عندما نريد أن نتحدّث عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، فإنّنا نتحدّث عن قمم الروح والفكر والجهاد والانفتاح على الواقع الإسلامي كلّه، من موقع القيادة والريادة والمسؤولية. والإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) عاش مرحلته في حركة العلم في جميع حاجات الناس آنذاك، وعندما ندرس حركته من خلال الذين تعلّموا منه ورووا عنه، فإنّنا نجد أنّ مدرسته كانت تتميز بالتنوّع في الذين أخذوا منها ما أخذوه من علم، فلم تكن مدرسةً مذهبية، بحيث تقتصر على الذين يلتزمون بإمامته، بل كان فيها مرجعاً لكلّ الناس الذين يتنوّعون في اهتماماتهم. وقد كان الإمام (عليه السلام) معنيّاً بأن يوجّه الناس إلى أن يسألوا عمّا جهلوه في مواقع مسؤولياتهم المعرفية كلّها، سواء فيما يجب أن يعتقدوه، أو فيما يجب أن يعيشوه من المفاهيم العامّة التي تحكم نظرتهم إلى الحياة وإلى الكون وإلى الواقع كلّه، وتصوّراتهم لله تعالى وللنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ولخطوط الإسلام الكبرى كلّها.
وعندما ننفذ إلى داخل حياة الإمام الكاظم (عليه السلام)، فإنّنا نقرأ في سيرته أنّه كان أحسن الناس صوتاً في القرآن، فكان إذا قرأ القرآن، يقرأه بالصوت الحسن الذي يخشع له السامعون، ولعلّ ذلك ينطلق من أنّ الصوت الحسن يعطي الكلمة تجسيداً، بحيث تملأ الكلمة القرآنية عقلك وقلبك، فتتعمّق فيك أكثر ممّا إذا قرأتها بشكلها الطبيعي العادي، ولذلك ورد في القرآن قوله تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا) (المزمل/ 4)، (وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) (الفرقان/ 32). وعندما يتحدّث المحدّثون عن عبادته وهو في السجن، فإنّهم يروون عن أحد سجّانيه قوله لشخص اسمه (عبدالله) قال: «دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح، فقال لي: أشرف على هذا البيت وانظر ما ترى؟ فقلت: ثوباً مطروحاً، فقال: انظر حسناً، فتأمّلت فقلت: رجل ساجد، فقال لي: تعرفه؟ هو موسى بن جعفر، أتفقّده الليل والنهار، فلم أجده في وقت من الأوقات إلّا على هذه الحالة؛ إنّه يصلّي الفجر، فيعقّب إلى أن تطلع الشمس، ثمّ يسجد، فلا يزال ساجداً حتى تزول الشمس، وقد وكّل مَن يترصّد أوقات الصلاة»، لأنّ البيت كما يبدو كان مظلماً «فإذا أخبره، وثب يصلّي من غير تجديد وضوء، وهو دأبه»، لأنّه يعرف أنّه لم ينم، «فإذا صلّى العتمة أفطر، ثمّ يجدّد الوضوء، ثمّ يسجد، فلا يزال يصلّي في جوف الليل حتى يطلع الفجر». وقال بعض عيونه: كنت أسمعه كثيراً يقول (عليه السلام) في دعائه: «اللّهُمّ إنّك تعلم أنّني كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك، اللّهُمّ وقد فعلت ولك الحمد». فكان يريد أن يعيش مع الله ليله ونهاره، وأن يناجيه ويبتهل إليه أن يتحدّث معه حديث الحبيب إلى حبيبه، وكانت أشغاله قد تحول بينه وبين ذلك، وإن كانت أشغاله عبادة متحرّكة مع الله، لكنّه أراد عبادة المناجاة وعبادة الروح وعبادة التفرّغ إلى الله من موقع القلب المفتوح عليه سبحانه وتعالى.
ختاماً، علينا عندما نتذكّره، أن نعيش فكره ومنهجهه في الحياة والدِّين، وأن نحوّل كثيراً من الخطوط التي خطّطها ليتحرّك الناس في خط الاستقامة إلى برامج عمل في حياتنا، وهذا هو معنى الولاء للإمامة، الذي هو ليس مجرّد دمعة على المأساة، ولا مجرّد فرح على الميلاد، بل هو الخطّ العملي الذي هو خطّ الإسلام الأصيل في مسيرة الإنسان إلى الله عزّوجلّ. وهذا هو سرّ الإمام الكاظم (عليه السلام)، ونحن نريد من كلّ الذين يثيرون ذكريات الأئمّة (عليهم السلام)، أن يربطوا الناس بالخطوط الفكرية والعملية التي انطلقوا بها في الحياة، لأنّ إمامتهم هي أن يكونوا أمامنا في مسيرة الإسلام التي تبدأ من الله وتنتهي إليه.مقالات ذات صلة
ارسال التعليق