• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المجتمع بين الضبط والتوجيه

أ. د. عبدالكريم بكار

المجتمع بين الضبط والتوجيه

◄الحالة الاجتماعية الناجزة نتاج عاملين، هما: التجانس الثقافي والرقابة الاجتماعية.

والتجانس الثقافي هو حصيلة كلّ أشكال التنشئة الاجتماعية ومضامينها. أما الرقابة الاجتماعية فهي: مجموعة الأنظمة والمعايير والأعراف والتقاليد التي تجعل السلوك الاجتماعي العام يبدو متجانساً ومنسجماً.

والأصل في المجتمع المسلم أن يؤمّن استقراره وتجانسه وتضامنه الروحي عن طريق تجانسه الثقافي، وما يتمتع به من مؤسسات وسيطة، وما تجذر في قلوب أبنائه من حبهم لمجتمعهم ورغبتهم في الاندماج فيه.

أمّا العقوبات والجزاءات وأشكال النبذ الاجتماعي؛ فهي لا توجّه في العادة إلّا إلى أولئك الذين حرموا من تنشئة اجتماعية سوية، وأولئك الذين لم يستطيعوا الاندماج الطوعي في المجتمع وتمثل قيمه ومعاييره، وإلى ذوي الظروف الخاصّة.

وحين تعجز الأنظمة الاجتماعية عن مطابقة سلوك الأفراد مع القيم الاجتماعية السائدة، فإنّ ذلك يدل على وجود نوع أو أنواع من الخلل الخطير في الحياة الاجتماعية. وإنّ كثيراً من المجتمعات لا تهتم بالأمر؛ فلا تفكر في تفعيل التربية، ولا تعيد النظر في وسائل الضبط الاجتماعي لديها...

وهذه المجتمعات لا تستحق أن تسمى مجتمعات؛ فهي إمّا تجمعات لم يكتمل تكوينها بعد، وإمّا مجتمعات متكاملة آخذة في طريقها إلى التحلل؛ لكن الكلام هنا ليس على ذلك؛ وإنما على ما يجري في كثير من الأحيان من توجه اهتمام كثير من المجتمعات إلى الاهتمام بالتربية والتوجيه مع ترك الحبل على الغارب وإفساح المجال للحرِّية الشخصية إلى أبعد حد؛ وما تفعله بعض المجتمعات من الاتجاه إلى إصلاح شأنها من خلال تغيير النظم واستخدام القمع؛ فتبقى المدارس على حالها؛ لكن يجري التوسع في إقامة السجون وتشديد الرقابة على الناس. وتسود المجتمع آنذاك حالة من التوتر الشديد فيما يشبه الحرب الباردة.

والوسطية الإسلامية في هذا الشأن تقوم على ضرورة توسيع العمل فكلّ ما يؤدي إلى بلورة (العقائد الأساسية) في أذهان أبناء المجتمع وإشاعة القيّم الخيّرة والتضحية في سبيل إبرازها على هيئة نماذج حية يقتدي بها الناس.

ويتم إلى جانب ذلك استخدام العقوبات الصارمة ضد كلّ مَن يجاهر في القيام بأعمال من شأنها تهديد السلامة العامّة للمجتمع، أو يرتكب أعمالاً شنيعة من شأنها تفويض الأسس العقدية والأخلاقية للبنيان الاجتماعي.

ورؤية الإسلام لاستخدام الجانب التروي والتوجيهي في المحافظة على المجتمع الإسلامي بشكل مكثّف وقوي تنبع من ثقته بالفطرة وبالإنسان وبالأثر البالغ للتربية والتنشئة الصالحة في استقامة الناس.

أمّا قضية العقوبات والنبذ والرقابة الاجتماعية فإنّها تشكل الشق الثاني للرؤية؛ فالحدود والعقوبات والتعزيرات الجزائية لا تنشئ مجتمعاً؛ لكنها تحميه، وتصونه من عبث العابثين. فلا جدوى كبيرة للعقوبات الصارمة دون تربية قويمة وظروف طيبة صالحة لإقامة مجتمع الخير. كما أنّ التوجيه وحده لا يجدي مع فئات الشاذين والمجرمين وقُطاع الطرق، فلابدّ من الحسم والعزم. وقد شرعت دول عديدة – منها أمريكا – في تطبيق عقوبة الإعدام بعد أن كانت تشنع على المسلمين استخدامها، حين وجدت أنّ التوجيه وحده لا يضمن سلامة المجتمع.

وهذه المعادلة التي ذكرناها واضحة جدّاً في القرآن الكريم؛ فالمساحات التي احتلها الحديث عن العقوبات فيه لا تساوي إلّا جزءاً يسيراً منه. وأكثر القرآن الكريم توجيه وصقل لنفس المسلم وعقله وتنمية نوازع الخير فيه مع الترغيب والترهيب وقص أخبار السابقين...

من سمات المجتمع الذي نتطلع إليه أنّه مجتمع قادر على القيام بشؤونه دون تدخل كبير من الدولة لمساعدته وحل مشكلاته. فالمجتمع الإسلامي يعرف فيه الناس حقوقهم وحقوق غيرهم، كما يعرفون الواجبات الملقاة على كواهلهم؛ ومن ثمّ فالأصل أنّه مجتمع محدود المشكلات، وتربية الفرد فيه ليست مكلفة؛ ثمّ إنّ هذا المجتمع لما يملكه من روح المبادرة إلى الخير والفعالية الروحية والاجتماعية قادر على تنظيم كثير من شؤونه وإقامة المؤسسات التي تخدم أبناءه. فمن خلال أعمال الوقف والبر والإحسان يبني المساجد والمدارس والكليات والمكتبات والمشافي ودور كفالة الأيتام وكبار السن، كما أنّه يقوم بحل نزاعاته بالطرق الودية الأهلية دون حاجة كبيرة إلى القضاء.

ويقوم المجتمع الإسلامي عن طريق المشاركة الفعّالة من أبنائه بالمساهمة في إشادة المرافق العامّة التي يستفيد منها الجمهور العريض كما يقوم بحمايتها والمحافظة عليها. ومع أنّ كلّ هذه الأمور نسبية إلّا أنّها تظل مؤشراً حيّاً على مدى الخيرية والفاعلية التي يتمتع بها المجتمع المسلم.

وحين يفعل المجتمع ذلك فإنّه يحل إشكالات كثيرة؛ إذ تتسع فيه مساحات العمل الطوعي المجاني لحساب تفرغ الدولة للقضايا الكبرى التي تعجز المؤسسات الاجتماعية عن مباشرتها.

أمّا حين يكون المجتمع مادّياً بعيداً عن هدي السماء وغير مكتمل النضج؛ فإنّه يصبح كَلَّاً على الدولة، يريد منها أن تفعل كلّ شيء! وذلك إن تحقق يحمل الدولة أعباء كثيرة تثقل كاهلها، ويجعل تدخلها في حياة الناس أكثر وروداً، مما يثير النزاع والمشاكسة والتوتر في الحياة العامة.

إنّ من أهم مشكلات المجتمعات النامية أنّ الإنتاجية فيها ضعيفة، فحركة الفكر واليد فيها بطيئة. ومردود أعمالها متواضع، ومقدرتها على إنتاج المصنوعات والتقنيات المتقدمة والمعقدة محدودة جدّاً. وهذا جعل الفقر والحاجة سمة أساسية من سماتها.

والحقيقة التي ليست موضع جدال أنّ ندرة السلع والخدمات في المجتمعات الإسلامية تظل مصدراً من مصادر التبعية والتوترات الداخلية، كما أنّها تجعل تأهيل المسلم وتدريبه ليعيش عصره، ويسهم في تطويره بفاعلية عسيراً ومحدوداً؛ ومن ثمّ فإنّ من أهم ما على المجتمعات الإسلامية أن توفره لأبنائها القيام بتدريبهم وصقل فاعليتهم ليضاعفوا إنتاجهم؛ ويرفعوا من سويته؛ حتى نتمكن من تحقيق الكفاية؛ وحتى نتمكن من البذل في سبيل نشر الدعوة، والتمكين للإسلام في الأرض. وإنّ فهم العصر الذي نعيش فيه ثمّ محاولة تسخير طاقاته وإمكاناته والتحكم في توجهاته، كلّ ذلك رهن بأن نكون على مستوى هذا العصر في إنتاج أفكاره وآلاته وخدماته وتصديرها واستهلاكها على نحو متميز. ولن نستطيع أن نكون شهداء على الناس، وأيدي الجياع من أبنائنا ممدودة لاستجداء العالم شرقاً وغرباً!.

وإنّ هناك أمرين عظيمي الفائدة في باب رفع الكفاءة الإنتاجية، هما استغلال الوقت على النحو الأكمل، والثاني: إعداد المسلم وتدريبه وتأهيله ليمارس عملاً جيِّداً يكون مردود إنتاجيته عالياً يعود عليه وعلى أُمّته.

والأوّل متاح لكلّ الناس. والثاني يحتاج توفيره إلى إمكانات، وقبلها إلى اهتمام. وعلى الله قصد السبيل. ►

 

المصدر: كتاب من أجل انطلاقة حضارية شاملة

ارسال التعليق

Top