّ هناك: (مَن يقرأ القرآن وهو يلعنه)، ولهذا لم يقل اقرأ القرآن، وإنما قال: (تلا..). وهو يقصد ما يقول، وهو يلتفت إلى كلّ حرف يقول، فهو كما قال تعالى في سورة النجم الآية 3-4: (وَما يَنطِقُ عَنِ الهَوَى* إنْ هوَ إلا وَحيٌ يُوحَى). وكلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس فيه زيادة ولا نقيصة.. فأدَّبه ربّه، وأحسن تأديبه.. خُلُقه القرآن.. كلامه القرآن. هذا جانب.. الجانب الآخر الذي تعنيه كلمة (التلاوة)، هو: التفاعل الروحي.. ويعني التفاعل الروحي: الخشوع مع القرآن، الخضوع مع القرآن، هو محاولة لأن نُصوِّر القرآن في عقولنا وفي أرواحنا وفي أفئدتنا وفي ضمائرنا وفي أحاسيسنا.. نعيش القرآن بحيث نكون خاشعين له، خاضعين متذللين حتى يحدث في نفوسنا ما لابدّ أن يحدث، حتى يصقل هذه النفس، حتى يربي هذه النفس، حتى يذهب عنها الدرن والسُّوء والمرض والإنحراف والرين، ماذا يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ النفوس لتصدأ فاجلوها بقراءة القرآن». حتى يكون القرآن جلاءً لقلوبنا، ودواءً لقلوبنا، وشفاءً لقلوبنا.. فهنا لابدّ أن تجمع التلاوة بين الجانب الفكري العقائدي النظري، الإيمان بالله، الإيمان بالقيم الإلهية والأوامر الإلهية، والجانب العملي التطبيقي السلوكي الأخلاقي العبادي، هذا أوّلاً. ثانياً: الجانب الروحي الذي عبَّرنا عنه بالخشوع مع القرآن والخضوع مع القرآن، والتذلُّل مع القرآن وتصوير الجنّة وتصوير النار وتصور الجنّة وتصور النار والتفاعل مع التصور والإندماج مع هذا التصور، أليس من صفات المؤمنين عندما يقرأون القرآن: (فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون وهم والنار كمن قدر آها فهم فيها معذبون).

 

ارسال التعليق

Top