• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

منزلة صلة الرحم في سلّم الواجبات والحقوق

عمار كاظم

منزلة صلة الرحم في سلّم الواجبات والحقوق

أمر الله سبحانه وتعالى بصلة الأرحام والتواصل بين الأقارب فقال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُوراً) (النساء/ 36). وصلة الرحم معناها مبرَّة الأهل والأقارب كالأخ والأخت والخال وأبنائهم وذلك بإظهار المودة نحوهم مما يؤدي إلى ترابط الأسرة وتقوية معنوياتها. فإذا تآلفت الأسر وتماسكت، عَمّها الحب والإخاء؛ فقويت شوكتُها لأنّ أبناءها متعاونين، متآخين، متراحمين معاطفين. والروايات التي تشدِّد على النتائج التي تترتب على الالتزام بهذه القيمة كثيرة، حيث ورد في الحديث عن رسول الله: «أعجل الخير ثواباً صلة الرحم». وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّ المرء ليصل رحمه وما بقي من عمره إلّا ثلاثة أيام، فينسئه الله عزّوجلّ ثلاثين سنة، وإنّ الرّجل ليقطع الرَّحم وقد بقي من عمره ثلاثون سنة، فيصيِّره الله إلى ثلاثة أيام».

إنّ صلة الرحم والبرّ يهوّنان الحساب ويعصمان من الذنوب، وفي المقابل: «إنّ الرّحمة لا تنزل على قومٍ فيهم قاطع رحم»، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أعوذ بالله من الذّنوب التي تعجّل الفناء». فقيل له: أويكون ذنوب تعجّل الفناء؟ قال: «نعم، ويلك، قطيعة الرّحم». وقد ورد في الحديث: «ما من ذنبٍ أجدر أن يعجّل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدُّنيا، مع ما يدّخر له في الآخرة، من قطيعة الرّحم والخيانة والكذب». وهذا التّأكيد لم يقف عند الرحم المسلم أو الملتزم بأصول المذهب، فالصّلة مطلوبة حتى لو لم يكن على ذلك. فقد جاء رجل إلى الإمام الصادق (علیه السلام) قال له: يكون لي القرابة على غير أمري، ألهم عليّ حقّ؟ قال: «نعم، حقّ الرّحم لا يقطعه شيء، وإذا كانوا على أمرك، كان لهم حقّان: حقّ الرّحم، وحقّ الإسلام».

والصّلة هذه لا تقف عند حدود المكان الذي تتواجد فيه، فلابدّ من أن تصل أرحامك حتى لو كانوا بعيدين عنك، فمن واجبك أن تسعى للوصول إليهم. إنّ قريبك جزءٌ منك، مَنسوبٌ إليك مُتّصلٌ بك رغِبتَ أم لم تَرغَب. له عليك حقوقٌ، وعليه اتجاهك واجبات. إنّ من حقّ القريب على قريبه أن يساعده بماله إذا افتقر فيمدّ له يد العون وقت الحاجة؛ فيفرِّج عنه كُربَتَه وينفِّس عنه غمَّته. وإن كان هذا واجبه تجاه كلّ مسلم فهذا بالقريب أَوْلى وأجْدَر. قال تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) (الإسراء/ 26)؛ والمعنى إعطِ أيها الإنسان المكلَّف القريب الذي لك صلة قَرابة به، إعطه من الودِّ، والزيارة، وحُسنِ المعاشرة والنفقة إن كان محتاجاً إليها. وإذا كان الخطاب موجّهاً للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنّ المراد به أمته من بعده. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «أمك وأباك فأدناك أدناك»، أو ثم الأقرب فالأقرب. والأمر الوارد في هذه الآية الكريمة: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ). من حقّ ذوي رَحِمك عليك الإحسان إليهم بقدر الطاقة والشفقة عليهم، وتقديم النُّصحِ لهم، وإفشاء السلام عليهم، وعيادة مرضاهم، والسؤال عنهم ومن كان ذا مال فأقاربه أولى الناس بصلته وبرِّه وصدقته. قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ) (البقرة/ 215)، والسؤال في الآية موجّهٌ إلى محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): يسألُكَ أصحابُكَ يا محمّد عن مقدار ما يُنفقون نفقة تطوُّع وليس الزكاة الواجبة، وعن بيان الجهة أو المصرف التي يُنفِقون فيها؟ فأجابهم إنّ أي مقدار تنفقونه قليلاً كان أو كثيراً فهو خير، وأنّ جهات الإنفاق إعطاء الوالدين (الأب والأُم) والأولاد لأنّهم قرابة قريبة ثمّ بقية الأقارب للأقرب فالأقرب. مع التأكيد هنا أنّ الصدقة المُقدّمة والمقصود منها أنّها ليست من الزكاة المفروضة بل هي صدقة تطوّع ولأنّ أموال الزكاة الواجبة لا تجوز إنفاقها على الأصول والفروع. قد لا يكون المسلم غنياً قادراً على الإنفاق فلتكن صلته لرحمه بالزيارة إليهم وإلقاء السلام عليهم والسؤال عنهم لجلب محبتهم وتوثيق الصلة بهم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «صِلُوا أرحامَكُم ولو بالسلام». ومن حقوق الرحم النصيحة والإرشاد للخير والأمر بالصلاة قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه/ 132). وصلة الرحم تسبب سعة الرزق كما أنها تسبب البركة في العمر. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَن سَرَّهُ أن يُبْسَطَ له في رزقه ويُنْسَأُ له في أثرِهِ فليَصِل رَحِمَهُ»، إنّ صلة الرحم ومساعدة الأهل والدفاع عنهم بالحقّ والعدل أمر واجب، ولكن ليس من الخير ولا من البر أن يعين المسلم قريباً على شر أو يساعده على الهروب من حقّ. فالله سبحانه وتعالى يقول: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام/ 152). فحذار أن تُعين ابنكَ أو أخاكَ أو عشيرتَكَ على ظُلمٍ أو تَشهَد لهم بالباطل. وإذا كان الإسلام قد حبَّبَ إلينا صلة الرحم وحثَّنا على البرِّ بالأقارب وجعلَ ذلك من القُرُبات إليه. فإنّه نهى عن قطيعة الرحم وجعل ذلك من أسباب غضبِ الله عزّوجلّ وقد لعن الله سبحانه وتعالى المرء الذي يتكبّر على أهله ويقطع رحمه، قال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) (محمد/ 22). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «الرَّحمُ مُعلقةٌ بالعَرْشِ تَقول: مَن وَصَلَني وَصَلَهُ الله ومن قَطَعَني قَطَعَهُ الله»، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: «لا يدخلُ الجنةَ قاطِعُ»، أي قاطع رحم. لا ينبغي للمسلم أن يبادلَ أهلَهُ الإساءةَ بالإساءةِ وقطيعتَهُم بالقطيعة، لأنّه بذلك يرضى لنفسه ما عابَهُ عليهم وهو يستطيع أن يكسبَ قلوبَهم باستمرار الإحسان إليهم؛ فالشرُّ لا يَدفع الشرَّ. قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث قدسي فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: «أنا الله وأنا الرحمن، خلقتُ الرحمَ وشَقَقْتُ لها اسماً من اسمي، فمن وًصَلَها وَصَلْتُهُ ومن قَطَعَها قَطَعْتُه»، فَصِلُوا أرحامَكُم عبادَ الله وتوبوا إليه.

فلنؤسِّس، وانطلاقاً من هذا الشهر، لهذه العلاقة الرحمية، ولنستفد من بركات هذا الشهر التي لصلة الأرحام نصيب أساس منها، ولنتفقّد في هذا الشهر أرحامنا فرداً فرداً، وإذا كانت هناك مشاكل ساهمت في حصول قطيعة أو عداء، فلنبادر إلى حلّها، ولو كان في بعض الحالات على حسابنا. ونحن في ذلك لن نخسر، بل سنربح في الدُّنيا، عندما نربح هذه العلاقة التي نحن أحوج إليها، وسنربح الآخرة، وهي أهمّ ما نبلغه. وعلينا أن ندعو بما دعا به الإمام زين العابدين (عليه السلام): «اللّهمّ وَفِّقْنَا فِيهِ لِأَنْ نَصِلَ أَرْحَامَنَا بِالْبِرِّ وَالصِّلَةِ، وَأَنْ نَتَعَاهَدَ جِيرَانَنَا بِالْإِفْضَالِ وَالْعَطِيَّةِ، وأَنْ نُرَاجِعَ مَنْ هَاجَرَنَا، وَأَنْ نُنْصِفَ مَنْ ظَلَمَنَا، وَأَنْ نُسَالِمَ مَنْ عَادَانَا، وَأَنْ نَتَقَرَّبَ إِلَيْكَ فِيهِ مِنَ الأعْمَالِ الزَّاكِيَةِ بِمَا تُطَهِّرُنَا بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَتَعْصِمُنَا فِيهِ مِمَّا نَسْتَأْنِفُ مِنَ الْعُيُوبِ».

يكفينا من ذلك قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ومن وصل فيه رحمه، وصله الله برحمته يوم يلقاه»، رضواناً منه وجنّة عرضها السّماوات والأرض، فيما من قطع فيه رحمه، قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه.

ارسال التعليق

Top