أراد الله لكلّ المسلمين، حجّاجاً وغير حجّاج، أن يتزوَّدوا من هذه الأيام المباركة. ومن هنا، جعل الله إحياء يوم عرفة التي تعتبر محطّة هي الأبرز من نوعها، حيث يقف الحجيج على صعيد عرفات، بدءاً من زوال يوم التاسع من ذي الحجة، وحتى غروب الشمس. وهنا، يصل الحجيج إلى قمّة العشق الإلهي، وهنا، تعجُّ الأصواتُ الضارعة إلى الله، المعترفة بالذنوب، التائبة المنيبة إلى ربِّها. «فإذا وقفوا في عرفات، وضجَّت الأصوات بالحاجاتِ، باهى الله بهم الملائكةَ سبع سمواتٍ، ويقول: يا ملائكتي وسكّانَ سمواتي، أما ترون إلى عبادي أتوني من كلّ فجٍّ عميق، شُعثاً، غبْرًا، قد أنفقوا الأموالَ، وأتعبوا الأبدان، فوعزتي وجلالي، لأهبنَّ مُسيئهم بمحسنهم، ولأخرجنّهم من الذنوبِ كيوم ولدتهم أُمّهاتهم».
عن الإمام علي بن الحسين (علیه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لبلال حين همّت الشمس أن تغرب ـ يعني في يوم عرفة ـ: يا بلال، قل للناس فلينصتوا، فلمّا أنصتوا، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ ربَّكم تطوَّل عليكم في هذا اليوم، فغفر لمُحسنكم، وشفع لمُحسنكم في مُسيئكم، فافيضوا مغفوراً لكم». وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أنّه قال: «أعظم أهل عرفات جُرماً، مَن انصرف وهو يظنّ أنّه لم يُغفر له»، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «من الذنوب لا تغفر إلّا بعرفات».
وإذا غربت الشمسُ من يوم عرفة، أفاض الحجيج إلى المزدلفة، ذاكرين الله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) (البقرة/ 198). في هذه القطعة من الأرض ـ وهي قطعة من حرم الله ـ يعيش الحجّاج ليلة تأمُّلٍ وتبتّل وتهجُّد وتضرُّع ودعاء. وفي هذه القطعة، يبدأ الاستعداد والتهيّؤ لمواجهة الشيطان، بالتقاط عددٍ من الحصيات، وفي هذه البقعة، تصبُّ الرحمة على العباد. سأل رجل الإمام الصادق (علیه السلام) في المسجد الحرام: «مَن أعظم الناس وزراً؟»، فقال (علیه السلام): «مَن يقف بهذين الموقفين عرفة ومزدلفة، وسعى بين هذين الجبلين، ثمّ طاف بهذا البيت، وصلَّى خلف مقام إبراهيم، ثمّ قال وظنَّ في نفسه أنّ الله لم يغفر له، فهو من أعظم الناس وزراً».
وإذا أشرقت شمس العاشر من ذي الحجة ـ يوم الأضحى ـ تحرّك الحجيج إلى (منى)، مكبِّرين ومهلِّلين وضارعين إلى الله، متمنِّين الخيرات والبركات والفيوضات الربانية.
في منى، يمارس الحجّاج ـ يوم عيد الأضحى ـ ثلاثة أعمال: يرمون جمرة العقبة بسبع حصياتٍ، معبِّرين عن مواجهة الشيطان، ومستذكرين موقف نبيّ اللهِ إبراهيم (عليه السلام)، حينما أخذ ابنه إسماعيل ليذبحه امتثالاً لأمر الله تعالى، فاعترضه الشيطان في موقع العقبة، فقذفه إبراهيم بحصاة وأُخرى، حتى أكمل سبعاً، ومضى (عليه السلام) مصمِّماً على تنفيذ الأمر الإلهيّ، فأصبح الرمي سنَّةً تعبِّر عن التحدِّي والإصرار في مواجهة الشيطان، وكلّ رموز الشيطان في الأرض. والعمل الثاني في منى (ذبح الهدي)، في تعبير رمزي عن استعداد للتضحية والفداء من أجل الله، ومن أجل المبادئ الحقّة، مهما كان الثمن كبيراً وغالياً ومكلّفاً، ثمّ يحلق الحجاج أو يقصرون، متخلِّصين من كلِّ الأوساخ والتلوثات الروحية.
وبذلك، يتحلَّل الحاجّ من كلِّ محرَّمات الإحرام، ما عدا الطيب والنساء والصيد، ثمّ يقفلون راجعين إلى بيت الله، ليؤدُّوا طواف الزيارة، مؤكِّدين هوية الانتماء إلى خطّ التوحيد، فإذا طافوا وسعوا، وطافوا طواف النساء، حلَّ لهم الطيب والنساء. وأمّا صيد الحرم، فهو محرَّم لكلِّ مَن يكون في الحرم، محرماً كان أو محلاً، لقدسية هذه الأرض المشرَّفة. وفي ليالي التشريق، يبيت الحجّاج في منى، عابدين الله، متضرّعين، شاكرين، حامدين، فليالي التشريق ـ ليلة الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر ـ هي ليالي عبادة، وليالي تقويم ومراجعة ومحاسبة... وفي نهار هذه الأيّام، يمارس الحجّاج رمي الجمار، بدءاً من الجمرة الصغرى، وانتهاءً بجمرة العقبة، في جولة جديدة في مواجهة الشيطان، لتأكيد استمرار التصدِّي لكلّ غوايات الشيطان وضلالاته وإغراءاته. ولعلّ جعل الرمي آخر عمل يمارسه الحجّاج قبل الإفاضة، يحمل دلالةً كبيرة على أنّ المعركة مع الشيطان مستمرّة ودائمة، فيجب أن يكون الإنسان المؤمن معبَّأ إيمانياً وثقافياً وروحياً وجهادياً في كلِّ الأوقات، وفي كلِّ الظروف، لمواجهة أعباء هذه المعركة الصعبة، فالانتصار على الشيطان بحاجة إلى استعداد دائم.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق