• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الجانب الثقافي في فكر الإمام الرضا (ع)

عمار كاظم

الجانب الثقافي في فكر الإمام الرضا (ع)

كانت المرحلة التي عاشها الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام)، الإمام الثّامن من أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، أغنى المراحل في الواقع الإسلاميّ آنذاك، لأنها كانت تمثِّل عصراً مليئاً بالحركة العلميَّة. فالجانب الثقافي فيها كان جانباً موسوعياً يتحرّك في أكثر من حقل من حقول المعرفة الإسلاميَّة، في العقيدة أو الشّريعة أو الأخلاق، أو في الواقع الّذي يعيشه النّاس.

كان الإمام الرضا (عليه السلام) يؤكد على أهمية العقل حيث يقول (عليه السلام): «صديق كلِّ امرىءٍ عقلُه»، لأنَّ العقل هو الذي يحدّد لك الحسنَ والقبيح، وهو الذي يفكّر لك، فيميّز بين ما يضرُّك وما ينفعك، وهو الذي يحدّد لك طريقك إلى الجنّة أو إلى النار، وقد ورد أنَّ العقل «هو ما عُبِد به الرحمن وعُصِي به الشيطان» وعدوّه جهله، لأنَّ هذا الجهل يحجّم عقلك ويمنعك من وضوح الرؤية للأمور، ويسير بك عكس الطريق، ومن الطبيعي أن يكون عدوّاً لك، لأنَّه يؤدي بك إلى الكفر والضلال والفسق والفجور، وإلى الإسراع بالخطى إلى نار جهنّم.

فالإمام (عليه السلام) يريد أن يؤكّد قيمة العقل لدى الإنسان، والعقل هو هذه القوّة المفكِّرة التي تحسب للإنسان حسابات الأشياء بكلِّ دقّة، والتي يحصل عليها الإنسان من خلال ما يتأمله وما يجرّبه. وعندما يعيش الإنسان مع عقله، فإنَّ عليه أن يسأله عن كلِّ خطوةٍ يخطوها، وعن كلِّ كلمة يتكلّمها، وعن كلِّ علاقة ينشئها.. فالعقل هو الصديق الذي لا يحدّث الإنسان عن أرباح الدنيا وخسائرها فحسب، ولكنّه يحدّثه بالإضافة إلى ذلك عن أرباح الآخرة وخسائرها، لأنَّ العقل يريد للإنسان السعادة والخطَّ المستقيم لحياته في الدنيا والآخرة.

ومن هنا، فإنَّ الإمام الرضا (عليه السلام) يوصي الإنسان بألاَّ يترك صديقه الذي هو عقله ويتّبع غريزته والجهل الذي يفرضه عليه الناس، وعندما تختلط عليه الأمور فليسأل عقله، أو عندما تضيع معالم الطريق فليسأل عقله، وليحاول أن يستعين على عقله بالشورى في ما يشاور به الرجال، حتى ينضمّ عقله إلى عقول الآخرين، وقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام): «من شاور الرجال شاركها في عقولها».

ثم إنّ العقل هو الذي يمنح الإنسان علمه بالتأمل في موارد العلم ومصادره، وبالتجربة التي يتابعها العقل في حركة الإنسان في الواقع، ويدفع به إلى السعي والبحث والملاحقة لأسرار الحياة في نظامها الكوني وفي حياة الإنسان والدراسة للتاريخ في قضاياه التي تمنح الإنسان الدرس والعبرة والتخطيط للمستقبل الذي يقبل عليه في صناعة حياته. وهكذا يقف العقل ليقود المسيرة الإنسانية التي ترتفع بالإنسان في مجالات الاكتشاف والإبداع والتنمية لكل الطاقات المادية والمعنوية. وهذا هو الذي يجعله الصديق الأوفى للإنسان عندما يتحرّك معه في كلِّ أموره وقضاياه ويشرف على حاضره ومستقبله.

الإمام الرضا (عليه السلام) يطلب منا أن نتفكّر في عظمة الله من خلال عظمة خلقه في كلِّ أسرار الخلق، وأن نتفكّر في نِعَم الله علينا، فإذا ازداد تفكيرنا في ذلك كلِّه، عندها تكبر معرفة الله في عقولنا، فتخشع عقولنا لذكر الله، وتكبر عظمة الله في قلوبنا، فتخشع أيضاً قلوبنا لذكر الله.. وعلى هذا الأساس، إذا عظم الله في قلب الإنسان وعقله، تكون صلاته صلاة الإنسان الخاشع لربِّه والخاضع بين يديه..

أما الإنسان الذي لا يعرف الله، ولا تتربّى عظمته في نفسه، فإنَّه قد يصلّي، ولكنّه لا يعرف من صلاته أيَّ معنى، لأنَّ عالَم العبادة عالمٌ داخليّ، فعندما يصلّي عقلُ الإنسان وقلبه وأحاسيسه ومشاعره ولسانه وبدنه، فإنَّه ينفتح على كلِّ مسؤولياته أمام الله.

 

ارسال التعليق

Top