• ١٦ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٧ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رحلة السلام إلى بيت الله الحرام

عمار كاظم

رحلة السلام إلى بيت الله الحرام

إنّ بيت الله الحرام هو أوّل بيت وضع للناس كافّة، من أجل قيام الناس، ومن أجل النهضة العامّة، والمصالح العامّة لكلّ الناس. ولهذا فإنّ رحلة الحجّ.. رحلة يستشعر فيها الحاجّ قيمة الأمن في نفسه.. وفي مجتمعه.. ومع بارئه الذي جعل له هذه البقاع المقدّسة بقاعاً آمنة، تطمئن فيها نفسه، وتأمن غضب خالقها برجاء عفوه، واستشعار رحمته والدخول في حمايته، فيعود الحاجّ وهو مهيّأ للتوبة.. مستعد للصلاح. إنّ الحاج يجد في شعائر الحجّ ومناسكه، تربية عبادية على احترام الحياة، يمارسها الإنسان ويستشعرها في ربوع البلد الآمن.. فجعل البيت الحرام، والبلد الحرام (مكّة) مثابة للناس، وأمناً تفزع إليه النفوس الخائفة، وتطمئن بجواره القلوب التي اعتراها الخوف فأفقدها لذّة الحياة. يقول تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش/ 3 ـ 4)، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) (البقرة/ 126). وما أجمل تشخيص الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) لهذه الحقيقة وهو يخاطب الحاجّ بقوله: «وأدخل في أمان الله، وكنفه وستره، وكلاءته من متابعة مرادك بدخول الحرم، ودخول البيت متحقّقاً لتعظيم صاحبه، ومعرفة جلاله وسلطانه».

وبالإضافة إلى كونه منهجاً تربوياً يغرس في نفس المسلم المشاعر الإنسانية العالية، والأخلاق الحميدة الفاضلة، فهو أيضاً لقاء يكتسب منه المسلم ثقافة اجتماعية، وفوائد مسلكية، ومنافع مادّية قد تنجر عنها بركة عظيمة، وفوائد جمّة لشعوب إسلامية بكاملها. فالحجّ، ذلك المؤتمر الإسلامي الكبير، والتظاهرة الإيمانية الرائعة التي تشترك فيها صنوف متعدّدة من الأجناس، والفئات والطبقات، والقوميات على موعد واحد، وفي أرض واحدة، يردّدون هتافاً واحداً، ويمارسون شعاراً واحداً، ويتّجهون لغاية واحدة، وهي الإعلان عن العبودية والولاء لله وحده، والتحرّر من كلّ آثار الشرك والجاهلية، بطريقة جماعية حركية، تؤثر في النفس، وتشبع المشاعر والأحاسيس بمستوحيات الإيمان، ومداليل التوحيد. والحجّ كما صرّح القرآن الكريم، والأحاديث الشريفة إلى جانب كونه عبادة وتقرّباً إلى الله سبحانه، فإنّ فيه منافع اجتماعية، وفوائد ثقافية، واقتصادية، وسياسية، وتربوية، تساهم في بناء المجتمع الإسلامي، وتزيد في وعيه وتوجيهه، وتساهم في حلّ مشاكله، وتنشيط مسيرته. وبما أنّ الوحدة هي الكفيلة لحفظ كيان الأُمّة وتماسكها، وترسيخ وجودها، وتثبيت أقدامها.. وبأنّ التوحّد والترابط، والتآلف والتماسك، هي مصدر القوّة والغلبة. فإنّ الحجّ أفضل مكان لتعارف الشعوب الإسلامية، حيث يتعرّف المسلمون على إخوانهم في الدِّين من شتّى أنحاء العالم، ويتلقون مع بعضهم في البيت الذي به كلّ المجتمعات الإسلامية.

وهكذا نجد بعد هذا انّ الحج، دورة تدريبية كبرى للبشرية لتدريبها على العمل بأوامر الله، والتخلق بأخلاقه، والتصديق بكلمته، والسير على منهج أنبيائه، وإحراز الأرباح في متجر عبادته. يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «وفَرَضَ عليكم حَجَّ بيتِهِ الحَرَامِ، الذي جعلَهُ قِبلَةً للأنامِ، يَرِدُونَهُ وُرُودَ الأنعامِ، ويأْلهُونَ إليه وُلُوهَ الحَمَامِ. جعلَهُ سبحانهُ علامةً لتواضُعِهم لعظمتِهِ، وإذعَانِهم لعزَّتِهِ. واختارَ من خَلقِهِ سُمّاعاً أجابُوا إليه دعوتَهُ، وصَدَّقُوا كلمتَهُ، ووَقفُوا مواقِفَ أنبيائِهِ، وتَشَبَّهُوا بملائكتِهِ المُطيفين بعرشِهِ، يُحرِزُونَ الأرباحَ في مَتجَرِ عبادتِهِ، ويتبادرون عنده موعِدَ مغفرتِهِ. جعلَهُ سبحانه للإسلامِ عَلَماً، وللعائذين حَرَماً. فَرَضَ حَجَّهُ، وأوجَبَ حقَّهُ، وكَتَبَ عليكم وِفَادَتَهُ، فقال سبحانه: (وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران/ 97)».

ارسال التعليق

Top