يقول الإمام زين العابدين (عليه السلام): «وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي دَلَّنَا عَلَى التَّوْبَةِ الَّتِي لَمْ نُفِدْهَا إلاّ مِنْ فَضْلِهِ، فَلَوْ لَمْ نَعْتَدِدْ مِنْ فَضْلِهِ إلّا بِهَا لَقَدْ حَسُنَ بَلاؤُهُ عِنْدَنَا، وَجَلَّ إحْسَانُهُ إلَيْنَا، وَجَسُمَ فَضْلُهُ عَلَيْنَا، فَمَا هكذا كَانَتْ سُنَّتُهُ فِي التَّوْبَةِ لِمَنْ كَانَ قَبْلَنَا. لَقَدْ وَضَعَ عَنَّا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَلَمْ يُكَلِّفْنَا إلّا وُسْعاً، وَلَمْ يُجَشِّمْنَا إلّا يُسْراً، وَلَمْ يَدَعْ لأحَـدٍ مِنَّا حُجَّةً وَلاَ عُذْراً، فَالْهَالِكُ مِنَّا مَنْ هَلَكَ عَلَيْهِ، والسَّعيد مِنَّا مَنْ رَغِبَ إلَيْهِ».
يتحدَّث (عليه السلام) في هذا الدُّعاء عن قيمة التوبة وأهميتها، كوسيلةٍ جعلها الله تعالى رحمةً لعباده المذنبين العاصين، وطريقاً كي يرجع العباد إلى ربّهم بعد أن حاصرتهم الخطايا، ووقعوا في مطبَّاتها، كما أنّ التوبة طريق خلاصنا من عقدة الذنوب والمعاصي، كي نعود عباداً صالحين مهتدين إلى الخير والفلاح.
والله تعالى برحمته ترك خطَّ التوبة والإنابة إليه مفتوحاً في أيِّ وقت، فضلاً منه وتكرّماً على عباده، كي يتعرَّفوا إلى مواطن رحمة الله التي لا حدَّ لها حتى مع العاصين والمعتدين على حدوده، فالحمد له أن أوضح لنا الطريق، ودلَّنا على معرفة التوبة سبيلاً لرحمته، وعوداً إلى الاستقامة على شرعته.
وينتقل الإمام (عليه السلام) في هذا الدُّعاء إلى الكلام عن تمام النِّعمة الربّانية على عباده، حيث لم يثقل عليهم، ولم يكلِّفهم ما لا يستطيعون، وجعل التكاليف متحركةً في دائرة اليسر والسعة والسهولة.
فالله تعالى لم يشُق علينا بالأفعال والطاعات إلّا في حدود قدراتنا الطبيعية التي وهبها لنا، ومَن يسلك طريق الله ويمشِ في طاعته، يعرف كم هي اللذّة الروحية والراحة النفسية والانبساط الشعوري الرائع، والمرونة العقلية المنفتحة التي يحصِّلها، جرّاء ما دعانا الله إليه من الذكر والخشوع والتأمّل والعبادة الخالصة لله وحده.
يقول سبحانه وتعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) (الشورى/ 25)، وهكذا كانت التوبة سبيلاً لتصحيح المسار وإصلاح الذات وتقويم الانحراف، للعودة إلى خطّ الاستقامة، ولولا دلالة الله لنا عليها، وقبوله لنا، وغفرانه لذنوبنا من خلالها، وإبعادنا عن اليأس من رحمته، لكنَّا من الهالكين المتخبِّطين دائماً في وحول الخطيئة وفقدان الروح وقسوة اليأس، وتلك هي النِّعمة الكبرى التي لابدّ لنا من أن نحمد الله عليها، ونقدِّم إليه الشكر عليها. ووضع عنّا ما لا طاقة لنا به، ولم يكلّفنا إلّا ما تتَّسع له قدراتنا العادية، ولم يجشّمنا إلّا ما كان يسراً من الأعمال والمواقف، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف/ 157). ولهذا لم يبقَ لأحدٍ من المسلمين من أتباع النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) حجّة ولا عذر في الابتعاد عن الطاعة، من خلال طبيعة التكاليف المتحركة في دائرة اليسر والسعة والسهولة.
وما دامت التوبة فرصةً أمامنا للعودة الحقيقية إلى الله، فلنُبادر إليها بكلِّ وعيٍ وقوّةٍ وشجاعةٍ ومسؤولية، كي نعيد تصويب حركتنا ومواقفنا وسلوكياتنا على أساس رضا الله ومحبّته. إنّ التوبة بابٌ مفتوحٌ على رحمة الله، فلنستثمر طاقاتنا في ولوج هذا الباب، ففيه كلّ الخير والسلامة والسعادة والفلاح في الدنيا وفي الآخرة.
كيف تتحقَّق التوبة؟
كيف تتحقَّق التوبة؛ هل يكتفي الله من عباده بأن يعلنوا التوبة حتى يحظوا بها؟ نعم، باب التوبة مفتوح لمن يريد، لكنّ لذلك مقدّمات ذاتية.
أوّلها الاعتراف وترك المكابرة، بأن يؤكِّد المرء لنفسه أنّه عصى الله، وأنّه أساء في علاقته معه، ثمّ يندم ويستنكر فعلته، ويشعر بأنّه ما كان ينبغي أن يبادل الله بالعصيان. وبعدها، عليه أن يصلح ما بدر منه وما اقترفته يداه تجاه الخالق وتجاه المخلوق.
آليات التوبة:
ـ الندم على ما مضى.
ـ العزم على ترك العود إليه أبداً.
ـ أن تؤدّي إلى المخلوقين حقّهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة.
ـ أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها.
ـ أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.
والتوبة حتى تكون شاملةً، لابدّ من أن لا تقف عند حدود الذنوب المتعارفة ممّا اعتدناه من ترك الواجبات والإتيان بالمحرّمات، بل تشمل أيضاً التقصير في أداء المسؤوليات العامّة.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق