يقول الله تعالى في كتابه المجيد: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون)، وقال سبحانه وهو يحدّثنا عن موسى (عليه السلام) في دعائه: (قال ربّ بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين).
لم يهتمّ القرآن الكريم بقيمةٍ أخلاقيّة في جانبيها الإيجابي والسلبي كما اهتم بقيمة العدل، باعتباره أساس الرسالات، لأنَّه هو الذي يحفظ للإنسان إنسانيته، وهو الذي يحمي المجتمع من نفسه في علاقة أفراده بعضهم ببعض، وهو الذي يحقِّق التّوازن له في علاقات الحاكم بالمحكومين، وفي علاقات المحكومين بالحاكم، وفي خطوط العلاقة بين القوانين وتنفيذها. بالعدل تنتشر البركة في الناس، ويقوى المجتمع في كلّ عناصر وجوده وحركته.
وقد حدّثنا الله تعالى في كتابه الكريم عن ذلك في قوله تعالى في سورة الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)، وقيام النَّاس بالقسط هو قيامهم بالعدل. إنَّ معنى هذه الآية أن كلّ الرسالات، منذ عهد آدم (عليه السلام) إلى نبيّنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّ كلّ الكتب، من صحف إبراهيم وموسى وعيسى (عليه السلام) ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكلّ الموازين التي تزن للناس أعمالهم وأقوالهم وعلاقاتهم، إنّما وجدت من أجل هدف واحد، ألا وهو قيام الناس بالقسط.
وعلى ضوء هذا، أكَّد الإسلام العدل في الحياة كلّها، مع النفس ومع الله، مع العدوّ ومع القريب، حتى مع الحيوانات، لأن ذلك هو الذي أراد الله تعالى للحياة أن تقوم عليه.
وفي مقابل العدل، هناك الظلم الذي تختصره كلمة واحدة، وهي أن لا تعطي لكل صاحب حقٍّ حقه؛ أن لا تعطي لنفسك حقّها في ما يحقِّق لها سلامة الحياة وراحتها ونجاتها في مصيرها. أن لا تظلم ربَّك؛ وظلم الله يعني أن لا تعطيه حقَّه في توحيده في العقيدة والطاعة والعبادة، وأن لا تظلم الناس حقوقهم، سواء كان الحقّ مالياً أو غير ذلك، سواء في بيتك مع عيالك، أو في محلّتك مع جيرانك ومع الناس الذين يتعاملون معك وتتعامل معهم، أو في كلّ مواقع الحياة؛ أن لا تكون الظالم، لأن الله لا يحبّ الظالمين، ولأنّه يعاقبهم، فالحساب في يوم القيامة، مقدمته هي حساب المظلومين مع الظالمين، ويقال إنّ كلّ مظلوم يقف يوم القيامة مع ظالمه ويقول: يا عدل يا حكيم، احكم بيني وبين فلان فقد ظلمني حقي، في أي شأن من شؤون الظلم المتنوّع في علاقات الناس بعضهم ببعض. وقد تكون قوياً الآن فتظلم الضعيف في بيتك أو محلتك أو موقعك، قد تنتفخ بعناصر القوة، ولكن ماذا تفعل غداً (يوم يقوم الناس لربّ العالمين)، (يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً)، وشعار يوم القيامة: (اليوم تُجزى كلّ نفس بما كسبت لا ظلم اليوم)، فإذا كنتم أيها الناس تظلمون بعضكم بعضاً في الدنيا لأن هناك قوياً وضعيفاً، ولكن يوم القيامة ليست هناك قوّة إلا قوّة الله، والناس سواسية، فالحقّ أكبر من كلِّ الكبار، تلك هي المسألة التي يريدنا الله تعالى أن نعيشها ونربي أنفسنا عليها.
تنوّع الظلم:
الظلم متنوّع، عندما تغتاب إنساناً وتفضح سرَّه وعيبه فأنت ظالم له، لأنك خدشت كرامته، وهكذا عندما تقوم بالنَّميمة بين شخصٍ وآخر لتزرع الفتنة وتخرَّب العلاقة بينهما، لتفرّق زوجاً عن زوجه، وأخاً عن أخيه، فأنت ظلمتهما وظلمت المجتمع من خلال تأثيرات تلك الفتنة، وأنت ظالمٌ للناس عندما تغشّهم في معاملاتك وتأكل أموالهم بالباطل، وأنت ظالم لهم عندما تسقط كراماتهم وتشهّر بهم بما لم يعملوه ويقولوه لتسقط شأنهم بين الناس. ومن الظلم أيضاً أن تسبّ زوجتك أو أولادك أو أن تسبَّ الزوجة زوجها أو أيّ قريب لها من أرحامها وجيرانها. والله تعالى يريد للإنسان أن يمتنع عن ذلك كله، ليعطي كلّ ذي حقّ حقه، «عامل الناس بما تحبّ أن يعاملوك به»، هل تحبّ أن يسبّك الناس أو أن يسيئوا إلى كرامتك أو يشهّروا بك؟ إذا كنت لا ترضى ذلك لنفسك، فلماذا ترضاه للناس؟
صنع الظالمين:
ورد عن الإمام عليّ (عليه السلام) في وصيته لولده الحسن (عليه السلام): «يا بنيّ، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها». إن الإسلام يريد منك أن تكون أنت الآخر، بحيث تتقمّص شخصيّته، كما لو كنت أنت هو وهو أنت.
وقد ورد عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «من مشى مع ظالم ـ أي ساعده في ظلمه ومشاريعه ـ فقد أجرم». ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أعان ظالماَ على ظلمه، جاء يوم القيامة وعلى جبهته مكتوب: آيس من رحمة الله». وفي حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام»، لأن الإسلام ليس صلاة وصوماً فقط، بل هو حركة عدل مع الناس ومع الحياة. وعن الإمام الرضا (عليه السلام): «من أعان ظالماً فهو ظالم، ومن خذل ظالماً فهو عادل»، وفي الحديث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أعان ظالماً سلّطه الله عليه»، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «العامل بالظلم والمعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم».
وفي الجانب الآخر، عليك أن تكون مع المظلوم ضدَّ الظالم، وهي آخر وصية للإمام عليّ (عليه السلام) لولديه الحسنين (عليه السلام) وكلّ من بلغه كتابه: «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً»، وعن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أخذ للمظلوم من الظالم كان معي في الجنة مصاحباً»، وعن الإمام عليّ (عليه السلام): «أحسن العدل نصرة المظلوم». ونقرأ مع الإمام زين العابدين (عليه السلام): «اللهم إني اعتذر إليك من مظلوم ظُلم في حضرتي ولم أنصره».
إن الإسلام يفرض على الإنسان ـ بحسب قدرته وموقعه ـ أن يكون قوة للمظلوم ضد الظالمين، وأن يكون ممن ينشر العدل، فيعدل مع نفسه ومع ربه ومع الناس من حوله، لأن ذلك هو الذي يقرّب الإنسان من الله ويرفع درجته عنده، (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق