يقول الله سبحانه وتعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/ 21). أرسل الله رسوله رحمةً للعالمين، وأراد للناس أن يعيشوا هذه الرحمة المتجسِّدة في شخص النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليجدوا فيه رحمة العقل، لأنّ كلَّ ما يصدر عن عقل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يمثِّل الرحمة للناس في كلّ ما يحتاجون إلى التفكير فيه، ممّا يخطِّطون له في شؤون حياتهم العامّة والخاصّة، لأنّ الفكر قد يكون رحمةً وقد يكون نقمة.
وهكذا أراد الله تعالى للناس أن يروا في رسول الله الرحمة في قلبه، لأنّ القلب هو مركز الإحساس والشعور، فقد يعيش الإنسان الإحساس بالحقد والعداوة والبغضاء، كالكثيرين من الناس الذين لا ينفتحون على إنسانيّتهم بالانفتاح على إنسانية الناس من حولهم، فيحملون الحقد والعداوة والبغضاء لهم، فتكون أحاسيسهم ومشاعرهم نقمةً على الناس، لأنّها توزِّع المشاعر التي تفصل الناس بعضهم عن بعض، وتؤدِّي إلى الكثير من التقاطع ومن الأوضاع السلبية، بينما الإنسان الذي يعيش الإحساس بالحبّ، ينفتح على الناس كافة، لأنّ الإنسان الذي ينبض قلبه بالحبّ للناس، هو الذي لا يشعر بوجود حاجزٍ بينه وبين الآخرين، لأنّه يحبّ الذي يتّفق معه في الرأي من أجل أن يتعاون معه في ما اتّفقا عليه، ويحبّ مَن يختلف معه بالانفتاح عليه والتحاور معه في الأُمور التي يختلف فيه معه، لأنّ الحوار يؤدِّي إلى الوحدة أو التقارب في الموقف.
فالإنسان المؤمن هو الذي يعيش مسؤولية هداية الناس من حوله، والله تعالى كما أراد للإنسان أن يهتدي، أراد له أن يهدي (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (آل عمران/ 104).
لذلك، فالحبّ هو الذي يجمع الناس على الخير والحوار، وعلى تجربة الوصول إلى الحقيقة، وهكذا كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمةً في طاقاته، فطاقاته هي طاقات الحقّ وطاقات العدل وطاقات الخير، وقد حدّثنا الله تعالى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصفة البارزة من شخصيّته في قوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4)، فالله يعظِّم رسوله بتعظيم خُلُقه، وهذا يعني أنّ عظمة أخلاق النبيّ وصلت إلى حدّ بحيث إنّ الله يعظِّم أخلاقه، فهذه مرتبة عظيمة جدّاً، وهي توحي لنا أنّ كلّ أخلاق النبيّ في كلّ تنوّعاتها قد بلغت القمّة في مراقي العظمة، في صدقه وأمانته وعفته، وفي عطائه وكرمه وإقباله على الناس في رعايته لهم وفي رأفته بهم ورحمته لهم، فهو الذي يمثّل العظمة التي هي قمّة الأخلاق.
ويفصِّل الله سبحانه وتعالى لنا أخلاق رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض ما كان يعيشه مع الناس: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) (آل عمران/ 159)، يعني أنّ الله رحمهم بما أعطاك من هذا اللّين ومن هذه الرقّة، (لِنتَ لَهُمْ) (آل عمران/ 159)، أي كان قلبك ليّناً، ولين القلب يعني رقّته، ورقة القلب تجعلك تنفتح على الآخرين في مآسيهم وآلامهم ومشاكلهم، لأنّ القلب الرقيق هو الذي ينفعل ويتأثّر بما يعيشه الناس في مآسيهم وآلامهم ومشاكلهم، كذلك لين اللسان الذي يجعل الإنسان لا يتكلّم مع أعدائه وأصدقائه إلّا بالكلام اللين.
والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن غليظاً في لسانه ولا قاسياً في كلماته، لأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) من خلال ما أفاض الله عليه من رحمته، يعرف أنّ الكلمة الرقيقة الحلوة الهيّنة الليّنة تنفذ إلى القلب لتفتحه على ما يريد أن يجذبه إليه، (وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران/ 159)، بينما الكلمة الغليظة الخشنة القاسية تغلق القلب. ولذلك، كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في خلقه العظيم ليّن القلب، وكان إلى جانب ذلك رقيق اللسان، وهذا هو سرّ اجتماع الناس حوله، وسرّ انجذاب الناس إليه وقبولهم دعوته.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق